اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن اللانهاية عندما تقسم على النهاية، يكون الجواب هو: لا نهاية.. وهذه هي معادلة الحياة، ومعادلة العمر.. فنحن نريد أن نشتري الأبدية واللانهاية، بهذه السنوات المحدودة في هذه الدنيا.. يا لها من معادلة رهيبة!.. إن متوسط الأعمار ثلاثون سنة، وأكثر من الثلث يذهب في النوم والشرب وما شابه ذلك.. والسنوات الأخيرة من العمر سنوات غير منتجة، فهي سنوات تعب ومرض.. وعليه، فإن العمر المؤثر والمفيد، حوالي الخمسين أو بعده بقليل.
- إن الأطباء في الغرب عندما يكتشفون أن الطرف المقابل، مصاب بمرض خبيث، فبلا مقدمات وبلا تهيئة نفسية، يخبرونه بذلك.. فإن منطقهم أن الصراحة راحة، وأن الإنسان يجب أن يكون منطقيا وواقعيا، ولا داعي للمجاملة.. أما في بلادنا، فإن الأطباء عادة يحاولون أن يمرروا الفكرة بشكل تدريجي.. أما نحن فيجب أن نتأسى بعرف الأطباء في بلاد الغرب، عند الحديث عن الموت.. فنحن مقدمون على الأبدية، وهذه الأبدية تباع في سوق الدنيا بسنوات محدودة، وبها نحدد المسار الأبدي.. إن تصور الأبدية يصعب على العقول؛ لأن عقولنا محدودة.. وكي نستوعب الأبد، نحتاج إلى ذهن في حدود الأبد، وفي حدود اللانهاية.. ونحن -إن شاء الله- عندما ندخل الجنة نعلم ما معنى الأبدية.
إن نعيم الجنة كله في جانب، وهذه الرسالة التي تأتي من الله -عز وجل- في جانب: (من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي لا يموت).. من الحي الذي لا يموت، بنفسه، وبه، وبلا مدد الغير.. إلى الحي الذي لا يموت، بأمره، فأمْرنا إليه.. إذا أراد أن يقطع الخلود، قطع الخلود.. فإذن، إن المعادلة رهيبة ومخيفة، ومن هنا فإن الإنسان العاقل، يفكر بمنطق عقلي.
- إن من آثار استيعاب هذه المعادلة: الحيوية والنشاط في الدنيا.. مع الأسف إن الذين يغلب عليهم ذكر الموت من دون وعي، ومن دون غطاء توعوي أو تثقيفي صحيح؛ فإنه يجلس في زاوية.. وإذا كان له عمل، فإنه يترك عمله.. وبعضهم يتقاعس في سنوات التقاعد، ويؤثر حياة العزلة في المنزل، ويترك كل نشاط اجتماعي، وتجاري، وغيره.. والحال بأن ذكر الموت، يدفع الإنسان للحياة النشيطة، وللعمل التجاري.
رأى الزهري علي بن الحسين (ع) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يا بن رسول الله ما هذا؟.. قال: أريد سفرا أعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز، فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى.. قال: أنا أحمله عنك، فإني أرفعك عن حمله.. فقال علي بن الحسين (ع): لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني.. فانصرف عنه، فلما كان بعد أيام قال له: يا بن رسول الله!.. لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً، قال: بلى يا زهري!.. ليس ما ظننت، ولكنه الموت وله أستعدّ، إنما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى في الخير.
إن الإنسان عادة في الليالي المطيرة والباردة، يؤثر الجلوس إلى جانب النار الدافئة، وكان بإمكان الإمام (ع) في هذه الساعات، أن يدعو بمناجاته التي رواها أبو حمزة الثمالي.. ولكن الإمام كان في هيئة غريبة، على ظهره دقيق وحطب.. فالإمام وجود متنوع، ووجود جامع.. لهذا نقول دائماً وأبداً: إن المؤمن وجود جامع، وخريطة متكاملة: له علاقة بالله، وله علاقة بالخلق، وله سفر من الخلق إلى الحق، ومن الحق إلى الخلق... فهو إنسان متنوع كما كان النبي وآل النبي.
- إن الإنسان كلما زاد اعتقاداً بهذا السفر، وبأن هنالك مراحل مخيفة بعد هذا السفر، وأنه بحاجة إلى زاد، كلما زاد تحركاً في الحياة.. فالإمام (ع) كان يقوم بدور التكافل الاجتماعي، وللإمام أبعاد أخرى: تعليم الأمة، والجهاد، ومواكبة ركب الحسين في كربلاء، وتحمل الأغلال الجامحة، وخطبته في مسجد دمشق.. وهناك عشرات النشاطات والحركات، التي كان يقوم بها الإمام زين العابدين (ع).. وليس تحت هذه السماء منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا، مجموعة حديث مع رب العالمين بهذه الروعة، وبهذه العاطفة، وبهذا الفهم، وبهذه المواقف الفكرية والمفاهيم المكتنفة، كصحيفة الإمام، وهو زبور آل محمد (ص).. نعم إنه وجود متنوع في كل شيء.. فإذن، إن الدرس الأول هو أن الإنسان الذي يفكر في هذا السفر، يزداد إعداداً، ويزاد استعداداً...