اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حريٌّ بنا ونحن نعيش أيام ذكرى استشهاد أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام) أن نستفيد في حياتنا قبل مماتنا من عطاء ثورته المباركة ؛ حيث إنّ لكلِّ حركة إصلاحية وثورة اجتماعية تغييرية معطياتها ؛ سواء أكانت سلبية أو إيجابيّة . ولا يخفى على كل حرٍّ أبيٍّ مدى المعطيات الإيجابيّة للثورة الحسينيّة , ومدى استفادة الاُمّة الإسلاميّة وغيرها من هذه المعطيات ، بل حديثاً قال غاندي : تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر .
ومع شديد الأسف نلاحظ أحياناً بعض من خطباء المنبر الحسيني يقوم بالتركيز على الجانب المأساوي من قتل الإمام الحسين (عليه السّلام) , وإثارة العواطف الجيّاشة بالبكاء فقط ، بدلاً من مزج تلك العواطف بالأفكار النيّرة , وإفادة الناس من هذه الثورة المباركة ومن معطياتها المتعدِّدة الأبعاد ؛ لتعود على الناس بالنفع الكثير .
وحريٌ بنا أن نركِّز في هذا المقال المتواضع على شيءٍ من معطيات الثورة الحسينيّة العقائدية والأخلاقيّة , والتضحويّة والإصلاحيّة , والمعنويّة والروحيّة ، آملين من الله التوفيق للإفادة والاستفادة .
أوّلاً : العطاء العقائدي
يحدّثنا التاريخ المعتبر أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كما جاء في سيرته عندما رفض أن يبايع يزيد بن معاوية ، وبينما هو في طوافه في موسم الحج أتاه هاتف إلهامي يأمره بأن يحلَّ من إحرامه وأن يجعل حجته عمرة مفردة , وإلاّ سوف يُقتل وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة . امتثل الإمام الحسين (عليه السّلام) لهذا الهاتف .
وقد كانت هناك إرهاصاتٌ بذلك , كان الإمام (عليه السّلام) على علمٍ بها . وعندما كان في المدينة المنورة لزيارة جدّه (صلّى الله عليه وآله) , وعند القبر بينما هو يزور غفا غفوة رأى فيها جدّه (صلّى الله عليه وآله) قائلاً له : (( إنَّ لك منزلة عند الله لن تنالها إلاّ بالشهادة )) .
إنّ امتثال الإمام الحسين (عليه السّلام) , وإحلال إحرامه , وخروجه من مكّة للحفاظ على حرمة الكعبة يُعدّ قمّة في إيمانه بقضاء الله وقدره , مع علمه بأنه مقتول لا محالة ؛ لرفضه مبايعة يزيد , وتمرّده على فسقه وفجوره العلني , بل على الظلم والاستبداد .
وموقف آخر يضربه لنا الإمام (عليه السّلام) في هذا الجانب ، وهو عندما رُمي عبد الله الرضيع بسهم حرملة في كربلاء ، أخذ الإمام (عليه السّلام) دمه ورماه إلى السماء قائلاً : (( هوّنَ عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله )) . يعلّمنا الإمام (عليه السّلام) أنّ كلَّ ما ينزل بنا هو من الله سبحانه وتعالى , فكلّه هيّن وسهل في جنب الله وفي سبيله ، وهو القائل (عليه السّلام) : (( رضا الله رضانا أهل البيت , نصبر على عظيم بلائه فيوفّينا اُجور الصابرين )) .
ثانياً : العطاء الأخلاقي
لقد أعطت ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) دروساً أخلاقيّة عظيمة ؛ ممّا يجعل المرء المنصف يتوقف عندها ويتأمّل فيها . ومن تلك المواقف موقف الإمام (عليه السّلام) مع الحر الرياحي وأصحابه عندما شارفوا على الهلاك من شدة العطش والتعب وهم يسيرون في الصحراء بحثاً عن الإمام (عليه السّلام) وأصحابه . وحين رآهم الإمام (عليه السّلام) وهم بحالة يرثى لها , وعلى الرغم أنهم من أتباع يزيد وأزلامه ، أنقذهم الإمام (عليه السّلام) من الهلاك ؛ حيث أمر أصحابه أن يسقوا القوم من الماء ويرشَّفوا الخيل ترشيفاً .
لاحظ عزيزي القارئ مدى أخلاقيات الإمام (عليه السّلام) الإنسانيّة , كان باستطاعته أن يفنيهم عن بكرة أبيهم , ولكنّ الأخلاق الإسلاميّة الرفيعة تأبى ذلك .
بل إنَّ الإمام (عليه السّلام) , ومع عظمته ومكانته وهيبته , وهو ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، سقى أحدهم بيده المباركة الشريفة ، وهو علي بن الطعّان ، ومع شديد الأسف هذا اللعين نفسه شارك في قتل الإمام الحسين (عليه السّلام) .
وقد شملت أخلاقيات الإمام الحسين (عليه السّلام) حتّى الحيوان والرفق به ؛ حيث لم ينسَ خيولهم , بل أمر أصحابه أن يرشّفوا الخيل ترشيفاً ، هذا مع حاجة الإمام (عليه السّلام) إلى الماء وهو في سفر ، ممّا يعطينا درساً في العفو والرحمة , والرفق والشفقة والإنسانيّة ، درساً عملياً تراه بعين القلب وكأنه متجسدٌ أمامك ينبض بالحيوية والحياة , ممّا يؤثّر تأثيراً بالغاً على النفس , ويصقلها صقلاً أخلاقيّاً جميلاً .
درسٌ آخر يعطينا إيَّاه الإمام (عليه السّلام) في المساواة والتواضع عندما استشهد العبد جون ؛ حيث وضع خدَّه على خدِّه وهو يبكيه ويندبه تماماً كما فعل مع ابنه علي الأكبر (عليه السّلام) .
وموقف آخر يدلُّ على عظمة ونبل الإمام (عليه السّلام) وأخلاقه العالية , كما جاء في سيرته الكربلائيّة ، بكاؤه على أعدائه يوم المعركة في كربلاء , وعندما سُئل عن بكائه قال (عليه السّلام) : (( أبكي على هؤلاء , سوف يدخلون النار بسبب قتلي )) .
هذا الموقف النبيل يربّينا ويروّض أنفسنا على الرحمة والرأفة , والتسامح والعفو حتّى عن الأعداء كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) : (( لا يحيف على مَن يبغض ـ أي لا يظلم من يبغض ـ ولا يأثم في مَن يُحب )) .
وموقف آخر من أبي الفضل العباس (عليه السّلام) عندما نزل المشرعة بعد أن أجلى الأوغاد عنها ؛ لأنهم منعوا معسكر الإمام الحسين (عليه السّلام) من الماء . وبينما كان العباس (عليه السّلام) يملأ القربة أحسَّ ببرد الماء وهو عطشان عطشاً شديداً , فملأ كفه ليشرب لكنه تذكّر عطش أخيه الحسين (عليه السّلام) , حين ذاك رمى الماء من كفّه وقال : هيهات أشرب الماء وأخي الحسين عطشان .
هذا الموقف العظيم يدلُّ على عظمة شخصيَّة العباس (عليه السّلام) , وعلى التربية الإسلاميّة الأصيلة التي تلقّاها على يد والده الإمام علي (عليه السّلام) الذي زرع فيه تلك الروح الأبيّة والمبادئ الإسلاميّة النبيلة .
ثالثاً : العطاء الإصلاحي
إنّ مبدأ خروج الإمام الحسين (عليه السّلام) على فساد وإفساد يزيد قام على أساس الإصلاح في الاُمّة , وتطبيق أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وهو القائل : (( لم أخرج أشراً ولا بطراً , ولا ظالماً ولا مفسداً , وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر )) .
إنّ الإمام (عليه السّلام) بتقديمه الغالي والنفيس ؛ من عرضٍ ومالٍ , وأهلٍ وأولادٍ وأصحابٍ , وكلِّ شيء في سبيل الله ، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قد رفع من أهمية هذا الأصل في عيون المؤمنين ، في الوقت الذي توقّف فيه الآخرون لدى تطبيقهم لهذا الأصل عند حدود منع الضرر الشخصي ، وبذلك قد حطّوا من قيمة هذا الأصل وأهمّيته .
رابعاً : العطاء التضحوي
إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) تبقى على مر العصور مثالاً يُحتذى به في التضحية والجهاد والاستشهاد , ومقارعة الظلم والظالمين . لقد قدَّم الحسين (عليه السّلام) نفسه قرباناً في سبيل استقامة الدين الذي جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله) حتّى قيل : (الإسلام محمّدي الوجود , حسينيُ البقاء) , أي كان وجود الإسلام وظهوره بالنبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) , وكان استمراره وبقاؤه بتضحيات الإمام الحسين (عليه السّلام) .
وحتّى الشباب الذين كانوا في عمر الزهور اليافعة قدّموا أنفسهم للاستشهاد في سبيل الحق ، مثل علي الأكبر (عليه السّلام) ؛ فإنّ هذا البطل الشاب كان أول من استشهد من أهل الحسين (عليه السّلام) .
ولعلي الأكبر هذا موقفٌ يدلُّ على عظمته وشجاعته ، وهو عندما غفا الإمام الحسين (عليه السّلام) وهم في الطريق إلى العراق ؛ حيث رأى الإمام (عليه السّلام) رؤيا استرجع منها بعد غفوته ، وحين سمعه علي الأكبر سأله : لمَ استرجعت يا أبي ؟ قال (عليه السّلام) : (( سمعت هاتفاً يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير بهم )) . فقال علي الأكبر : ألسنا على الحق يا أبي ؟ قال : (( بلى يا بُني )) . قال : إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا .
هذا الموقف ومواقف كثيرة في كربلاء ، مثل خروج القاسم بن الحسن (عليه السّلام) للجهاد , واستشهاده في سنٍّ لم يبلغ الحُلم . وقد أصبحت تلك المواقف البطولية الاستشهادية نبراساً يسير عليه معظم المجاهدين في تقديم أنفسهم من أجل الإسلام العزيز ونصرته . والذي حصل في لبنان وفلسطين من عملياتٍ استشهادية مثالٌ على ذلك ، بل حتّى الاُمّهات في لبنان وفلسطين في تقديمهنّ أبناءهنّ للاستشهاد كنَّ يقتدين بالاُمّهات اللاتي قدّمن أبناءهنَّ في كربلاء من أجل نصرة الحق .
خامساً : العطاء الروحي والمعنوي
لقد كانت ملحمة الإمام الحسين (عليه السّلام) مسرحاً للعطاء الروحي والمعنوي . يقول مفكّر الثورة الإسلاميّة الشهيد السعيد الشيخ مرتضى المطهَّري (رحمه الله) : من خلالها ـ أي الثورة الحسينيّة ـ يستطيع الإنسان أن يدرك عظمة القدرة الأخلاقيّة والروحية والمعنوية للبشر ، كما يستطيع أن يفهم ويستوعب حجم المقدرة البشرية على العطاء والتضحية والظهور بمظهر التحرّر , والدفاع عن الحقِّ , وعبادة الحقِّ تعالى ربِّ العباد
أقول : والمتتبع لقضية كربلاء يلاحظ بروز معاني الصبر والتحمّل , والشجاعة والتضحية والإقدام , وعدم التردد والحيرة , والصبر والرضا والتسليم , والمروءة والكرم والنبل , والإيثار والسماحة ... إلخ من الصفات الروحيّة والمعنوية التي خلّدها الإمام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه . كما يعجز القلم عن وصف الحالة المعنوية التي تمتّعوا بها في ذلك الوقت التضحوي الصعب على الإنسان .
بعد أن عرفنا أهمّيّة النهضة الحسينيّة للإسلام وأهمّيّتها في حياتنا ، ماذا علينا عمله حتّى نرفع أنفسنا إلى مستوى المسؤولية في إصلاح مجتمعنا , ونرفع قدرنا عند الله (سبحانه وتعالى) والرسول (صلّى الله عليه وآله) : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ؟
مع الأسف الشديد إنَّ من عادة أهل المنبر الحسيني عرض وتضخيم الجانب المأساوي والتراجيدي في قضية كربلاء , وإبراز جانب الظلم والقسوة التي حلّت على الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهله وأصحابه , وهي ضخمة بذاتها ومأساتها , بينما يفترض إبراز الجوانب المعنوية والروحية التي تعود على المرء بالفائدة الكبرى في مسيرة حياته .
لذا يجب علينا التأسّي والتأثُّر واقتباس الجوانب العظيمة والمشرقة التي سطّرها الإمام الحسين (عليه السّلام) بدمه وتضحياته , والمضي قدماً نحو النهوض بالاُمّة وإصلاحها عن طريق تطبيق الأصل المنسي لدى الناس , ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ) , واقتباس تلك الأنوار المعنوية والروحية التي شُعّت من نور الإمام الحسين (عليه السّلام) , وتنوير نفوسنا منها حتّى نصل إلى أكمل الإيمان , ونفوز بسعادة الدارين , وكما قال تعالى : (وَجِيهاً فِي الْدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ) .