فأجاب عليه السلام بأن حقيقة العبودية تتحقق بثلاثة أشياء :
1-أن لا يرى العبد فيما خوّله الله ملكاً ،لأن العبيد لا يكون لهم ملك ،يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم
الله به .
2-و لا يدبر العبد لنفسه تدبيراً .
3-وجملة اشتغاله فيما أمره الله به ونهاه عنه .
يرى الإمام الصادق عليه السلام أنه لا يمكن تحقيق مفهوم العبودية بدون هذه الأشياء الثلاثة ،وإلا تكون
العبودية ناقصة ولا تصعد إلى مرتبة كمال العبودية الحقة .
ولم يقتصر الإمام عليه السلام بذكر هذه المفردات فحسب بل أردفها بشرح النتائج والمعطيات من كل مفردة ، حيث قال موضحاً المعطى من المفردة الأولى :
1- فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله الله تعالى ملكاً ،هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه .
2- أما نتيجة ومعطى المفردة الثانية فيقول عليه السلام :وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره ،هان عليه
مصائب الدنيا .
3-وعن المعطى الثالث فيقول عليه السلام :
وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منها إلى المراء والمباهاة مع الناس .
ويضع الإمام عليه السلام اللمسات الأخيرة لهذا المطلب موضحاً ومبيناً أن من يرزقه الله تعالى التوفيق في تطبيق تلك الأشياء فإنه وصل إلى المرتبة الأولى من مراتب التقوى ، بمعنى أن من يحقق معنى العبودية الحقة فإن عاقبتهُ الوصول إلى أول درجة من درجات التقوى ، حيث يقول عليه السلام : فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا وإبليس والخلق ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلواً ولا يدع أيامه باطلاً فهذا أول درجة التقي قال الله – تبارك وتعالى :(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ،والعاقبة للمُتقين )
ويستثمر عنوان البصري فرصة هذا اللقاء الشيق والثمين للاستفادة أكثر وأكثر من الإمام الصادق، حيث يعلم أن هذه الفرصة لن تتكرر.
والفرص تمر مر السحاب والذكي والموفق من يستفيد منها.
فقال: يا أبا عبد الله أوصني؟
قال عليه السلام: أوصيك بتسعة أشياء، فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله-تعالى- والله أسأل أن يوفقك لاستعماله.
وهذه دلاله واضحة أن مؤسسي العرفان العلمي والنظري (طريق السلوك إلى الله) هم أهل بيت النبوة عليهم السلام .
فقال عليه السلام:
ثلاثة منها في رياضة النفس وثلاثة منها في الحلم وثلاثة منها في العلم فاحفظها وإياك والتهاون بها.
فقال :أمَا اللواتي في الرياضة :
1-أن لا تأكل مالا تشتهيه فإنه يورث الحماقة والبله .
2-ولا تأكل إلا عند الجوع .
3-وإذا أكلت فكل حلالاً وسم الله،واذكر حديث الرسول (ص)(ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ،فإن كان ولابد،فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه .
لقد حذر الإمام الصادق عليه السلام بالنسبة لرياضة النفس من أكل مالا يشتهي لوجود آثار وتبعات من ذلك الأمر وهي الحماقة والبلاهة،وهذان الأمران من النواقص التي يهرب منها الشخص العادي ولا يريد أن يوصف بهما فضلاً عن الطالب للعلم الذي يريد أن يحصل على النباهة والتحصيل .
إذاً عليه أن يبتعد كل البعد عن أكل مالا تشتهيه نفسه حتى لا يصاب بالحمق والبلاهة .
ويطرح الإمام عليه السلام مبدأ عدم الأكل إلا عند الجوع ،لأن الأكل على الشبع له أضراره الكثيرة على الجسم والقلب ،بل أن الشبع نفسه سبب من أسباب قسوة القلب والبعد عن الله سبحانه وتعالى وإطفاء نور الحكمة والمعرفة ،حيث جاء عن الرسول الأكرم (ص) :(من شبع ونام قسا قلبه ...)
وعنه أيضاً (ص) أنه قال: (نور الحكمة الجوع والبعد من الله الشبع والقربة إلى الله حب المساكين والدنو منهم، لا تشبعوا فينطفئ نور المعرفة في قلوبكم ...)
فالجوع إذاً له علاقة كبيرة في اكتساب العلم والحصول على نور المعرفة، حيث جاء في الأثر ( جعل العلم في الجوع والغربة)
وللجوع فوائد كثيرة نذكر منها ما يهمنا في هذا البحث:
1: الفائدة الأولى/ صفاء القلب
وذلك لحديث عن رسول الله (ص): (أحيوا قلوبكم بقَّلة الضحك والشبع وطهروها بالجوع تصفوا وترق)
2: الفائدة الثانية/ حب الله
قال رسول الله (ص): ( جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله، وإنه ليس من عمل أحب إلى الله تعالى من الجوع وعطش)
3: الفائدة الثالثة/ دخول عالم الملكوت قال النبي الأكرم (ص): ( لا يدخل ملكوت السماوات قلب من ملأ بطنه)
وقال النبي عيسى ( عليه وعلى نبينا السلام): ( أجيعوا أكبادكم و أعروا أجسادكم فلعل قلوبكم ترى الله عز وجل)
4: الفائدة الرابعة/ التضييق على الشيطان
عن النبي الأكرم (ص): (إن الشيطان يجري من ابن أدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش)
5: الفائدة الخامسة/ صحة البدن
لقوله سبحانه و تعالى: (صوموا تصحوا) يستفاد من هذه الآية أنَّ قلة الأكل والجوع صحة للبدن ودفع لكثير من الأمراض النابعة من كثرة الأكل.
6-الفائدة السادسة: الحصول على ملكة الإيثار.
نظر رسول الله (ص) إلى رجل سمين البطن فأومأ بإصبعه إلى بطنه وقال: (لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك)
إي أن الزائد الذي أكلته وسبب لك السمنة لو آثرت به غيرك لكان خيراً لك.
7- الفائدة السابعة: كسر مادة الشهوات.
وأردنا أن نختم بهذه الفائدة المهمة جداً بل تعتبر أهم فائدة على الرغم أن هناك فوائد أخرى أيضاً من قبيل/ قلة النوم والمواظبة على العبادة، والتلذذ بالذكر والمناجاة وتذكر آلم الجائعين والمحتاجين والشعور الفعلي بعجز النفس وضعفها، وهناك الكثير من الفوائد فمن أراد المزيد فعليه أن يرجع إلى الكتب الأخلاقية والعرفانية المطولة.
ولو لم يكن من الجوع من فائدة إلا هذه الفائدة (كسر مادة الشهوات) لكفى. لأنها من أكبر الفوائد وأهمها، حيث بها تتروض النفس الأمارة بالسوء المملوءة بالشهوات، وبما أن مادة الشهوات الأطعمة المختلفة. فإن الجوع يعمل على إضافتها ومسك لجام قيادتها: فسعادة الإنسان أن يسيطر على شهواته وتعاسته في سيطرتها عليه، (وأقل ما يندفع بالجوع شهوة الفرج والكلام، فالجائع لا تتحرك عليه شهوة فضول الكلام، فيتخلص من آفات اللسان ، كالغيبة والنميمة والكذب والفحش وغيرها وقد قال النبي (ص): (لا يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصاد ألسنتهم)
أما شهوة الفرج فلا تخفى غوائلها والجوع يكفي شرها، فإذا شبع الرجل لا يملك فرجه وإن منعته التقوى فلا يملك عينيه، فالعين تزني كما يزني الفرج، وإن ملك عينيه بغطاء التقوى لم يملك فكره،فيحلّق به من وادٍ إلى وادٍ بالأفكار الرديئة ما يشوش به مناجاته، وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة، وإنما ذكرنا آفة الفرج واللسان مثالاً، وإلا فجميع معاصي الأعضاء السبعة سببها الشبع.
وعليه يكون الجوع عامل رئيس وأحد المعينات التي تعين الإنسان على ترويض وتهذيب نفسه المملوءة بالشهوات المختلفة التي إذا تركت طغت وتحكمت وسيطرت على الإنسان وجعلتهُ عبداً مطيعاً لها (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)
ما ينبغي على السالك في مأكله:
1- التدرج في قلة الطعام:
على من يريد السير والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى، تقليل طعامه ومشربه تدريجياً، فمن تعود على الأكل والشرب الكثير وفجأة انتقل إلى الأكل والشرب القليل بدون تدرج، لا تحتمل نفسه هذه النقلة المفاجئة وبالتالي ينتج عنه تعكير صفوة مزاجه وضيق نفسه وانشغال فكره.
فيترك ويرجع إلى سابقهِ، ولكن لو عمل على مبدأ التدرج فإنه سوف ينجح لا محالة، فمثلاً من اعتاد على أكل طبق كامل من الرز في وجبة الغذاء عليه أن ينقص ربعاً في البداية ويستمر على ذلك أسبوعين أو ثلاثة ثم ينقص ربعاً آخر وهكذا حتى يعتاد على الشيء الذي يقف عنده،وليس المطلوب من السالك أن يمتنع عن الطعام والشراب بل المطلوب الوصول إلى حد الاعتدال والابتعاد عن الامتلاء والزيادة "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا" وعن النبي الأكرم (ص) انه قال:
(ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه،ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فان كان هو فاعلاً لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)
2-على السالك أن لا يجعل همه الأكل والشرب في جميع أوقات يومه،فمن جعل همه الأكل والشرب كانت قيمته ما يخرجه ،فالإنسان أعز وأكرم من التشبه بالبهائم التي لا هم لها إلاّ علفها .
3- ينبغي على السالك أن يقتصر على الوجبات الثلاث ولا يأكل بينها ،كما أن بعض العارفين يرون أن الاقتصار على وجبتين أفضل وعدم الأكل بينها ،لأن الأكل بينهما يُعد زائداً وإسرافاً ،روي أن رجلاً قال:(شكوت إلى أبي عبد الله (ع) ما ألقى ممن الأوجاع و التخم ،فقال لي : تغذى وتعشى ولا تأكل بينهم شيئا فان فيه فساد البدن ،أما سمعت الله تعالى يقول :(ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا )
4- أكل اللحم وتركه :
ركز علماء العرفان على أمر ترك أكل اللحم أو الأطعمة ذوات الأرواح من بيض ولبن ومشتقاته،على أن يكون الترك وفق برنامج روحي معين مستمد من روايات أهل البيت عليهم السلام ،لا أن يتصرف السالك وفق ما يراه وعلى رغباته النفسية ،بل أن التصرف الشخصي في هذه البرامج الروحية ينتج عنه آثار سلبية وأضرار روحية لا تحمد عقباها ،فالعارف يعتمد على ما يقوله النبي الأكرم وأهل بيته عليهم السلام في الشأن ،حيث يقول صلى الله عليه وآله :(من أتى عليه أربعون يوما ولم يأكل اللحم فليستقرض على الله وليأكله)
وعن أمير المؤمنين (ع) :(من ترك اللحم أربعين يوماً ساء خلقه ،ومن داوم عليه أربعون يوما قسا قلبه )، لهذا ترى أكثر العرفاء والسالكين وعلى رأسهم سيد العرفاء الإمام الخميني رضوان الله عليه يعملون على تطبيق هذه الروايات بالنسبة لأكل اللحم والامتناع عنه ،حيث يكون برنامجهم الامتناع عن اللحم 39 يوماً و يوم الأربعين يأكلون اللحم وثم بعد ذلك يبدءون أربعين أخرى وهكذا ،كما نقل أن برنامج الشهيد السعيد السيد دستغيب أنه كان يمتنع ويحث على الامتناع عن ذوات الأرواح بأكملها ثلاثة أيام في الأسبوع ،كل ذلك حتى لا يقسو القلب ،ويكون به صفاء ونقاء وترويض عن الشهوات بأكملها ،لأن (عادة سالكي طريق الآخرة الامتناع عن الشهوات ،فإن كل لذيذ يشتهيه الإنسان إن أكله اقتضى ذلك بطرا في نفسه وقسوة في قلبه ،وإنساُ بلذائذ الدنيا حتى يألفها ويكره الموت ولقاء الله ،فتصير الدنيا جنة في حقه ويكون الموت سجنا له .
وإذا منع نفسه من شهواتها وضيق عليها وحرمها لذتها صارت الدنيا عليه سجنا ومضيقا له واشتهت نفسه الانفلات منها ،فيكون الموت إطلاقها )
وعليه يكون مجاهدة شهوة الأكل بقدر تجويع النفس وترويضها على ذلك ، أن آفات إعلال البدن والروح ناشئً من إطلاق عنان شهوة الأكل والإكثار من اللذات ،لهذا حثت الروايات على ترك المباحات وما لهذا الترك من الثواب العظيم على الرغم أن تناول المباحات ليس فيه معصية ،ولكن المداومة على ذلك ينتج عنه تعويد النفس وأنسها بالملذات والرغبات الدنيوية التي تجر الإنسان إلى ارتكاب المعاصي من أجل التزود منها .
مما لا شك فيه أن أكل الحرام بمختلف أنواعه سواء أكان أكل المذبوح بغير الطريقة الشرعية أو أكل مال اليتيم أو أكل أموال الربا وغيرها ،تأثر تأثيراً كبيراً في روح ومعنوية الإنسان ،وقد تحدثت الآيات عن هذا الأمر بوضوح حين قال الله تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)1 تتحدث الآية بصيغة المضارع (يأكلون ) وليس بصيغة الماضي ،أي أن الذين يأكلون الحرام إنما جعلوا في بطونهم نارا، أي أن في حالة أكلهم الحرام إنما هم يأكلون النار معنوياً و في المستقبل سوف يصلون سعيرا،كما أن الذي يأكل الحرام بطرق الاحتيال على الناس ، تكون حالته البرزخية (المعنوية ) في الدنيا على هيئة قذرة كالخنزير الذي يأكل القاذورات ،وهو أخس الحيوانات رتبة .أو سبع من السباع ،المتوحشة التي تتعدى على الضعيف وتأكله أو تسلب ما عنده
واعلم عزيزي القارئ أن من يأكل الحرام ظلم ،سواء ظلم النفس بأكل المذبوح بغير تذكية أو ظلم الناس بأكل أموالهم بالباطل .