اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فلسفة الأخلاق فراغٌ في الفكر الإسلاميّ
لم يحلّل الفكر الإسلاميّ المعاصر المشكلة الأخلاقية تحليلاً فلسفيّاً إلا نادراً، ويُعدُّ هذا الموقف تناقضاً صريحاً مع الأهمّية التي يوليها الفكر الإسلاميّ إلى دور القيم الأخلاقيّة في إعادة بناء الأمّة.
لا شكّ في أنّ دراسة العلاقة بين المبادئ الدينية والحياة العصريّة، قد دفعت ببعض المفكّرين المسلمين إلى طرح مشكلة القيم الأخلاقيّة، لكن ما زال الفكر الإسلاميّ لم يُنظر بعدُ فلسفةً أخلاقيةً، ولا توجد هذه الأخيرة إلا بصورةٍ ضمنيّة في الغالب، فالخطوط العريضة لفلسفةٍ أخلاقيّةٍ إسلاميّةٍ ما زالت في طور الإطار العام، ويرجع الفضل إلى بعض المفكّرين المسلمين المعاصرين (في مجال فلسفة الأخلاق) الذين تجاوزوا الطرح الفلسفيّ الضمنيّ للمشكلة الأخلاقية، ووصلوا إلى الطرح الفلسفيّ المباشر والصريح.
كيف ملأ الشهيد الصدر هذا الفراغ؟
فقد طرح الشهيد السيد محمد باقر الصدر المشكلة الأخلاقيّة بصورةٍ فلسفيّةٍ مباشرةٍ، من موقع منهجيّةٍ خاصّةٍ لا تُحدِث قطيعةً بين القضايا. فالمشكلة الأخلاقيّة طُرحت في كتابات الشهيد بالموازاة مع المشكلة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والعقائديّة والفقهيّة؛ فالشهيد طرح أصول الفقه وعلم الكلام والفلسفة طرحاً جديداً، وانتهى إلى الانفتاح على إشكاليّةٍ جديدةٍ في مجال القيم الأخلاقيّة، فهو كان واعياً وعي مجتهدٍ، بأن تعقّد أحوال العصر تقتضي تجاوز حجز الفكر الإسلاميّ، في دائرة الوعظ والإرشاد، في دائرة الرؤية المبسّطة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأحوال العصر تقتضي ـ في نظر الشهيد ـ تجاوز النّظرة التجزيئية للمبادئ والقيم الإسلاميّة، للوصول إلى مقاربة فلسفيّة للمشكلة الأخلاقيّة.
فالشهيد لم يكتفِ في كتاباته بعرض مجموعةٍ من الفضائل، التي يجب التمسّك بها، ومجموعة من الرذائل، التي يجب تركها والابتعاد عنها، بل اعتمد الصدر على التحليل المفاهيميّ للقيم، لذلك اتّسمت كتاباته في المجال الاجتماعيّ والأخلاقي بالطابع الفلسفيّ لا الطابع الوعظيّ الإرشاديّ.
لا شكّ أنّه لا توجد كتابات خاصّة بالأخلاق عند الشهيد على غرار ما كتبه فلاسفة الأخلاق في هذا الميدان. لكنّ كتابات الشهيد تعرّضت كلّها ـ تقريباً ـ للمشكلة الأخلاقيّة. وهذا راجعٌ إلى منهج الشهيد الذي يتميّز بالطرح الشموليّ للقضايا. فهناك تداخلٌ في الرؤية الإسلاميّة للمشكلة الاجتماعيّة بين الجوانب الروحيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والمعرفيّة والحضاريّة والميتافيزيقيّة في كتاباته.
منهجان في فلسفة الأخلاق
يُمكن أن نميّز بصورةٍ عامّةٍ بين اتّجاهين في فلسفة الأخلاق في الفكر الإسلاميّ المعاصر: اتجاه استلهم الفكر الغربيّ، وأحياناً قلّده؛ واتّجاهٌ آخر حاول الارتباط بفلسفة الأخلاق، كما تجلّت في الفكر الإسلاميّ قديماً. كما حاول بعض أصحاب هذا الاتجاه صياغة رؤيةٍ أخلاقيّةٍ انطلاقاً من القرآن الكريم والسنّة الشريفة؛ وهذا ما حاوله الشهيد على غرار محاولة محمد عبد الله دراز في أطروحته دستور الأخلاق في القرآن؛ مع العلم بأنّ هناك بعض أوجه الاختلاف بين الصدر ومحمد عبد الله دراز كما سنرى.
منهج الصدر الأخلاقيّ
منهج الصدر في طرح المسألة الأخلاقية يختلف عن أصحاب الاتّجاه الأول، كالأخلاق الاجتماعية عند كلٍّ من منصور فهمي وعبد العزيز عزّت وقباري إسماعيل، والأخلاق الوجودية عند كلٍّ من عبد الرحمن بدوي وعادل العوا وزكريا إبراهيم؛ ذلك أنّ أصحاب هذين الاتّجاهين قد طرحوا المشكلة الأخلاقيّة دون محاولة طرح مشكلة العلاقة بين الفكر الأخلاقيّ والواقع (واقع العالم الإسلامي)، أي طرحوا المشكلة الأخلاقيّة بقطع النظر عن المشكلة الابستمولوجية. فالدراسة الابستمولوجية هي التي كشفت عن عوامل تَشَكُل الأفكار والقيم والمذاهب الفلسفية والأخلاقية. فأصحاب هذين الاتجاهين (الاجتماعيّ والوجوديّ) تبنّوا مذاهب أخلاقيّة جاهزة، أي من حيث هي نتاج إنسانيّ عامّ، أو بعبارةٍ أدقّ من حيث هي مذاهب أخلاقيّة كونيّة، في حين أنّ الابستمولوجيا تُميّز في هذه المذاهب الأخلاقيّة بين جوانبها النسبيّة المرتبطة بظروف الغرب وبين جوانبها الكونية، لذلك لم يبحث هؤلاء المفكّرون عن مدى ملائمة هذه المذاهب لظروف العالم الإسلاميّ واهتمامات شعوبه والقيم الروحيّة التي تتمسّك بها هذه الشعوب.
الانطلاق من النصّ والواقع معاً
تتميّز الجوانب الأخلاقيّة في كتابات الصدر بانطلاقها من القرآن الكريم والواقع في نفس الوقت، فالصدر يطرح رؤيته الأخلاقيّة كمجتهدٍ فيلسوف، ففكره في المجال الأخلاقيّ هو عمليّة تركيبيّة للفقه وعلم الكلام والفلسفة، هذا ما تتميّز به فلسفة الأخلاق عند الصدر، إذا ما تمّت مقارنتها مع كتابات المفكّرين الآخرين، من أمثال محمد عبد الله دراز وأحمد عبد الرحمن إبراهيم وغيرهما؛ أمّا ما تتميّز به فلسفة الصدر الأخلاقيّة عن الاتّجاه الاجتماعيّ والوجوديّ، فيكمن في ربط الصدر للفلسفة الاجتماعيّة والأخلاقيّة بظروف الشعوب الإسلاميّة واهتماماتها من موقع قيمومة النّص، بل إنّ انطلاق الصدر من النصّ يتضمّن في نفس الوقت، الانطلاق من الواقع.
فالنسق الفلسفيّ لا يكفي نفسه بنفسه في نظر الصدر، بل يجب ربطه بالظروف الاجتماعيّة والنفسيّة والتاريخيّة؛ انطلاقاً من هذه الفكرة انتقد الصدر المذاهب الاجتماعيّة والأخلاقيّة الغربية، لكنّه لم يرفض هذه المذاهب رفضاً غير مشروط، وإنّما انتقدها نقداً علميّاً معتمداً على التحليل الابستمولوجيّ، الذي يكشف عن عوامل تشكيل المفاهيم الفلسفيّة والعلميّة.
إنّ مبدأ الاسلام دين ودولة، ودين ودنيا، الذي ينطلق منه الفكر الإسلاميّ المعاصر، جعل الأخلاق جزءاً من كلٍّ. فالأخلاق ذات علاقة بالدين، بل مصدرها دينيّ في نظر الفكر الإسلاميّ المعاصر، لذلك فهي عنصرٌ من مجموعة، أي هي ذات علاقةٍ بمعنى الكون والإنسان والمجتمع.
وإذا كان الفكر الإسلاميّ يرى بأنّ الأخلاق هي مجموعةٌ من القيم المطلقة والثابتة، بينما يرى الفكر الغربيّ، والفكر المحدَث في العالم الإسلاميّ، بأنّ القيم الأخلاقيّة نسبيّة ومرتبطة بأحوال تاريخيّة واجتماعيّة، فما هي الأبعاد الفلسفيّة لموقف الفكر الإسلاميّ على العموم وموقف الصدر على الخصوص بالنسبة لهذا المُشكل؟ هل انتهى الصدر إلى صياغة فكرٍ أخلاقيٍّ مجرّدٍ، ومرتكزٍ على ما ينبغي أن يكون، أي صياغة فكرٍ يتطلّع إلى مجتمعٍ مثاليٍّ بعيد المنال، أم هو فكرٌ أخلاقيٌّ ينطلق من الواقع لتحقيق التحوّلات الاجتماعيّة و الاقتصاديّة والسياسيّة؟ ألا يمكن القول بأنّ ارتباط القيم بالتعالي أو الغيب يحرم الإنسان من كلّ مبادرةٍ في المجال الأخلاقيّ؟
لقد قدّم الصدر من خلال كلّ كتاباته الإطار النظريّ والمنهجيّ للمذهب الأخلاقيّ الإسلاميّ، فهو قد طرح مشكلة مصدر القيم الأخلاقية، وعلاقة القيم الأخلاقية بالتحوّلات الاجتماعيّة والتاريخية، كما طرح مسألة إلزامية القيم والواجبات الأخلاقية، ومسألة النية والمسؤولية، والتطلع إلى المثل الأعلى؛ فالصدر قد أثار من جديد مشكلة القيم الأخلاقيّة من خلال كتاباته حول الاقتصاد والمشكلة الاجتماعيّة والسياسيّة، ومشكلة السنن التاريخيّة، وبحوثه حول العبادات، والميتافزيقيا، وهذا في مرحلة تاريخية (مرحلة الستينات وبداية السبعينات) كان الفكر الغربي، والفكر الإسلاميّ التابع له ـ إلا نادراً ـ يولي الاهتمام الكلّي للمشكلة الاقتصاديّة، إمّا انطلاقاً من الفلسفة الماركسيّة التي تعتبر أنّ الأخلاق انعكاسٌ للبنية التّحتيّة المتمثّلة في الاقتصاد (قوى الانتاج ووسائل الانتاج)، أو انطلاقاً من الرأسمالية التي تتمحور حول البعد المادي؛ فالاطار العام للفكر المعاصر في مرحلة الستينات والسبعنات هو أنّ حلّ المشكلة الاقتصاديّة هو الحلّ الحاسم لمشاكل الإنسان، وفي نفس هذه الفترة، وكردّ فعلٍ على هذا الموقف، ركّز بعض المفكّرين في العالم الإسلاميّ على الأخلاق دون ربطها بالأبعاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة في حياة الإنسان، وهذا عكس فلسفة الصدر التي ابتعدت عن هذه النزعة الأخلاقيّة، لمّا ربطت بين الأخلاق والحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة من منظور الطرح الكلّي لا الجزئيّ للقضايا.
لذلك يُمكن القول: إنّ الإطار العام، على الصعيد المنهجيّ والمفاهيميّ للمذهب الأخلاقيّ الإسلاميّ، موجودٌ في كتابات الصدر. فالصدر لم يكتف بعرضٍ لمبادئ عامّة أو أفكار مجرّدة في صياغته للبديل الحضاريّ الإسلاميّ، بل قدّم مشروعاً اجتماعيّاً حدّد من خلال الرؤية الإسلاميّة في المجال السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ، فهو قد تجاوز مستوى الشعارات ومستوى الوعظ والإرشاد، الذي تتميّز به النزعة الأخلاقيّة، التي سيطرت على الفكر الإسلاميّ المعاصر، ولم يعتمد في تنظيره للأخلاق، على الإنسان كمفهومٍ ميتافيزيقيٍّ مجرّدٍ، بل عملية التنظير عنده انطلقت من الإنسان ككائنٍ تاريخيٍّ يتأثّر بالظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة ويؤثر فيها، كما أنّ فلسفة الصدر الأخلاقية تختلف عن المذاهب الأخلاقية القديمة، التي طرحت المشكلة الأخلاقيّة على مستوى الحياة الفردية، فالصدر تجاوز هذا الطرح الناقص عندما عالج المشكلة الأخلاقيّة في إطار علاقة الفرد بالمجتمع، أي من منظورٍ اجتماعيٍّ وتاريخيٍّ للإنسان كوحدةٍ ماديّةٍ وروحيّةٍ، لذلك كانت القيم الأخلاقية في نظر الصدر ملازمةً للوعي التاريخيّ الضروريّ لكلّ تغييرٍ.
موقع سماحة اية الله السيد حسين الصدر
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين