بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام من أعمدة الإمامة في المدينة المنوّرة، وقد عرف قدره الخاصة والعامة، ولمسوا بلوغ مرتبته في العلم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد لقبّه بباقر العلم قبل ولادته، وهذا ما نجده في كتب السّنة والشيعة، وفيها تأكيد صحّة هذا الخبر عن طريق حديث الصحابيّ جابر بن عبد الله الأنصاري.
وحديث جابر مشهور معروف رواه فقهاء المدينة والعراق كلّهم، وجاء فيه أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقعد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله: ينادي يا باقر! يا باقر العلم! فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، وكان يقول: والله ما أهجر، ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إنّك ستدرك رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذاك الذى دعاني إلى ما أقول، قال: فلقي يوماً كتاباً فيه الباقر عليه السلام فقال: يا غلام أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: شمائل رسول الله والذي نفس جابر بيده، يا غلام ما اسمك ؟ قال: اسمي محمّد، قال: ابن من؟ قال: ابن عليّ بن الحسين فقال: يا بنيّ! فدتك نفسي فإذا أنت الباقر؟ قال: نعم، فأبلغني ما حملك رسول الله، فأقبل إليه يقبل رأسه وقال: بأبي أنت وأمّي أبوك رسول الله يقرأك السلام. قال: يا جابر على رسول الله [السلام] ما قامت السماوات والأرض وعليك السلام يا جابر بما بلغت السلام.
قال: فرجع الباقر إلى أبيه وهو ذعر فأخبره بالخبر، فقال له: يا بني قد فعلها جابر؟ قال: نعم، قال: يا بنيّ الزم بيتك، فكان جابر يأتيه طرفي النهار وأهل المدينة يلومونه، فكان الباقر يأتيه على وجه الكرامة لصحبته من رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال: فجلس يحدّثهم عن أبيه عن رسول الله، فلم يقبلوه، فحدّثهم عن جابر فصدّقوه، وكان جابر والله يأتيه ويتعلّم منه.
وإذا اقترن اسم محمّد بن عليّ عليه السلام بالعلم حتى قيل إنه بقر العلم بقراً، إلا لم يغب عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البلاد بعد التطوّر السياسي والاجتماعي الذي نقل المجتمع العربي من البداوة إلى الحضارة، فكان له جملة من المواقف والكلمات حول التعاون الاجتماعي وأهمية العمل وتبجيل العقل والعلم.
أهميّة الصدقة
في عهد الإمام الباقر عليه السلام كانت الدولة الإسلامية قد قطعت أشواطاً في تنظيم أمورها الداخلية، ولا سيما بعد نقل الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية وصك الدنانير ونقش الدراهم بالعربية زمن عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ/705م)، ووفرة مال الخزينة التي أتتها الأموال من الفتوحات الواسعة التي شهدها العصر الأموي، ففي عصر الوليد بن عبد الملك الذي حكم بين عامي(85هـ- 96هـ/705م – 715م)، جرى فتح بلخ (85هـ/705م) وبخارى (90هـ/709م)، وإسبانيا (92هـ/711م) وسمرقند (93هـ/712م)، وامتدت في زمنه حدود الدّولة العربيّة إلى بلاد الهند، فتركستان، فأطراف الصّين، شرقاً، وفي عهد هشام بن عبد الملك الذي حكم بين عامي (105-125هــ/724- 743م) نشبت معركة كبرى مع خاقان الترك في بلاد ما وراء النهر، انتهت بمقتل خاقان واستيلاء العرب على بعض بلاده. واجتمع في خزائنه من المال الوفير ما لم يجتمع في خزانة أحد من ملوك بني أمية في الشام. هذا إلى جانب مما سبق فتحه من الأمصار والبلدان منذ الخلافة الرّاشدة.
وعلى الرغم من كلّ هذه البحبوحة، فإنّ الميزان الاقتصادي بقي مختلاً، فقد نعمت فئة من الناس بالمال، وحرمت أخرى، فكان الغنى يسير جنب الفقر، وقد عاين الإمام الباقر هذه الأوضاع منذ نعومة أظفاره، فكان يرى أباه الإمام زين العابدين عليه السلام يحمل هموم الفقراء والمحتاجين ويمدّهم بالطعام والمال، وحول ذلك يروى أنه لما غسل محمد بن عليّ الباقر أباه عليّاً عليهما السلام نظروا إلى مواضع المساجد من ركبتيه وظاهر قدميه كأنها مبارك البعير ونظروا إلى عاتقه وفيه مثل ذلك، فقالوا لمحمد: يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله: قد عرفنا أن هذا من إدمان السجود فما هذا الذي ترى على عاتقه؟ قال: أما لولا أنه مات ما حدّثتكم عنه، كان لا يمر به يوم إلا أشبع فيه مسكيناً فصاعداً، ما أمكنه، وإذا كان الليل نظر إلى ما فضل عن قوت عياله فجعله في جراب، فإذا هدأ الناس وضعه على عاتقه وتخلل المدينة، وقصد قوماً لا يسألون الناس إلحافاً، وفرغه فيهم من حيث لا يعلمون من هو، ولا يعلم بذلك أحد من أهله غيري، فإني كنت اطلعت على ذلك منه يرجو بذلك فضل إعطاء الصدقة بيده، ودفعها سرّاً.
ويروي الإمام جعفر الصادق عليه السلام فيقول: دخلت على أبي يوماً وهو يتصدّق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار، وأعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكاً.
وعلى الرغم أن الباقر عليه السلام لم يكن يملك الكثير من المال، إلا أنه كان يتصدّق بماله ما أمكنه، فيقول ابنه الصادق عليه السلام: كان أبي عليه السلام أقل أهل بيته مالاً، وأعظمهم مؤونة، قال: وكان يتصدّق كل جمعة بدينار، وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام.
وعن أهميّة الصدقة وأثرها في ردّ البلاء يخبر الإمام الباقر قصة حدثت زمن بني إسرائيل، فيقول:كان في بني إسرائيل رجل له نعمة، ولم يرزق من الولد غير واحد، وكان له محباً، وعليه شفيقاً، فلما بلغ مبلغ الرجال، زوّجه ابنة عمّ له، فأتاه آت في منامه فقال: إن ابنك هذا ليلة يدخل بهذه المرأة يموت، فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً وكتمه، وجعل يسوّف بالدخول حتى ألحت امرأته عليه وولده وأهل بيت المرأة فلما لم يجد حيلة استخار الله وقال لعل ذلك كان من شيطان، فأدخل أهله عليه، وبات ليلة دخوله قائماً وينتظر ما يكون من ابنه، حتى إذا أصبح غدا عليه فأصابه على أحسن حال، فحمد الله وأثنى عليه، فلما كان الليل نام فأتاه ذلك الذي كان أتاه في منامه فقال: إن الله عزّ وجلّ دفع عن ابنك، وأنسأ أجله بما صنع بالسائل. فلمّا أصبح غدا على ابنه فقال: يا بنيّ هل كان لك صنيع صنعته بسائل في ليلة ابتنائك بامرأتك؟ قال: وما أردت من ذلك؟ قال: تخبرني به، فاحتشم منه فقال: لا بدّ من أن تخبرني بالخبر، قال: نعم لما فرغنا ممّا كنّا فيه من إطعام الناس بقيت لنا فضول كثيرة من الطعام، وادخلت إليّ المرأة، فلما خلوت بها ودنوت منها، وقف سائل بالباب، فقال: يا أهل الدار واسونا مما رزقكم الله!
فقمت إليه فأخذت بيده، وأدخلته وقرّبته إلى الطعام، وقلت له: كل، فأكل حتى صدر، وقلت: ألك عيال؟ قال: نعم، قلت: فاحمل إليهم ما أردت فحمل ما قدر عليه، وانصرف وانصرفت أنا إلى أهلي، فحمد الله أبوه وأخبره بالخبر.
أهمية العمل
إلى جانب حثّ الإمام الباقر على دفع الصدقات ومساعدة المساكين، إلا أنّه أكّد على أهمية العمل الذي يعود بفوائد مالية واجتماعية للإنسان فيريحه من السؤال وإراقة ماء وجهه، فالصدقات كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام "هي لأقوام ليس لهم في الإمارة نصيب، ولا في العمارة حظ، ميزان ولا في التجارة مال، ولا في الإجارة معرفة وقدرة، ففرض الله في أموال الأغنياء ما يقوتهم ويقوم به أودهم... ثم بيّن سبحانه لمن هذه الصدقات فقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة:60 .
فكان الإمام محمد الباقر عليه السلام مثالاً للإنسان العامل الذي لا يخجل من السعي وراء لقمة العيش، وحول ذلك روى رجل قائلاً:ما كنت أرى أن عليّ بن الحسين عليهما السلام يدع خلفاً أفضل منه حتى رأيت ابنه محمّد بن عليّ عليهم السلام، فأردت أن أعظه فوعظني؛ فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال:خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر محمّد بن علي عليهما السلام وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي:سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أما لأعظنه، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ عليّ ببهر (البهر:بالضم، انقطاع النفس من الاعياء) هو يتصاب عرقاً فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أرأيت لو جاءك أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزّ وجلّ أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك، فوعظتني.
أهميّة الزكاة
لا يخفى علينا أهمية الزكاة التي أكّد الله تعالى في القرآن الكريم، فاقترنت بإقامة الصلاة في آيات عديدة منها في سورة النور، آية: 56: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: لا تزال أمّتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدّوا الأمانة، واجتنبوا الحرام، وقروا الضيف، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة. أما الإمام محمد الباقر عليه السلام فقال: ما نقصت زكاة من مال قط، ولا هلك مال في برّ أو بحر أدّيت زكاته. وعنه السلام: الزكاة تزيد في الرزق.
وقال عليه السلام أيضاً: عشر من لقي الله عزّ وجلّ بهنّ دخل الجنّة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمّداً رسول الله صلّى الله عليه وآله، والإقرار بما جاء من عند الله عزّ وجلّ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعداء الله، واجتناب كلّ مسكر.
وفي جلسة مع أصحابه قال عليه السلام: الذي يمنع الزكاة يحوّل الله ماله يوم القيامة شجاعاً (أي ثعباناً) من نار له زبيبتان (أي نقطتان سوداوان) فيطوّقه إياه ثم يقال: الزمه كما لزمك في الدنيا، وهو قول الله "{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}. آل عمران:180.
وقال في موضع الآخر قال مؤكّداً على أهميّة الزكاة: "إن الله عزّ وجلّ يبعث يوم القيامة ناساً من قبورهم مشدودة أيديهم إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يتناولوا بها قيس أنملة، معهم ملائكة يعيّرونهم تعييراً شديداً، يقولون: هؤلاء الذين منعوا خيراً قليلاً من خير كثير، هؤلاء الذين أعطاهم الله عزّ وجلّ فمنعوا حق الله عزّ وجلّ في أموالهم".
فكان العمل وإيتاء الزكاة والتصدق على الفقراء والمحتاجين من مقومات العيش في مجتمع متغيّر بعدما تبدّلت أوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
::::: موقع سماحة اية الله الفقيه السيد حسين الصدر ::::::
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام من أعمدة الإمامة في المدينة المنوّرة، وقد عرف قدره الخاصة والعامة، ولمسوا بلوغ مرتبته في العلم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد لقبّه بباقر العلم قبل ولادته، وهذا ما نجده في كتب السّنة والشيعة، وفيها تأكيد صحّة هذا الخبر عن طريق حديث الصحابيّ جابر بن عبد الله الأنصاري.
وحديث جابر مشهور معروف رواه فقهاء المدينة والعراق كلّهم، وجاء فيه أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقعد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله: ينادي يا باقر! يا باقر العلم! فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، وكان يقول: والله ما أهجر، ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إنّك ستدرك رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذاك الذى دعاني إلى ما أقول، قال: فلقي يوماً كتاباً فيه الباقر عليه السلام فقال: يا غلام أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: شمائل رسول الله والذي نفس جابر بيده، يا غلام ما اسمك ؟ قال: اسمي محمّد، قال: ابن من؟ قال: ابن عليّ بن الحسين فقال: يا بنيّ! فدتك نفسي فإذا أنت الباقر؟ قال: نعم، فأبلغني ما حملك رسول الله، فأقبل إليه يقبل رأسه وقال: بأبي أنت وأمّي أبوك رسول الله يقرأك السلام. قال: يا جابر على رسول الله [السلام] ما قامت السماوات والأرض وعليك السلام يا جابر بما بلغت السلام.
قال: فرجع الباقر إلى أبيه وهو ذعر فأخبره بالخبر، فقال له: يا بني قد فعلها جابر؟ قال: نعم، قال: يا بنيّ الزم بيتك، فكان جابر يأتيه طرفي النهار وأهل المدينة يلومونه، فكان الباقر يأتيه على وجه الكرامة لصحبته من رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال: فجلس يحدّثهم عن أبيه عن رسول الله، فلم يقبلوه، فحدّثهم عن جابر فصدّقوه، وكان جابر والله يأتيه ويتعلّم منه.
وإذا اقترن اسم محمّد بن عليّ عليه السلام بالعلم حتى قيل إنه بقر العلم بقراً، إلا لم يغب عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البلاد بعد التطوّر السياسي والاجتماعي الذي نقل المجتمع العربي من البداوة إلى الحضارة، فكان له جملة من المواقف والكلمات حول التعاون الاجتماعي وأهمية العمل وتبجيل العقل والعلم.
أهميّة الصدقة
في عهد الإمام الباقر عليه السلام كانت الدولة الإسلامية قد قطعت أشواطاً في تنظيم أمورها الداخلية، ولا سيما بعد نقل الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية وصك الدنانير ونقش الدراهم بالعربية زمن عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ/705م)، ووفرة مال الخزينة التي أتتها الأموال من الفتوحات الواسعة التي شهدها العصر الأموي، ففي عصر الوليد بن عبد الملك الذي حكم بين عامي(85هـ- 96هـ/705م – 715م)، جرى فتح بلخ (85هـ/705م) وبخارى (90هـ/709م)، وإسبانيا (92هـ/711م) وسمرقند (93هـ/712م)، وامتدت في زمنه حدود الدّولة العربيّة إلى بلاد الهند، فتركستان، فأطراف الصّين، شرقاً، وفي عهد هشام بن عبد الملك الذي حكم بين عامي (105-125هــ/724- 743م) نشبت معركة كبرى مع خاقان الترك في بلاد ما وراء النهر، انتهت بمقتل خاقان واستيلاء العرب على بعض بلاده. واجتمع في خزائنه من المال الوفير ما لم يجتمع في خزانة أحد من ملوك بني أمية في الشام. هذا إلى جانب مما سبق فتحه من الأمصار والبلدان منذ الخلافة الرّاشدة.
وعلى الرغم من كلّ هذه البحبوحة، فإنّ الميزان الاقتصادي بقي مختلاً، فقد نعمت فئة من الناس بالمال، وحرمت أخرى، فكان الغنى يسير جنب الفقر، وقد عاين الإمام الباقر هذه الأوضاع منذ نعومة أظفاره، فكان يرى أباه الإمام زين العابدين عليه السلام يحمل هموم الفقراء والمحتاجين ويمدّهم بالطعام والمال، وحول ذلك يروى أنه لما غسل محمد بن عليّ الباقر أباه عليّاً عليهما السلام نظروا إلى مواضع المساجد من ركبتيه وظاهر قدميه كأنها مبارك البعير ونظروا إلى عاتقه وفيه مثل ذلك، فقالوا لمحمد: يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله: قد عرفنا أن هذا من إدمان السجود فما هذا الذي ترى على عاتقه؟ قال: أما لولا أنه مات ما حدّثتكم عنه، كان لا يمر به يوم إلا أشبع فيه مسكيناً فصاعداً، ما أمكنه، وإذا كان الليل نظر إلى ما فضل عن قوت عياله فجعله في جراب، فإذا هدأ الناس وضعه على عاتقه وتخلل المدينة، وقصد قوماً لا يسألون الناس إلحافاً، وفرغه فيهم من حيث لا يعلمون من هو، ولا يعلم بذلك أحد من أهله غيري، فإني كنت اطلعت على ذلك منه يرجو بذلك فضل إعطاء الصدقة بيده، ودفعها سرّاً.
ويروي الإمام جعفر الصادق عليه السلام فيقول: دخلت على أبي يوماً وهو يتصدّق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار، وأعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكاً.
وعلى الرغم أن الباقر عليه السلام لم يكن يملك الكثير من المال، إلا أنه كان يتصدّق بماله ما أمكنه، فيقول ابنه الصادق عليه السلام: كان أبي عليه السلام أقل أهل بيته مالاً، وأعظمهم مؤونة، قال: وكان يتصدّق كل جمعة بدينار، وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام.
وعن أهميّة الصدقة وأثرها في ردّ البلاء يخبر الإمام الباقر قصة حدثت زمن بني إسرائيل، فيقول:كان في بني إسرائيل رجل له نعمة، ولم يرزق من الولد غير واحد، وكان له محباً، وعليه شفيقاً، فلما بلغ مبلغ الرجال، زوّجه ابنة عمّ له، فأتاه آت في منامه فقال: إن ابنك هذا ليلة يدخل بهذه المرأة يموت، فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً وكتمه، وجعل يسوّف بالدخول حتى ألحت امرأته عليه وولده وأهل بيت المرأة فلما لم يجد حيلة استخار الله وقال لعل ذلك كان من شيطان، فأدخل أهله عليه، وبات ليلة دخوله قائماً وينتظر ما يكون من ابنه، حتى إذا أصبح غدا عليه فأصابه على أحسن حال، فحمد الله وأثنى عليه، فلما كان الليل نام فأتاه ذلك الذي كان أتاه في منامه فقال: إن الله عزّ وجلّ دفع عن ابنك، وأنسأ أجله بما صنع بالسائل. فلمّا أصبح غدا على ابنه فقال: يا بنيّ هل كان لك صنيع صنعته بسائل في ليلة ابتنائك بامرأتك؟ قال: وما أردت من ذلك؟ قال: تخبرني به، فاحتشم منه فقال: لا بدّ من أن تخبرني بالخبر، قال: نعم لما فرغنا ممّا كنّا فيه من إطعام الناس بقيت لنا فضول كثيرة من الطعام، وادخلت إليّ المرأة، فلما خلوت بها ودنوت منها، وقف سائل بالباب، فقال: يا أهل الدار واسونا مما رزقكم الله!
فقمت إليه فأخذت بيده، وأدخلته وقرّبته إلى الطعام، وقلت له: كل، فأكل حتى صدر، وقلت: ألك عيال؟ قال: نعم، قلت: فاحمل إليهم ما أردت فحمل ما قدر عليه، وانصرف وانصرفت أنا إلى أهلي، فحمد الله أبوه وأخبره بالخبر.
أهمية العمل
إلى جانب حثّ الإمام الباقر على دفع الصدقات ومساعدة المساكين، إلا أنّه أكّد على أهمية العمل الذي يعود بفوائد مالية واجتماعية للإنسان فيريحه من السؤال وإراقة ماء وجهه، فالصدقات كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام "هي لأقوام ليس لهم في الإمارة نصيب، ولا في العمارة حظ، ميزان ولا في التجارة مال، ولا في الإجارة معرفة وقدرة، ففرض الله في أموال الأغنياء ما يقوتهم ويقوم به أودهم... ثم بيّن سبحانه لمن هذه الصدقات فقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة:60 .
فكان الإمام محمد الباقر عليه السلام مثالاً للإنسان العامل الذي لا يخجل من السعي وراء لقمة العيش، وحول ذلك روى رجل قائلاً:ما كنت أرى أن عليّ بن الحسين عليهما السلام يدع خلفاً أفضل منه حتى رأيت ابنه محمّد بن عليّ عليهم السلام، فأردت أن أعظه فوعظني؛ فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال:خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيني أبو جعفر محمّد بن علي عليهما السلام وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي:سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أما لأعظنه، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ عليّ ببهر (البهر:بالضم، انقطاع النفس من الاعياء) هو يتصاب عرقاً فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أرأيت لو جاءك أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزّ وجلّ أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك، فوعظتني.
أهميّة الزكاة
لا يخفى علينا أهمية الزكاة التي أكّد الله تعالى في القرآن الكريم، فاقترنت بإقامة الصلاة في آيات عديدة منها في سورة النور، آية: 56: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: لا تزال أمّتي بخير ما تحابوا وتهادوا، وأدّوا الأمانة، واجتنبوا الحرام، وقروا الضيف، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة. أما الإمام محمد الباقر عليه السلام فقال: ما نقصت زكاة من مال قط، ولا هلك مال في برّ أو بحر أدّيت زكاته. وعنه السلام: الزكاة تزيد في الرزق.
وقال عليه السلام أيضاً: عشر من لقي الله عزّ وجلّ بهنّ دخل الجنّة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمّداً رسول الله صلّى الله عليه وآله، والإقرار بما جاء من عند الله عزّ وجلّ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعداء الله، واجتناب كلّ مسكر.
وفي جلسة مع أصحابه قال عليه السلام: الذي يمنع الزكاة يحوّل الله ماله يوم القيامة شجاعاً (أي ثعباناً) من نار له زبيبتان (أي نقطتان سوداوان) فيطوّقه إياه ثم يقال: الزمه كما لزمك في الدنيا، وهو قول الله "{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}. آل عمران:180.
وقال في موضع الآخر قال مؤكّداً على أهميّة الزكاة: "إن الله عزّ وجلّ يبعث يوم القيامة ناساً من قبورهم مشدودة أيديهم إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يتناولوا بها قيس أنملة، معهم ملائكة يعيّرونهم تعييراً شديداً، يقولون: هؤلاء الذين منعوا خيراً قليلاً من خير كثير، هؤلاء الذين أعطاهم الله عزّ وجلّ فمنعوا حق الله عزّ وجلّ في أموالهم".
فكان العمل وإيتاء الزكاة والتصدق على الفقراء والمحتاجين من مقومات العيش في مجتمع متغيّر بعدما تبدّلت أوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
::::: موقع سماحة اية الله الفقيه السيد حسين الصدر ::::::
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
