اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وكيف لا تكون هذه الزيارة كذلك، وإن عباراتها مليئة بينابيع العشق والعرفان، إنها عبارات قد إنطلقت من قلب يعتصره الألم بهول المصيبة، إنها إنهمرت من حجة الله المطلقة على خلقه، المهدي المنتظر (أرواحنا له الفداء) فكانت تحمل بين طياتها المعاني الجليلة في المعارف الإلهية، وتحث الإنسان على تحمل المسؤولية تجاه الدين والعقيدة، وتضخه بالوعي الكامل، وتزوده بأدوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدله على طريق الهدى والإستقامة، طريق الشهادة من أجل إحقاق الحق وإدحاض الباطل، وبالتالي الدفاع عن حرمة الدين وكرامة المؤمنين.
وعندما نقف على أعتاب زيارة الناحية للإمام الحسين (عليه السلام)، فإنما نقف على بحر متلاطم من المعارف والحقائق والوقائع والأحداث والمآسي والشواهد التي ينبهر المرء من عظمتها وهولها وهيبتها وشموخها، ويعتوره الوجل من الخوض في غمارها، فها نحن نقترب ونأخذ غرفا من البحر أورشفا من الديم، ونركز على بعض المضامين المهمة التي وردت في تلك الزيارة الخالدة.
أولا: الصلاة والسلام على الأنبياء والأولياء مع ذكر أهم صفاتهم ومعاجزهم وخصائصهم التشريعية والتكوينية.. (السلام على آدم صفوة الله من خليقته.. السلام على خامس أصحاب الكساء، السلام على غريب الغرباء، السلام على شهيد الشهداء، السلام على قتيل الأدعياء السلام على ساكن كربلاء...).
ثانيا: السلام على الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه الشهداء بين يديه مع ذكر أهم الخصائص المودعة في تلك الشخصيات العظيمة، والأسرار المكنونة في ذواتهم المقدسة. السلام على الحسين (عليه السلام) الذي بذل دمه وروحه في سبيل الله، وفي طريق إعلاء كلمة الحق، وإدحاض كلمة الباطل.
لقد كانت حياة الإمام تتفجر عظمة وجلالا وإعجازا، ولكنها أيضا تموج بالأسى والهول موجا، ذلك الإمام الهمام الذي أطاع الله في سره وعلانيته، إستطاع من أن يرفع لواء الإصلاح في أمة جده، وإنه حقا قد أوقد بدمه الطاهر مصابيح الأمر بالمعروف، وجسد في ثورته المباركة روح التمرد على المنكر والضياع والفساد، حتى أنه قد أعاد للأمة مجدها وعزها وكبريائها.
وها هو يؤكد على حقيقة ناصعة ألا وهي أن الدين والعقيدة هو أغلى ما في الوجود، وإنه ضرب أروع الأمثال للأجيال القادمة بالتضحية والفداء، لأنه قدم نفسه وأهله وذراريه وأصحابه -وهم خير البرية أجمعين- قدمهم قرابين في سبيل الله: إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني.
فالسيوف قد رملته بالدماء، فأخذ الإمام صاحب العصر والزمان يؤنبه بهذه الكلمات المدوية التي تدمي القلوب وتقرح الجفون (السلام على الجيوب المضرجات، السلام على الشفاه الذابلات، السلام على النفوس المصطلمات، السلام على الأرواح المختلسات، السلام على الأجساد العاريات، السلام على الجسوم الشاحبات، السلام على الدماء السائلات، السلام على الأعضاء المقطعات، السلام على الرؤوس المشالات).
ثالثا: حجة الله على خلقه عندما يقول بحق الحسين (عليه السلام) (فإني قصدت إليك ورجوت الفوز لديك) فماذا عسانا أن نقول نحن عندما نقف بحضرته المباركة!؟
البشرية جمعاء إنما ترفل بهذا العطاء الجزل من النعم الإلهية هو من بركة وجود قطب الوجود الذي لولاه لما خلق الله الأكوان والسماوات والارض... إن إماما يحمل كل هذه الصفات والمناقب والكرامات، فإنه يرجو الفوز والفلاح بالإمام الحسين (عليه السلام)!!
هذه العظمة والرفعة، ما هذه الأسرار الإلهية المكنونة في ذاته المقدسة (عليه السلام) التي لا يعرف كنهها سوى الحجة (عج)، فهو العارف الحقيقي لمنزلة الشهيد بكربلاء، وإنه يؤكد على هذه المعرفة بقوله (السلام عليك سلام العارف بحرمتك، المخلص في ولايتك، المتقرب إلى الله بمحبتك، البريء من أعدائك...)؟
وبعد هذا الفاصل العقائدي والولائي والمعرفي ينقلنا الإمام إلى لوحة أخرى من اللوحات المأساوية لحادثة الطف بقوله (سلام من قلبه بمصابك مقروح، ودمعه عند ذكرك مسفوح، سلام المفجوع الحزين، الواله المستكين...).
وبعد هذا المقطع يؤكد الإمام على مسألة مهمة للغاية ألا وهي أهمية الإنصياع لأمر القيادة الشرعية، وكيفية الذب عنها، والدفاع عن وجودها المقدس، لأن الدفاع عن القيادة والولاية، إنما هو دفاع عن القيم والمبادئ التي تتجسد فيها (سلام من لو كان معك بالطفوف، لوقاك بنفسه حد السيوف، وبذل حشاشته دونك للحتوف، وجاهد بين يدك، ونصرك على من بغى عليك، وفداك بروحه وجسده وماله وولده، وروحه لروحك فداء، وأهله لأهلك وقاء).
رابعا: الشهادة والإقرار بالصفات الكريمة والسيرة النبوية التي كان يتجلى بها الإمام الحسين (عليه السلام) (أشهد انك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر والعدوان وأطعت الله وماعصيته، وتمسكت به وبحبله فأرضيته وخشيته وراقبته وإستجبته).
نعم إن الإمام قد إستجاب لداعي الله، وجاهد الأعداء حق الجهاد، حتى أهرق دمه الطاهر، وتقطع جسده المطهر تثبيتا للسنن وإطفاء للفتن ودعوة إلى الرشاد، وإضاءة لسبل السداد.
خامسا: الحديث عن دوافع الثورة والنهضة ضد الظلم والجور والعدوان، فعندما إستفحل الفساد وإستشرى الإنحلال، وعم الظلم الأموي في الأمة، فإن الإمام قد شمر عن ساعديه، ونهض بالأمر مع أولاده وإخوته وأهل بيته والثلة المؤمنة من أصحابه، وقام بمجاهدة الفجار، وصدع بالحق والبينة، ودعا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمر بإقامة الحدود، والطاعة للمعبود، ونهى عن الخبائب والطغيان والعصيان (حتى إذا الجور مد باعه وأسفر الظلم قناعه ودعها الغي أتباعه.. ثم إقتضاك العلم بالإنكار ولزمك أن تجاهد الفجار).
سادسا: المصائب التي إنهالت على الإمام الحسين (عليه السلام) وعلى أهل بيته وأصحابه من قتل وتنكيل وظلم وجور وإنتهاك، وما تبعه من أعمال النهب والأسر والإذلال لحرم الله وذراري الرسول (فأحدقوا بك من كل الجهات، وأثخنوك بالجراح، وحالوا بينك وبين الرواح، ولم يبقلك ناصر وأنت محتسب صابر.. وسبي أهلك كالعبيد، وصفدوا في الحديد فوق أقتاب المطيات، تلفح وجوههم حر الهاجرات، يساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يطاف بهم في الأسواق).
سابعا: الأعداء عندما أقدموا على جريمتهم النكراء بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) إنما قاموا بهتك حرمة الدين والإسلام، والإنقضاض على رسالات الله جميعا، وردم الفضائل والمناقب والكمالات، وهجر الكتاب ومغادرة الحق، وبفقده (عليه السلام) فقد التكبير والتهليل والتحريم والتحليل والتنزيل والتأويل، وظهر بعده التغيير والتبديل والإلحاد والتعطيل والأهواء والأضاليل والفتن والأباطيل، وتركوا بعملهم الشنيع هذا حرقة دامية في قلوب الأنبياء والأولياء والملائكة والمقربين وجميع عباد الله الصالحين إلى قيام الساعة (فالويل للعصاة الفساق، لقد قتلوا بقتلك الإسلام وعطلوا الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام وهدموا قواعد الإيمان وحرفوا آيات القرآن).
ثامنا: الدعاء وطلب المغفرة والرحمة من الله سبحانه وتعالى (اللهم فبحرمة هذا المكان المنيف صل على محمد وآل محمد وأحشرني في زمرتهم وأدخلني الجنة بشفاعتهم).
مضامين زيارة الناحية المقدسة مليئة بالعرفان والمعرفة والإيثار والحماسة والتوسل والقداسة، وإنها لم تقتصر على المضامين المألوفة في بقية الزيارات بل تعدتها إلى أمور نوجزها بما يلي:
- المعارف الإلهية والثقافة الإسلامية يمكن ملاحظتها بوضوح في فصول الزيارة المتنوعة.
- الوعي السياسي بالحوادث الواقعة، وإعطاء الفرد مسؤولية تجاه الدين والمجتمع والنظام.
- التركيز على الجانب المأساوي في القضية الحسينية، وهذا فيه الكثير من الدروس والعبر للسير على نهجه المقدس، والتضحية بالغالي والنفيس من أجل كرامة الأمة وعزة الدين.
- تبيان عظمة الإمام الحسين (عليه السلام) ومنزلته الرفيعة ومقامه السامي في الدنيا والآخرة.
- نظرا للمضامين المرموقة المثبوثة في هذه الزيارة المقدسة، فإنها تعد من أغنى وأثرى زيارات الإمام الحسين (عليه السلام) على الإطلاق.
- الإرتباط المعنوي والروحي والغيبي بين الزائر والمزور، إذ أن الزائر هو الإمام صاحب الزمان (عج) والمزور هو الإمام الحسين (عليه السلام). كلاهما من نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلاهما ينهضان من أجل إقامة الحق وإحياء العدالة، وإعتلاء كلمة التوحيد في هذه المعمورة. الإمام الحسين (عليه السلام) سطر أروع الملاحم في كربلاء، لتقويض سلطة الظلم والكفر اليزيدي، ولإحياء حاكمية القرآن، وتجديد معالمه الخالدة، وأستشهد في هذا السبيل وسكن دمه في الخلد، وأضحى منارا ومشعلا للثوار والمجاهدين على مر التاريخ.
أما الإمام المنتظر (عج) فإنه سينهض بالأمر لإدامة نهضة جده الإمام الحسين (عليه السلام) وتحقيق أهدافه النبيلة، وأنه حقا كما وعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وإنه المنتقم لدم المقتول بكربلاء، والطالب بثأر جميع الشهداء، الذين ضحوا من أجل قائدهم المفدى في صحراء نينوى.
نعم كلاهما يسيران في خط واحد، وإنهما نور واحد، ويجاهدان لتحقيق هدف واحد، وهو تثبيت أركان التوحيد في العالم.
وكأني بندأ الإمام الحسين (عليه السلام) الذي إنطلق في عاشوراء يجلجل على مر العصور والأزمان يحض المؤمنين على نصرة الدين الحنيف، ويمهد لظهور المصلح الكبير الذي به ينصر الله دينه ويعز المؤمنين ويذل الكافرين والمنافقين، ويأخذ بثأر قتلة الأنبياء وأولاد الأنبياء من الأولين والآخرين.
إنه نداء يخاطب الضمائر الحية والإنسانية جمعاء، لتحمل المسؤولية، ويحض على العمل الدؤوب لإرساء دعائم العدالة في أرجاء المعمورة (هل من ناصر ينصرني، وهل من معين يعينني، هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله).
بسبب هذا الإرتباط الوثيق بين الإمام الحسين والإمام المنتظر، فإن المنتظرين لبزوغ الفجر عندما يقرأون فصول زيارة الناحية المقدسة، يمتلأ قلوبهم شعور خاص، ويغمرهم الشوق والوجد للقاء الحبيب، والإنضواء تحت رايته المباركة.
ولعمري فإن الإمام الحسين (عليه السلام) بغربته وبمظلوميته وبحركته وجهاده وشهادته هو مجسم ومجسد في إمام زماننا (عج)، والمؤمن عندما يردد كلمات وعبارات هذه الزيارة الشريفة، فإنه لم يزر الإمام الحسين فحسب، وإنما يجدر العهد والبيعة والوفاء والفداء مع الخلائق،وقائد المؤمنين، ورائد النهضة الحسينية، وإمام المجاهدين في سبيل الله. الحجة المنتظر (عج)، جعلنا الله من الطالبين بثأر السبط الشهيد في كربلاء تحت لواءه المقدس وقيادته الفذة وريادته الوارثة، وإمامته العالمية الحاكمة.