اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
﴿ثُمَ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِاَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِيَسوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَلَ مَرَةٍ وَلِيُتَبِرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا * عَسَى رَبُكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَاِنْ عُدتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً * إِنَ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِرُ الْمُؤْمِنِينَ الَذِينَ يَعْمَلُونَ الصَالِحَاتِ اَنَ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ [الإسراء: 6-9].
يقف الانسانُ حائراً مبهوتاً أمام عظمة وشموخ سيدتنا زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السلام)، هذه السيدة التي استطاعت ان تقهر بصبرها واستقامتها وصمودها إمبراطورية الأمويين، وقد أضحت هذه المرأة الجليلة القدر الأسوة والقدوة الحسنة لأجيال الثائرين بشكل عام، وللنساء منهم بصورة خاصة، نظراً لما تحمّلته من أثقال المصائب الكبرى، ونظراً لما نجحت فيه من تحمّل أعباء الثورة التي قام بها أخوها سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام)، فلقد حملت هذه السبطة الشهيدة أثقالاً تعجز الجبال عن حملها حينما عادت الى المدينة المنورة بعد فاجعة كربلاء العظمى، التي لم ولن يشهد التأريخ لها مثيلاً فيما مضى أو فيما يأتي! إذ بمجرد دخولها مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تحولت إلى محلّ للبكاء ومأتم طال به الدهر، حيث نشرت عقيلة الهاشميين راية السبط الشهيد (عليه السلام) على ربوعها، كما استطاعت ـ بداعي الاستقامة والوعي ـ أن تنصب لقضية كربلاء مجلساً حسينياً في كل بيت من بيوتها وفي كل شبر من بقعتها المباركة، حتى أن روايات التاريخ لتذكر مدى الرعب والهلع الذي أصاب والي المدينة ودعاه إلى الاستنجاد بيزيد بن معاوية، قائلاً له عبر رسالة بعثها إليه: "إن زينب امرأة عاقلة حكيمة، وإنها تثير وتؤلب أهل المدينة وتحرضهم على الانتقام منك"، فكتب يزيد إليه رسالة يدعوه فيها إلى ضرورة التفرقة بين السيدة زينب (عليها السلام) وبين أهل المدينة، فبعث الوالي إلى الصديقة الصغرى زينب الكبرى من يقول لها: "اُخرجي من المدينة واختري أي مدينة شئتي"، إلاّ ان اُخت سيد الشهداء أبت الانصياع لهذا الأمر الظالم، قائلة بكل صمود واستقامة وصبر: «ماذا يريدون أن يصنعوا بنا؟ هل هي إلاّ الشهادة؟»، فهي أعربت بكل وضوح عن الرغبة في الاستمرار على طريق الثورة المقدسة، وأبت ما شاء لها أن تأبى عن التملص دون تحمل المسؤولية، لولا ان نساءً هاشميات أحطن بها وحاولن إقناعها بالخروج من المدينة، وغالب الظن أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) هو الذي حبّب اليها الخروج، فخرجت إما الى ارض مصر على قول بعض الرواة وإمّا الى الشام، حيث مرقدها الذي اصبح كعبة لعشاق الثورة الحسينية والاستقامة الزينبية.
ومرة أخرى، يقف المرءُ منبهراً متسائلاً عن السرّ وراء مثل هذه الصلابة وهذا الصمود المعهود من سيرة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)، فماذا كانت تمتلك من اسباب مكّنتها من هزيمة الظالم يزيد بن معاوية ومن قبله عبيد الله بن زياد، وهي المرأة المجردة من كافة الوسائل المادية؟!
وللإجابة عن هذا التساؤل الكبير، لابد من القول بأن مجرد المشاركة في الشعائر الحسينية أو أقامتها وزيارة مراقد أهل البيت (عليهم السلام) غير كافيان ابداً للنهوض بمستوى الإنسان الروحي والمعنوي، بل إن الأمل والتطلع والطموح عبارة عن عوامل من شأنها ان تحدو بنا إلى التزود لمسيرتنا الطويلة، فنحن في هذه الدنيا عُرضة للامتحان والابتلاء والافتتان الذي لا يقتصر على شكل من الأشكال، وحكمة الله (تبارك وتعالى) اقتضت أن تكون دار الدنيا محلاً لصقل وتشذيب بني آدم، والاساس في نجاح الانسان لدى الامتحان والمحنة هو التزود بالتقوى، ﴿وَتَزَوَدُوا فَإِنَ خَيْرَ الزَادِ التَقْوَى﴾، وهذا العامل هو الأساس من بين العوامل التي جعلها الله سبحانه للحيلولة دون سقوط الانسان في مهاوي الشيطان والهوى والفشل، فكل لحظة يعيشها المرء ويقضيها من عمره المقدّر له لا تعدو كونها مساحة للامتحان، بدءً من إدراكه وبلوغه حتى لحظة انتزاع الروح من جسده، وإذا كانت عوامل الصحة والصداقة والجاه والمال من شأنها تيسير حركة الانسان في الدنيا، فان عامل التقوى هو العامل الوحيد الذي يضفي على بقية العوامل مصداقيتها وايجابيتها في الحياة الدنيا، وهو العامل الوحيد أيضاً الذي يمكن الانسان من عبور العقبات المستحيلة التصور في الدار الآخرة، التي تبدأ أولى مراحلها ولحظاتها فور انفصام الروح عن الجسد، فعندما يوضع المرء في القبر ويرى نفسه وحيداً فريداً في حفرته الظلماء، وإزاء هذا الضغط المادي والمعنوي الذي لا يوصف، لا تنفعه غير التقوى والعمل الصالح، وعند القيام من القبور والشخوص الى يوم الحشر، ذلك اليوم الرهيب، يوم الفصل والندامة والحسرة والتغابن، فانه لا ينفع المرء سوى ما كان لديه من قلب سليم معمور بالتقوى.
وبناءً على ما تقدم، فان زينب بنت علي (عليها السلام) ما كان باستطاعتها ابداً ان تقف امام الطاغية يزيد متحدية إياه بكل جرأة وشجاعة قائلة له: «فكد كيدك واسعَ سعيك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا»، ما كانت لتستطيع كل ذلك لو لم تكن قد مهدت لقولتها هذه روحاً مفعمة بالتقوى وجوارح ما امتدت إلى الدنس ابداً، وفي موقف كان يهابه الرجال الشجعان، لقد تمكنت السيدة زينب (سلام الله عليها) من اعتقال الطغاة الأمويين الذين ظنوا انهم قد اعتقلوها بقيودهم وتفاخرهم وغرورهم واُبّهتهم، ففي الوقت الذي كانت فيه تعاني المرض والانهاك والأذى، وقفت هذه السيدة العظيمة كالطود الشامخ أمام يزيد، قائلة له: «إني لأستصغر قدرك»، أي أنها كانت في مستوى تستصغر وتستحقر وتستهزئ بهذا الطاغية وملكه الواسع وجبروته الشاسع.
كانت عقيلة الهاشميين زينب (عليها السلام) على علمٍ مسبق ومعرفة روحانية تامة بان الدنيا مزرعة الآخرة، وكانت على مطلق الدراية أيضاً بأن الانبياء والرسل والأئمة والاولياء الصالحون لم يأتوا الى هذه الدنيا إلا ليقولوا للناس بان هذه الدنيا ليست هي المستقر أو المقام، وانما هناك ثمة دار آخرة ينبغي ان يحسبوا لها حسابها الأول، وهي دار الجزاء، ولقد اتخذت السيدة زينب (عليها السلام) هذه الفكرة عقيدة أساسية في مسيرتها الباهرة، فهي حينما أقبل عليها اللعين عبيد الله بن زياد مصرحاً بالكفر قائلاً: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم"، فأجابته بالقول الصادع: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمّد (صلى الله عليه وآله)، وطهرنا من الرجس تطهيرا! انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله»، فقال ابنُ زياد: "كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتك"؟ فقالت (سلام الله عليها) بكل صلابة وثبات: «ما رأيتُ إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك».
وينقل لنا التأريخ صوراً بطولية اُخرى رسمتها السيدة زينب (عليها السلام)، وفي ذلك أبلغ تعبيراً عما كانت تكنه من يقين ورضاً بما كتب الله لها، ففي الوقت الذي كانت فيه منهمكة في إدارة شؤون قافلة الاسرى، لمحت من الامام السجاد (عليه السلام) أنه يجود بنفسه، وكأنه في النزع الأخير جراء مرضه المعروف إبان واقعة الطف، وما تعرض له من ألم نفسي وجسدي بفعل رؤيته مصرع إمامه الحسين (عليه السلام) وأصحابه البررة، وبفعل ما لاقاه من اضطهاد، في هذا الوقت بالذات أدركت السيدة زينب (عليها السلام) الموقف بكل حكمة ورصانة، قائلة: «يابن أخي! ان هذا عهد عهده الله على جدك وابيك...»، ثم اخذت تقصّ عليه قصة طويلة، مفادها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فعملت له طعاماً، ثم جاءت أم أيمن بالتمر وعلي (عليه السلام) بالعسل، فجلس أهلُ البيت (عليهم السلام) بمعية أم أيمن يأكلون، فأبدا الرسولُ الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) انشراحه وابتسامته، لا سيما وأن أمير المؤمنين سأله عن ذلك، فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن كيف لا ينشرح وهو يجدهم مسرورين?! فلا شملٌ أقدس من شمل أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسنين (عليهم جميعاً سلام الله)، ولكن الحال لم يدم على ما هو عليه، إذ تغير وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وامتقع لونه ووقع على الأرض ساجداً باكياً، ثم رفع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأسه بعد طول سجود، فهاب الجمع أن يسألوه، وبعد مدة ليست بالقصيرة تقدم علي (عليه السلام) الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسؤال عن التغير هذا وماذا رأى أو سمع؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا علي! هذا جبرائيل يخبرني بما يجري عليكم من بعدي»، وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يروي للامام علي (عليه السلام) فجائع كربلاء والمصائب التي ستمر على الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، وهنا بكى الجميع ودعا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بحسن العاقبة والصبر.
فترى كيف استطاعت السيدة زينب (عليها السلام) ان تحافظ على هدوئها ورصانتها واستقرارها، وهي تقص القصة على الامام زين العابدين (عليه السلام)، وكيف تمكنت من المحافظة على صبرها وصمودها، وهي كانت تنظر من قبل إلى الأجساد المقطعة الموزعة على أرض كربلاء، وهذه الأجساد جسد أخيها وإمامها الحسين (عليه السلام) وبقية إخوانها وأولادها وأقاربها؟
إن النزر اليسير الذي استطاع المؤرخون ان يجمعوه من السيرة العامة للسيدة زينب (عليها السلام)، ليشير بكل جلاء الى ان هذه المرأة العظيمة كانت تمتلك اليقين من أمر ربّها، الداعي الى تبصرة الانسان بانه لم يأتِ الى الدنيا ليبقى فيها او يخلد، وهذه القدرة الخارقة التي تتضمنها درجة اليقين هي التي تمكن بني البشر من الاطمئنان والتفرغ الى الآخرة بشكل نهائي، وهذه الحقيقة لا يدركها تمام الادراك إلا من كان له قلب، ولذلك فقد كان الامام علي بن الحسين (عليه السلام) يطيل الجلوس بعد الصلاة داعياً الله تعالى أن يرزقه اليقين، اليقين الذي يستعقبه الاطمئنان الروحي والنفسي الى ان دار الدنيا مقدمة لدار الآخرة.
ونحن إذ نعيش في مجتمعات وظروف يطغى عليها التفكك والازمات الاخلاقية، وتكاد العلاقات الاخوية والتعاون وحب الخير للآخرين تنعدم، لحريٌ بنا ان نعود إلى سيرة أئمة الهدى (عليهم السلام) الذين كانوا يوصون شيعتهم بضرورة التحابب ونبذ المشاكل والنظر إلى دار الدنيا نظرة خبير معتبر، حتى قال الامام الصادق (عليه السلام): «كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم»، ففي ان نطلق لألسنتنا العنان ونوجه التهم الى هذه المجموعة أو تلك وان نتنابز بالألقاب وان يسخر بعضنا من بعض، ففي ذلك مضيعة لديننا وتهاوناً بوصايا أولياء امورنا الذين فرض الله علينا طاعتهم، وفي الوقت ذاته نتحول الى مجرد همج رعاء ننعق مع كل ناعق.
إن السيدة زينب (عليها السلام) كانت ملازمة لامها الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) طيلة حياتها، مستلهمة منها أنبل الصفات واروعها، فضلاً عن انها كانت تشاركها حزنها العميق على فقد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما ان الأمر الذي يدل على مقامها الرفيع ووعيها الواسع هو انها هي التي روت للتاريخ الخطاب العظيم الذي خطبته الزهراء (عليها السلام) دفاعاً عن حق أهل البيت ضد مصادريه، وظلت زينب مراقبة للأحداث المفجعة التي مرت على أمها وأبيها وأخويها، فتزيدها صلابة وصموداً وصبراً، ثم انها كانت على التزام ثابت ودائم بوصايا جدها وامها وابيها لها بضرورة التخلق بأخلاق القرآن، فكانت نعم المرأة المجاهدة الصابرة التي انتظرت طيلة حياتها المقدسة ان تؤدي المهمة العظيمة الملقاة على عاتقها، الا وهي صياغة ونشر مظلومية وحركة الامام الحسين (عليه السلام) الثورية.
نسأل الله العزيز القدير ان يوفقنا لما يحب ويرضى، وان يحيينا حياة محمد وآل محمد، وان يميتنا ممات محمد وآل محمد، وان يلهمنا الصبر والتقوى، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
شبكة جنة الحسين (عليه السلام) الحسينية التخصصية
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين