

مستمسكات الثورة
ارتفعت الزهراء بأجنحة من خيالها المطهر إلى آفاق حياتها الماضية ودنيا أبيها العظيم التي استحالت حين لحق سيد البشر بربه إلى ذكرى في نفس الحوراء متألقة بالنور، تمد الزهراء في كل حين بألوان من الشعور والعاطفة والتوجيه، وتشيع في نفسها ضروبا من البهجة والنعيم، فهي وإن كانت قد تأخرت عن أبيها في حساب الزمن أياما أو شهورا، ولكنها لم تنفصل عنه في حساب الروح والذكرى لحظة واحدة.
وإذن ففي جنبيها معين من القوة لا ينضب، وطاقة على ثورة كاسحة لا تخمد، وأضواء من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفس محمد تنير لها الطريق، وتهديها سواء السبيل.
وتجردت الزهراء في اللحظة التي اختمرت فيها ثورة نفسها عن دنيا الناس، واتجهت بمشاعرها إلى تلك الذكرى الحية في نفسها لتستمد منها قبسا من نور في موقفها العصيب، وصارت تنادي: إلي يا صور السعادة التي أفقت منها على شقاء لا يصطبر عليه... إلي يا أعز روح علي، وأحبها إلي... حدثيني وأفيضي علي من نورك الإلهي، كما كنت تصنعين معي دائما.
إلي يا أبي أناجيك إن كانت المناجاة تلذ لك، أبثك همومي كما اعتدت أن أفعل في كل حين، وأخبرك أن تلك الظلال الظليلة التي كانت تقيني من لهيب هذه الدنيا لم يعد لي منها شيء.
قد كان بعدك أبناء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إلي يا ذكريات الماضي العزيز حدثيني حديثك الجذاب ورددي على مسامعي كل شيء لأثيرها حربا لا هوادة فيها على هؤلاء الذين ارتفعوا أو ارتفع الناس بهم إلى منبر أبي ومقامه، ولم يعرفوا لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقوقهم، ولا لبيتهم حرمة تصونه من الإحراق والتخريب، ذكريني بمشاهد أبي وغزواته ألم يكن يقص علي ألوانا من بطولة أخيه وصهره واستبساله في الجهاد، وتفوقه على سائر الأنداد، ووقوفه إلى صف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشد الساعات، وأعنف المعارك التي فر فيها فلان وفلان وتقاصر عن اقتحامها الشجعان. أيصح بعد هذا أن نضع أبا بكر على منبر النبي وننزل بعلي عما يستحق من مقام.
خبريني يا ذكريات أبي العزيز أليس أبو بكر هو الذي لم يأتمنه الوحي على تبليغ آية للمشركين؟ وانتخب للمهمة عليا، فماذا يكون معنى هذا إن لم يكن معناه أن عليا هو الممثل الطبيعي للاسلام الذي يجب أن تستند إليه كل مهمة لا يتيسر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرتها.
إني لأتذكر بوضوح ذلك اليوم العصيب الذي أرجف فيه المرجفون لما استخلف أبي عليا على المدينة وخرج إلى الحرب، فوضعوا لهذا الاستخلاف ما شاؤوا من تفاسير، وكان علي ثابتا كالطود لا تزعزعه مشاغبات المشاغبين، وكنت أحاول أن يلتحق بأبي ليحدثه بحديث الناس، وأخيرا لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم رجع متهلل الوجه ضاحك الأسارير، تحمله الفرحة إلى قرينته الحبيبة ليزف إليها بشرى لا بمعنى من معاني الدنيا بل بمعنى من معاني السماء. فقص علي كيف استقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحب به وقال له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)، وهارون موسى كان شريكا له في الحكم، وإماما لامته، ومعدا لخلافته، فلابد أن يكون هارون محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليا للمسلمين وخليفته فيهم من بعده.
ولما وصلت إلى هذه النقطة من أفكارها المتدفقة صرخت إن هذا هو الانقلاب الذي أنذر تعالى في كتابه إذ قال: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم). فها هم الناس قد انقلبوا على أعقابهم، واستولى عليهم المنطق الجاهلي الذي تبادله الحزبان في السقيفة حين قال أحدهما: (نحن أهل العزة والمنعة، وأولوا العدد والكثرة، وأجابه الاخر: من ينازعنا سلطان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أولياؤه وعترته) وسقط الكتاب والسنة في تلك المقاييس ثم أخذت تقول:
يا مبادئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جرت في عروقي منذ ولدت كما يجري الدم في العصب، إن عمر الذي هجم عليك في بيتك المكي الذي أقامه النبي مركزا لدعوته قد هجم على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دارهم وأشعل النار فيها أو كاد...
يا روح أمي العظيمة إنك ألقيت علي درسا خالدا في حياة النضل الإسلامي بجهادك الرائع في صف سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وسوف أجعل من نفسي خديجة علي في محنته القائمة.
لبيك لبيك يا أماه إني أسمع صوتك في أعماق روحي يدفعني إلى مقاومة الحاكمين.
فسوف أذهب إلى أبي بكر لأقول له: (لقد جئت شيئا فريا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة) ولأنبه المسلمين إلى عواقب فعلتهم والمستقبل القاتم الذي بنوه بأيديهم وأقول: (لقد لقحت فنظرة ريثما تحلب، ثم احتلبوها طلاع القعب دما عبيطا، وهناك يخسر المبطلون، ويعرف التالون، غب ما أسس الأولون).
ثم اندفعت إلى ميدان العمل وفي نفسها مبادئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وروح خديجة، وبطولة علي، وإشفاق عظيم على هذه الأمة من مستقبل مظلم

اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرج ولي الله

المصدر كتاب عقائد الشيعه الاماميه للسيد محمد باقر الصدر طاب ثراه