اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين

لكنّ الإمام زين العابدين عليه السلام :.
قد تحمّل أكبر الأعباء، في هذه المحنة، إذ عايش أسبابها، وعاصر أحداثها، بل باشر جراحها وآلامها، فكان عليه أن يؤدّي رسالتها، لأنّه شاهدُ صدق من أهلها، بل الوحيد الذي ملك أزمّة أسرارها، ولابدّ أن يُمثل أفضل الأدوار التي لم يبق لها ممثّل غيره، ولم تبق لها صورة في أي منظار، غير ما عنده.
وإذا عرفنا بأن الإمام زين العابدين عليه السلام هو أوثق مَنْ يروي حديث كربلاء، فهو أصدق الناقلين له، وخير المعبّرين عنه بصدق .
وأما أهداف شهداء كربلاء التي من أجلها صُنِعَت، فلا بدَ لها أن تستمرّ، ولا تنقطع عن الحيويّة، في ضمير الناس ووجدانهم، حتّى تستنفد أغراضها .
وبينما الحكّام التائهون لا يعبأون ببكاء الناس، فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام اتّخذ من البكاء عادةً، بل اعتمدها عبادة، فقد كانت وفي تلك الفترة بالذات وسيلة هامّةَ لأداء المهمّة الإلهية التي حمل الإمام عليه السلام أعباءها .
والناس، لمّا رأوا الإمام زين العابدين عليه السلام يذرف الدموع ليلَ نهار، لا يفتؤ يذكر الحسين الشهيد ومصائبه، فهم: .
بين مَن يُدرك: لماذا ذلك البكاء والحزن، والدمع الذارف المنهمر، والحزن الدائب المستمر ? وعلى مَن يبكي الإمام عليه السلام ?.
فكان ذلك سبباً لاستمرار الذكرى في الأذهان، وحياتها على الخواطر، وبقاء الأهداف حيّة نابضة، في الضمائر ووجدان التاريخ، وتكدّس النقمة والنفرة من القتلة الظلمة .
وبين مَنْ يعرف الإمام زين العابدين بأنه الرجل الفقيه، الزاهد في الدنيا، الصبور على مكارهها، فإنه لم يبك بهذا الشكل، من أجل أذىً يلحقه، أو قتل أحد، أو موت آخر، فإن هذه الأمور هي مما تعوّد عليها البشر على طول تاريخ البشرية بل هي سُنّة الحياة .
كما قال القائل :
له مَلَك يُنادي كلَ يومٍ * لِدُوا للموتِ وابنوا للخرابِ
وخصوصاً النبلاء والنابهين، والأبطال الذين يقتحمون الأهوال ويستصغرونها من أجل أهداف عظام ومقاصد عالية رفيعة .
فبكاء مثله، ليس إلاّ لأجل قضيّة أكبر وأعظم، خاصةً البكاء بهذا الشكل الذي لا مثيل له في عصره (19) .
لقد ركزّ الإمام زين العابدين عليه السلام على قدسيّة بكائه لمّا سُئل عن سببه ?.
فقال: لا تلوموني. فإنّ يعقوب عليه السلام فَقَدَ سبطاً من ولده، فبكى، حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، ولم يعلم أنه مات ..
وقد نظرتُ إلى أربعة عشر (20) رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداةٍ واحدة . فترونَ حزنهم يذهب من قلبي أبداً ? (21) .
إنّه عليه السلام في الحين الذي يربط عمله بما في القرآن من قصة يعقوب وبكائه، وهو نبي متَصل بالوحي والغيب، إذ لا ينبع فعله عن العواطف الخالية من أهداف الرسالات الإلهية .
وفي الحين الذي يمثّل لفاجعة الطفّ في أشجى مناظرها الدامية، وبأقصر عبارة وافية .
فهو يؤكّد على تبرير بكائه، بحيث يعذره كل سامع .
وفي حديث آخر: جعل الإمام عليه السلام من قضيّة كربلاء مدعاةً لكل الناس إلى إحيائها، وتزويدها بوقود الدموع، وإروائها بمياه العيون، ولا يعتبرونها قضية خاصةً بعائلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسب، بل هي مصاب كل الناس، وكل الرجالات الذين لهم
كرامة في الحياة، أو يحسّون بشي اسمه الكرامة، أو شخص يحسّ بالعاطفة، فهو يقول: .
وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة .
أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ?.
أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ?.
أم أيّ عين منكم تحبس دمعها ? (22) .
وكان عليه السلام يحثّ المؤمنين على البكاء ويقول :.
أيّما مؤمنٍ دمعتْ عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتّى تسيل على خدّه، بوّأه الله تعالى بها في الجنّة غُرفاً يسكنها أحقاباً .
وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّيه مما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله منزل صدق (23) .
وكان البكاء واحداً من الأساليب التي جعلها وسيلةً لإحياء ذكرى كربلاء، وقد استعمل أساليب أخرى ..
منها: زيارة الحسين عليه السلام.:
قال ابو حمزة الُثمالي: سألتُ عليّ بن الحسين، عن زيارة الحسين عليه السلام ?.
فقال: زرْهُ كلّ يومٍ، فإنْ لم تقدر فكلّ جمعةٍ، فإنْ لم تقدر فكلّ شهر، فمن لم يزره فقد استخفّ بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (24) .
ومنها: الاحتفاظ بتراب قبر الحسين عليه السلام :.
فكانت له خريطة ديباج صفرأ، فيها تربة قبر أبي عبد الله عليه السلام، فإذا حضرت الصلاة سجد عليها (25) .
ومنها: خاتم الحسين عليه السلام :.
فقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يتختّم بخاتم أبيه الحسين عليه السلام (26) .
كما كان ينقش على خاتمه: (خزيَ وشقي قاتل الحسين بن علي عليه السلام) (27) .
ومن المؤكد أن الإمام عليه السلام لم يتبع هذه الأساليب لمجرد الانعطاف مع العواطف والسير وراءها، ولا لضعف في نفسه، أو لاستيلاء هول الفجيعة على روحه، ولم يتّخذ مواقفه من بني أمية نتيجةً للحقد أو الانتقام الشخصي، ممن له يد في مذبحة كربلاء .
وإنما كان عليه السلام يلتزم بتلك الخطط ويتبع تلك الأساليب لإحياء الفكرة التي من أجلها قتل الحسين عليه السلام واستشهد هو وأصحابه على أرض كربلاء فضرّجوا تربتها بدمائهم الزكية .
ولقد أثبت ذلك بصراحة في حياته العملية :
فقد كانت له علاقات طبيعية مع عوائل بعض الأمويين مثل مروان بن الحكم، الذي التجأ بأهله وزوجته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان إلى بيت الإمام زين العابدين عليه السلام، فأصبحوا تحت حمايته، مع أربعمائة عائلة من بني عبد مناف، مدّة وجود الجيش الأموي في المدينة، فأمنوا من استباحتهم لها وهتكهم الأعراض فيها، في واقعة الحرّة الرهيبة (28) .
وبالإضافة إلى أن الأئمة عليهم السلام بعيدون عن روح الانتقام الشخصي وإنما يغضبون لله لا لأنفسهم، فإنهم يشملون باللطف والرحمة النساء والأطفال في مثل تلك الظروف، وبذلك يكسبون ودّ الجميع حتّى الأعداء، ويثبتون جدارتهم، ولياقتهم
لمنصب الإمامة والزعامة .
فكسب الإمام زين العابدين عليه السلام بمواقفه اعتقاد الجهاز الحاكم فيه أنه (خير لا شرّ فيه) (29) وأنه (مشغول بنفسه) (30) .
ذلك الاعتقاد الذي أفاد الإمام عليه السلام نوعاً من الحرّية في العمل في مستقبل تخطيطه ضدّ الحكم الأموي الغاشم، وعزّز موقعه الاجتماعي حتّى تمكّن من اتخاذ المواقف الحاسمة من الظالمين وأعوانهم .
كما رُسمت في سيرته الشريفة صور من صبره على المصائب والبلايا، ممّا يدل على صلابته تجاه حوادث الدنيا ومكارهها، وهي أمثلة رائعة للمقاومة والجَلَد .
فعن إبراهيم بن سعد، قال: سمع علي بن الحسين واعيةً في بيته، وعنده جماعة، فنهض إلى منزله، ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمن حدثٍ كانت الواعية ?.
قال: نعم . فعزّوه، وتعجّبوا من صبره .
فقال: إنّا أهل بيت نطيع الله في ما نحب، ونحمده في ما نكره (31) .
ونتمكّن من استخلاص الهدف الأساسي من كلّ هذه الإثارات لقضيّة كربلاء وشهدائها خصوصاً ذكر أبيه الإمام الشهيد عليه السلام من خلال الحديث التالي.:
قال عليه السلام لشيعته: عليكم بأداء الأمانة، فو الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به، لأديته إليه (32) .
ففي الوقت الذي يُشير فيه إلى مأساة قتل الحسين عليه السلام، ويذكّر بقتله، ليُحيي معالمها في الأذهان، فهو يؤكّد بأغلظ الأيمان على أنّ أمراً (مثل أداء الأمانة) يوجِبُه الإسلام، هو فوق العواطف والأحاسيس الشخصيّة .
وهو يُوحي بأنّ الإمام الحسين عليه السلام إنما قتل من أجل تطبيق كلّ المبادىء التي
جاء بها الإسلام، والتي بعث بها جدّه النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الإمام زين العابدين يُريد الاستمرار على تلك المبادىء والخطط التي أنار الحسين الشهيد عليه السلام معالمها بوقود من دمه الطاهر . وهو في الوقت ذاته، يرفع من قيمة البكاء أن يكون من أجل أمور مادّية ولو كانت الدنيا كلها :.
ففي الخبر أنّه عليه السلام نظر إلى سائل يبكي !.
فقال عليه السلام: لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي (33) .
نسأل الباري ان يجعلكم ويشملنا من انصار الحجه المنتظر ارواحنا له الفدا
نسألكم الدعاء كلما رفعتم لله كفا

(33) كشف الغمة (2: 106) عن كتاب نثر الدرر للاَبي .
(29) قاله مسرف بن عقبة لما استباح المدينة، انظر في ما مضي من كتابنا هذا (ص 71) .
( 30) قاله الزهري لعبد الملك، انظر (ص 212) في ما يأتي .
( 31) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور (1: 240) .
(32) أمالي الصدوق (ص 128) المجلس (43) .
(26)نقش الخواتيم للسيد مرتضى(ص11)
(27)نقش الخواتيم (ص25)عن الكافي (6: 473 )ومسند الرضا عليه السلام (2: 365 )وبحار الأنوار (46: 5 )
( 28) أنساب الأشراف (4: 323 )تاريخ الطبري (5: 493 )ومروج الذهب (2: 14 )وكشف الغمة (2: 107:)
( 19) أمالي الصدوق (ص 121) ولاحظ بحار الأنوار (46: 108) الباب (6) الحديث (1) .
(20 ) يلاحظ أن المعروف في عدد المقتولين من أولاد علي وفاطمة عليهما السلام في كربلاء هم (ستة عشر) رجلا، الوسائل المزار الباب (65) تسلسل (96941) عن عيون أخبار الرضا عليه السلام (1/299)لاحظ نزهة الناظر (ص 45) .
( 21) كامل الزيارات (ص 107) أمالي الصدوق (المجلس 9 و 91) تيسير المطالب لأبي طالب (ص 118) وتاريخ دمشق الحديث (78) ومختصره لابن منظور (17: 239) وحلية الأولياء (3: 138) .
( 22) كامل الزيارات (ص 100) مقتل الحسين عليه السلام للأمين (ص 213) ولاحظ كتابنا هذا (ص 66) .
( 23) ثواب الأعمال (ص 83) .
(24 )فضل زيارة الحسين للعلويّ (ص 43) ح 17 .
(23)بحار الأنوار (46: 79) باب 5، الحديث 75 وعوالم العلوم (ص 129) وباختصار في مناقب ابن شهرآشوب (4: 162) عن مصباح المتهجد للشيخ الطوسي.