اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التكامل فطرة جُبل عليها الإنسان منذ أن وُجد على ظهر هذا الكوكب، والسعادة غايته التي يسعى إليها، وهو دائب السعي وراء ما يحقّق له الهدف، ويوصله إلى غايته القصوى.
ومن بديهيات الإيمان بالله واليوم الآخر أنّ أتمّ سعادة وأكملها للإنسان هي القرب من الله تعالى والوصول إليه ـ جلّت آلاؤه وعظمت نعماؤه ـ لأنّه الكمال المطلق. وهذا هو أسمى هدف خُلق الإنسان من أجله; قال سبحانه: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)1، وقال تعالى: (إِنَّ إِلَى ربِّكَ الرُّجْعَى)2. فهو ـ عزّ وجلّ ـ غاية ليس بعدها غاية، وهدف ليس وراءه أيّ هدف. إلاّ أنّ الإنسان عاجز عن الوصول بنفسه إلى الكمال المنشود له. فهو دائم الحاجة طوال مسيرته في هذه النشأة، إلى مَن يأخذ بيده ليدلّه على غايته المطلوبة، وهدفه الذي يسعى إليه. من هنا نشأت الحاجة إلى الدين، لأنّه السبيل الوحيد في وصول الناس إلى غايتهم، فكان من لطف الله سبحانه أن أرسل إليهم (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)3، هداة إلى الله سبحانه، وأدلاّء على مرضاته، ولئلاّ يقول أحد: (رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)4، وهكذا شرعت الرسالات تترى على الناس، كلّما استكملت رسالة أهدافها أعقبتها أُخرى أوسع منها وأشمل لتلبية حاجات الأمم ومتطلّباتها.
الملاحظ من خلال مطالعة الكتاب العزيز والسنّة الشريفة أنّ الرسل لم يكونوا في مرتبة واحدة، بل إنّ لكلّ واحد منهم خصائصه الذاتية والرسالية. كما أنّهم ليسوا صنفاً واحداً، ولا هم في مرتبة واحدة، فهناك أنبياء ورسل، والنبيّ غير الرسول. وقد تجتمع النبوّة والرسالة في شخص واحد; قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى…) 5، وقال سبحانه: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً)6.
كما تميّز أولو العزم من الرسل بمميّزات خاصّة، ربّما كان من بينها (الصبر); قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)7.
بل نجد أولي العزم أنفسهم يختلفون في مراتبهم وتتفاوت درجاتهم; قال الله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات…)8.. إلى غير ذلك ممّا أُوتوا من خصائص متفاوتة.
من مفاهيم قرآنية تمتّ للعصمة بأوثق الصلة; ممهّدين له من خلال النقاط الثلاث الآتية:
1 ـ الإمامة والنبوّة
2 ـ استمرار الإمامة
3 ـ العهد لا ينال الظالم الإمامة والنبوّة
قال الله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)9.
من الملاحظ أنّ إبراهيم عليه السلام لم يبلغ مقام الإمامة إلاّ أواخر أيّام حياته، وهذا يعني أنّ الإمامة متأخّرة عن النبوّة والرسالة وغيرهما من المقامات السامية التي بلغها خليل الرحمن عليه السلام، وأنّها مقام يختلف عن النبوّة والرسالة. يدلّ على ذلك شواهد جمّة; منها:
1 ـ طلب الإمامة للذرّية: فمن الواضح أنّ حصول إبراهيم عليه السلام على الذرّية كان في كبره وشيخوخته، كما حكى عنه قول الله تعالى في القرآن الكريم: (الْحَمْدُ للهِِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)10. وحكى عن زوجة إبراهيم: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)11. وتفيد أحاديث بشارته بالولد في القرآن الكريم أنّه كان نبيّاً مرسلاً تتنزّل عليه الملائكة آنذاك.
ونجد إبراهيم الخليل عليه السلام في آية الإمامة يطلبها لذريته، مع أنّه لا يصحّ مثل هذا الطلب إلاّ لمن كان لديه ذريّة، أمّا من كان آيساً من الولد، ويجيب مبشّريه به بالقول: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ)12 فيُعدّ مثل هذا الطلب منه أمراً غير صحيح; فلا يُعقل صدوره منه مع ما يحظى به من مقام النبوّة والرسالة.
فهذا يدلّنا بوضوح على أنّ مقام الإمامة إنّما انتهى إليه في أخريات أيّام حياته، كما يدلّنا ـ بالتبع ـ على اختلاف مقامَي النبوّة والإمامة.
2 ـ إنّ إبراهيم عليه السلام لم ينل مقام الإمامة السامي إلاّ بعد الابتلاء والامتحان كما هو صريح قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات)13 ومن جملة ما ابتُلي به في حياته ذبح ولده، قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ٭ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ٭ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ٭ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ)14.
ومن الواضح أنّ حادثة الذبح كانت أيّام شيخوخته وكبره عليه السلام أي بعد نبوّته، وهذا ممّا يعني أنّ النبوّة كانت قبل الإمامة، وأنّهما مقامان مختلفان.
3 ـ الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث مطوّل يقول فيه:
(وقد كان إبراهيم عليه السلام نبياً وليس بإمام، حتّى قال الله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فقال الله: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، من عبدَ صنماً أو وثناً لا يكون إماماً)15.
4 ـ ما روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال:
(إنّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وإنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)، قال: فمن عظمها في عين إبراهيم (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، قال: لا يكون السفيه إمام التقيّ)16.
من خلال هذه الشواهد يتّضح لنا أنّ الإمامة مقام يختلف عن مقام النبوّة والرسالة، بل هي أسمى منهما وأرفع، وأنّ إبراهيم عليه السلام بلغها أيّام شيخوخته، بعد أن خرج من جميع ما ابتلاه الله تعالى به صابراً مسلّماً(17)
وللحديث تتمه
السيد كمال الحيدري