اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ ساحة الطف هي الساحة التي ورثت كل قيم الأنبياء، وتجسّمت هذه القيم بمعسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، كما أن معسكر ابن سعد (لعنه الله) ورث كلَّ قيم الطغاة والفراعنة، فمعسكر الحسين (عليه السلام) يمثل القيم ووارث لها، ومعسكر ابن سعد يمثل الهمجية واللّاقيم، والصراع بين الحق والباطل صراع قهري، لأن طبيعة الحق ترفض الباطل وطبيعة الباطل عدوانية لا تقبل الحق، إذن الطف هي الساحة الوارثة، وهذا المعنى وردت الإشارة إليه في زيارة وارث: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله ...».
إن طبيعة هذه المعركة شرسة ودائمة، والدليل على شراستها قتلهم الطفل الرضيع وحرق الخيم والتمثيل بالجثث، والدليل على دوام هذه المعركة أنها حاولت أن تسلب الخطاب الواعي للثورة وأن تشوه اهدافها المباركة ودوافعها المقدسة، والحديث يحتاج إلى تفصيل نحاول أن نلملم أطراف الموضوع.
للشهيد ثلاث مراتب من الصراع:
1 ـ الصراع بين الشهيد والطاغية.
2 ـ الصراع بين الشهود والطاغية.
3 ـ الصراع بين الأُمة التي وعت خطاب الشهود والطاغية.
• المرحلة الأُولى من الصراع:
لكل دماء تراق في سبيل الله غاية وغرض، أي لها رسالة، والطغاة يحاولون سلب لغة الدماء وتهميش دور الشهداء، لكن الله تعالى تكفل برعاية هذه الدماء، فقد ورد في قوله تعالى: ﴿يا أيها الّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾، فقد اشترطت هذه الآية على المؤمنين أن ينصروا الله، وجزاء هذا الفعل نصرة الله للمؤمنين، والشهيد هو المصداق لهذه الآية، وتكفلت له بأمرين:
أ ـ النصرة، ومن مظاهر النصرة حفظ رسالة الدماء.
ب ـ تثبيت الأقدام، أي تحقيق غرض هذه الدماء المباركة، فالصراع في حقيقته صراع بين ثقافتين؛ ثقافة التحضير والتوحيد، وثقافة الهمجية، ثقافة تؤمن بالحرية: «لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد»، وثقافة تؤمن بالعبودية والإذلال: «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلة»، وثقافة تؤمن بتحرير الإنسان: «إنما خرجتُ لطلب الإصلاح»، وثقافة لا تؤمن إلا بالمادة والانحدار: إملأ ركابي فضة أو ذهبا.
يروي لنا التاريخ حواراً دار بين الإمام الحسين (عليه السلام) وعمر بن سعد (لعنه الله)، قال له الإمام الحسين (عليه السلام): «ويلك يابن سعد، أما تتقي الله الّذي إليه معادك؟! أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي، فإنه أقرب لك إلى الله تعالى»، فقال عمر بن سعد: أخاف أن يُهدم داري، فقال الحسين (عليه السلام): «أنا أبنيها لك»، قال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي، فقال الحسين (عليه السلام): «أنا أخلف إليك خيراً منها من مالي بالحجاز»، فقال: لي عيال وأخاف عليهم، ثم سكت ولم يجبه إلى شيء، فانصرف عنه الحسين (عليه السلام) وهو يقول: «ما لَك؟ ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إني لأرجو ألّا تأكل من بر العراق إلا بسراً»، فقال ابن سعد: في الشعير كفاية عن البر، مستهزئاً بذلك القول.
هذه في الحقيقة نزاع في عمق الإنسان، بين المنافع والقيم، بين الأنبياء والشياطين.. إذن خطاب الدماء خطاب ثقافي وراق، حاول الطغاة سلبه على مرّ التاريخ، لكن الله (عزّ وجل) تكفّل بحفظ هذه الرسالة إلى الأجيال.
• المرحلة الثانية من الصراع:
الذي وعى خطاب الدماء أصبح شاهداً عليها، وفي عاشوراء كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) وزينب (عليها السلام) هم الشهود، فانتقلت هذه المعركة من الشهيد إلى الشهود، فكان دور الشهود هو التعريف بمضامين الثورة الحسينية المقدسة، فكانت خطبة لزينب (عليها السلام) في الكوفة، وموقف آخر في مجلس ابن زياد (لعنه الله)، حيث قال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب احدوثتكم، فقالت زينب: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله)، وطهرنا من الرجس تطهيراً، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا»!
هذه العبارة صكت مسامع هذا المجرم، ثم قالت (عليها السلام): «إنهم فتية كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصَم، فانظر لمن الفلج؟ ثكلتك أُمّك يا ابن مرجانة». هذا الخطاب كان واضحاً في سلب الشرعية، وتوعية الناس أمام الإعلام الرسمي الذي كان يروّج بأن المقتولين من الخوارج أو الترك أو الديلم، خرجوا على إمام زمانهم، وهذا الخطاب عرّف للناس مَن المقتولين وبعض أهداف تلك النهضة والمسيرة التاريخية في جانبها الإعلامي، والأهداف كثيرة.
• المرحلة الثالثة من الصراع:
إذا وصل الخطاب إلى الناس، فإن الخطاب يخلق حالة وعي، وتصل رسالة الشهيد بشكل واضح إلى الناس، عندها تبدأ مرحلة الصراع بين الطغاة وبين الأُمة، فالأُمة تحاول أن تثأر من المجرمين، والطغاة يحاولون الدفاع عن مواقفهم، وقد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في الزيارة: «السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره»، فبدأت ثورة التوّابين وتم تصفية المجرمين في الكوفة، وبدأت النهضات تتوالى، وكلّها تحمل شعار: يا لثارات الحسين. في هذه المرحلة الاُمة ترى نفسها مسؤولة عن تحقيق هدف الخطاب، فتبدأ حالة التصادم بين الاُمة وثقافتها من جهة والحكومات المتسلطة عليها من جهة أُخرى، وبهذا استطاعت هذه الثورة المباركة الحفاظ على الاُمة الإسلامية من أن لا تذوب في الثقافات المنحرفة وتحافظ على أصالتها وهويتها العقائدية، وعلى هذا الأساس يكون الطف عبارة عن الحديث والخطاب والثأر، أي أنها ابتدأت سنة 61 وتستمر حتى يرث الله الارض ومن عليها، جعلنا الله وإياكم من السائرين على نهج الحسين (عليه السلام) والطالبين بثأره، والحمد لله ربّ العالمين.
مجلة النجف الأشرف
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين