اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إِعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ
إعلم إن كل واحد من العلماء (رضوان الله تعالى عليهم) قد تناول هذه الجملة "إِعْرفُوا اللهَ بِالله"
وشَرَحَها على ضوء مسلكه العلمي أو مذهبه الفلسفي ونحن لأجل التبرك بكلام الأجلاّء نذكر بصورة مختصرة بعض تلك الآراء وهي:
الأول: قال ثقة الإسلام الكليني (رضوان الله تعالى عليه)
ومعنى قوله (عليه السّلام) " اعرفوا الله بالله " يعني أن الله خلق الأشخاص والأنوار والجواهر والأعيان - فالأعيان الأبدان والجواهر الأرواح - وهو جلّ وعز لا يشبه جسماً ولا روحاً وليس لأحد في خلق الروح الحسّاس الدرّاك أمر ولا سبب وهو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام فإذا نفي عنه الشبهين: "شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف الله بالله وإذا شبه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف الله بالله"
ومن الغريب أن صدر المتألهين (قدس سرّه) اعتبر هذا الكلام من تتمة الحديث فأخذ بشرحه وتفسيره على أساس مذهبه في الفلسفة.
الثاني: قال الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) بعد إيراد الخبر، ما حاصله: " عرفنا الله بالله لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبها وإن عرفناه عز وجل بأنبيائه ورسله وحججه (عليهم السّلام) فهو (عز وجل) باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حججاً وإن عرفناه بأنفسنا فهو عز وجل محدثها فبه عرفناه"
الثالث: ما أشار إليه صدر المتألهين حيث قال إن هناك سبيلان لمعرفة الحق المتعالي
(أحدهما: المشاهدة وصريح العرفان، ثانيهما: التنزيه والتقديس)
حيث أن السبيل الأول لا يتيسّر إلاَّ للأنبياء والكُمّلين اختار (عليه الصلاة والسلام) بيان الطريق الثاني في الحديث انتهى.
ويتوقف هذا التفسير على اعتبار كلام الشيخ الكليني جزءً من الحديث الشريف، واعتبار حديث الإمام الصادق (عليه السلام)، كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
الرابع: قال المحقق فيض الكاشاني (عليه الرحمة): إن لكل شيء ماهية هو بها هو، وهي وجهه الذي إلى ذاته كذلك لكل شيء حقيقة محيطة به، بها قوام ذاته وبها ظهور آثاره وصفاته، وبها حوله عما يَرِدُ به ويضرّه وقوّته على ما ينفعه ويسرّه وهي وجهه الذي إلى الله سبحانه، وإليهما أشير بقوله عز وجل (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)
وبقوله سبحانه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)
وبقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)
وبقوله سبحانه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ)
وبقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)
فإن تلك الحقيقة التي تبقى بعد فناء الأشياء فقوله (عليه السّلام) اعرفوا الله بالله معناه انظروا في الأشياء إلى وجوهها التي إلى الله سبحانه بعد أن أثبتم أن لها رباً صانعاً فاطلبوا معرفته بأمارة فيها من حيث تدبيره لها وقيوميته عليها وتسخيره لها أو إحاطته بها وقهره إياها حتى تعرفوا الله بهذه الصفات القائمة به ولا تنظروا إلى وجوهها التي إلى نفسها أعني من حيث أنها أشياء لها ماهيات لا يمكن أن توجد بذواتها، بل مفتقرة إلى موجد يوجدها فإنكم إذا نظرتم إليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم الله بالأشياء، فلن تعرفوه إذن حق المعرفة، فإن معرفة مجرد كون الشيء مفتقراً إليه في وجود الأشياء ليست بمعرفة في الحقيقة.
على أن ذلك غير محتاج إليه لما عرفت أنها فطرية بخلاف النظر الأول فإنكم تنظرون في الأشياء أولاً إلى الله عز وجل وآثاره من حيث هي آثاره، ثم إلى الأشياء
وافتقارها في أنفسها"
الخامس: الاحتمال الذي قد خطر على بال الكاتب وهو يبتني على مقدمة مذكورة في علم الأسماء والصفات، وهي أن للذات المقدس الحق عز جلاله اعتبارات، وأن لكل اعتبار إصطلاحاً خاصاً به. هي:
منها: اعتبار الذات من حيث هو، أي الذات المجهول بصورة مطلقة، من دون أن يكون له اسم أو رسم ومن دون إمكان بلوغ آمال العرفاء، وذوي القلوب والأولياء إليه. وقد يعبّر عنه حيناً لدى أرباب المعرفة بعنقاء المُغرِب. قال الشاعر:
أيها الصياد انتبه بأن العنقاء لا * * * يسقط في الفخ فاسحب مصيدتك
وحيناً آخر بالعماء أو العمى، رُوِيَ أنَّهُ قيلَ لِلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) :"أيْنَ كانَ رَبُّكَ قَبْلَ أنْ يَخْـلُقَ الْخَلْقَ؟ قالَ: في عَماءٍ ".
وحيناً ثالثاً بغيب الغيوب والغيب المطلق وغير ذلك، فإن كل هذه التعبيرات والمصطلحات، تكون قاصرة على أداء المعنى. وأن العنقاء والعماء والتعبيرات الأخرى المذكورة لدي العرفاء الموافقة لنوع من الأدلة والبراهين، غير مرتبطة بهذا المقام.
ومنها: اعتبار الذات حسب مقام التعين الغيبي، وعدم الظهور المطلق، المسمّى بمقام الأحدية. والتعبيرات المذكورة في الاعتبار السابق تتلاءم مع هذا المقام، ويتحوّل في هذا المقام اعتبار الأسماء الذاتية، حسب اصطلاح العلماء، إلى الأسماء مثل: الباطن المطلق، والأول المطلق، والعليّ والعظيم، كما يستفاد من حديث (الكافي) أن أول اسم اتخذه الحق لنفسه هو العَـليّ والعظيم.
ومنها: اعتبار الذات حسب مقام الواحدية، ومقام جمع الأسماء والصفات، الذي عبر عنه بمقام الواحدية ومقام الأحدية لجمع الأسماء وجمع الجمع وغير ذلك. ويقال لهذا المقام باعتبار مقام أحدية الجمع، مقام الاسم الأعظم والاسم الجامع "الله"
ومنها: إعتبار الذات حسب مرتبة التجلّي بالفيض المقدس، ومقام ظهور
الأسماء والصفات في مرائي الأعيان، كما أن مقام الواحدية يكون بسبب تجلي الفيض الأقدس. ويقال لهذا المقام الذي هو مقام ظهور الأسماء، مقام الظهور الإطلاقي ومقام الألوهية ومقام الله أيضاً حسب الاعتبارات المقررة في الأسماء والصفات.
ولا بد من معرفة أن هذه الاعتبارات المذكورة على ألسنة أهل المعرفة وأصحاب القلوب، إخبار عن دور تجليات الحق سبحانه على قلوبهم الصافية، وتكون تلك التجليات حسب مراتب ومقامات سلوك الأولياء، وحسب منازل سير السائرين إلى الله ومراحله، مبتدئة من مقام ظهور الأسماء والصفات، الذي هو مقام الإلوهية والمسمى بـ " الله" والتي تكون آية (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
إشارة إلى ذلك، ومنتهية بمقام الغيب الأحدي، ومرتبة الأسماء الذاتية والاسم المستأثر، الذي يكون نهاية السير والمقصد. ويمكن أن يكون قوله تعالى (َوْ أَدْنَى).إشارة إلى هذا المقام.
وبعد هذه المقدمة نقول: إن الإنسان عندما يلجأ إلى الفكر والبرهان في طلبه للحق وسيره إلى الله، يكون سيره عقلياً عملياً، ولا يكون من نوع سير أهل المعرفة وأرباب العرفان، لأنه سقط في الحجاب الأكبر والأعظم، من دون فرق بين أن ينظر إلى الأشياء من ماهياتها، والتي تعتبر الحجب الظلمانية، ويبحث عن الحق المتعالي من خلالها، أو ينظر إلى الأشياء من خلال وجوداتها التي تكون حجباً نورانية وهي التي يشير إليها المرحوم الفيض الكاشاني في الاحتمال الرابع المتقدم.
إن الشرط الأول في السير إلى الله، وهو الخروج من البيت المظلم للنفس والذات والأنانية. فكما أن الإنسان في السفر الخارجي العيني المحسوس، لا يكون مسافراً مادام هو في مكانه وبيته رغم تخيّله السفر وتحدثه عن كونه مسافراً، بل لا بد من ترك المكان ومغادرة البيت حتى يقال أنه مسافر، وكما أن السفر الشرعي لا يتحقق إلا بعد مغادرة البلد واختفاء آثاره، فكذلك لا يتحقق هذا السفر العرفاني إلى الله، والهجرة الشهودية إلا بعد التخلي عن البيت المظلم للنفس واختفاء آثارها ومعالمها، لأنه ما دامت آثار التعينات مشهودة وأصوات الكثرات مسموعة، لا يكون الإنسان مسافراً، بل أنه تخيل السفر ودواعى السير والسلوك قال الله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)
فبعد أن يغادر السالك إلى الله بخطوات ترويض النفس والتقوى الكاملة من بيت النفس، ولم يصطحب معه في هذا الخروج العُلـقة الدنيوية، والتعيّنات، ويتحقق له السفر إلى الله سبحانه، يتجلى له الحق المتعالي قبل كل شيء، على قلبه المقدس بالألوهية ومقام ظهور الأسماء والصفات. ويكون هذا التجلي أيضاً مرتّباً ومنظماً، حيث ينطلق من الأسماء المحاطة مروراً بالأسماء المحيطة حسب شدّة السير وضعفه وحسب قوة قلب السالك وضعفه على التفصيل الذي لا يستوعبه هذا الكتاب المختصر، حتى ينتهي إلى رفض كل تعينات عالم الوجود سواء كانت تعينات تعود إلى نفسه أو تعينات راجعة إلى غيره والتي تعتبر - أي هذه التعيينات الغيرية - في المنازل والمراحل التالية من التعينات العائدة إلى نفسه أيضاً وبعد الرفض المطلق، يتم التجلي بالألوهية، ومقام الله الذي هو مقام أحدية جمع ظهور الأسماء، وتظهر " إِعرِفُوا اللهَ بِاللهِ " في مرتبتها الأولى النازلة.
ولدى وصول العارف إلى هذا المقام والمنزلة، يفنى في هذا التجلي، فإذا وسعته العناية الأزلية، لحصل للعارف الفاني في هذا التجلّي، إِستيناساً، ولزالت عنه وحشة الطريق ونَصَب السفر، واستـفاق، فلم يقتنع بهذا المقام، ويسيتمر بخطوات ملؤها الشوق والعشق، وفي سفر العشق هذا يكون الحق المتعالي مبدأ السفر والباعث على السفر ونهاية السفر، وتتمّ خطواته في أنوار التجلّي، فيسمع هاتـفاً يقول له "تَقَدَّمْ" ويستمر في التقدم إلى أن تتجلّى في قلبه بصورة مرتبة ومنظمة، الأسماء والصفات في مقام الواحديّة، حتى يبلغ مقام الأحديّة ومَقام الإسم الأعظم الذي هو إسم الله، فيتحقق في هذا المقام " إِعْرِفُـوا اللهَ بِاللهِ " في مرتبة عالية. ويوجد أيضاً بعد هذا المقام، مقام آخر لا مجال لذكره فعلاً.
الأربعون حديثاً لروح الله الخميني (قدس سره)
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين