بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على شيعه علي عليه السلام ورحمه الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين وعجل فرج قائمهم عجل الله تعالى فرجه الشريف
الحمدلله تعالى رب العالمين ان جعلنا من شيعه علي عليه السلام
نعزيكم بذكرى رحيل عقيلة خدر الرسالة السيدة زينب عليها السلام
التسجيل
لم تكن على عهد فاطمة أيّة «لاقطة صوتيّة» تسجّل الكلمة التي تفوّهت بها أمام أبي بكر الصدّيق، وكذلك لم تكن هناك أيّة «لاقطة نووية» تعكس عنها الإشارة التي كانت تبدر عنها وهي تلقي ذلك الخطاب، حتّى ولم تكن أيضاً تلك اللواقط من الحروف الطائعة تنساق متلقّطة بالفكر تضبطه في إطارها وتتمسّك به ضمن خطوطها ودوائره، ليحصل ضبط ذلك الخطاب في أمانة الحروف.
لم يتمّ لا تسجيل الصوت، ولا تسجيل الصورة.. لا صوت فاطمة بكلماته المتقطّعة ونبراته المتدفّقة، ولا صورتها بعينها الحزينة وقدّها الناحل.. ولم يتمّ أيضاً لا تسجيل الأثر الذي تركته على جمهور ساحة المسجد، ولا تسجيل لون أُذن أبي بكر الصدّيق بعد سماعها خفقة التنديد.
بالرغم عن عدم وجود أيّ شيء من هذا تّمت كلّ التساجيل كأنّ آلة العصر الحاضر كانت في ذلك الحين هي ذاتها تفعل.. ومتى كانت الآلة في تنفيذ اختراعها غير تعبير عن شوق الإنسان في حاجته إليها؟!
إنّ هذا الشوق هو ذاته الذي كان منفتح القلب والعين والأُذن أمام فاطمة في وجودها في ذلك الحين، وفي كلّ وجوده. لذلك انسكبت في وجدان التاريخ تسجيلاً حفظته واعية الخواطر، وتلقّطت به حافظة القلوب، وتناقلته أشواق الأسانيد، تعبيراً عن أنّ الرأي العامّ في مجتمع الإنسان هو حقيقته الماثلة في مكشوفها ومستورها على السواء.
لم تكن فاطمة وحدها التي تتكلّم في ذلك الحين.. إنّ الملايين في الجزيرة العربية كانوا يتكلّمون، ولم يصل إلينا سوى النزر من التساجيل عنهم، إلاّ أنّ فاطمة وحدها كانت تتكلّم.
تلك شهادة على أنّ الرأي العامّ يتمثّل دائماً في خطوطه العريضة، كما تتمثّل قطرات الغيث في المجاري الزاخرة، وكما تتمثّل الأنهار الجارفة في التحامها بالشواطئ.
إنّ الذين تكلّموا في الجزيرة قد تمّ لنا تسجيل ما قالو، وصل إلينا كلّ الصحيح ممّا قالو، لم يكذب الرأي العامّ فيهم، فلقد صوّروه وعكسوه، ولقد أوصلوه مع العبر.
إنّ اللون السياسي الذي انصبغ به الخطّان العريضان في ذلك الحين عيّن في كلّ واحد منهما اسم القائد، عيّن الشكل، وعيّن الفكر، وعيّن الاتّجاه.. ولقد عيّن أيضاً صفات الإرث.
ولكنّ الإرث الوحيد الذي ضاعوا عنه هو وحده الذي كان كفيلاً لهم بتحقيق الثروة، نفروا عنه إذ كان الأولى أن ينفروا إليه! إنّ هذا الإرث كان محصوراً بالنسبة إلى الجزيرة على الأقلّ في تلك الوجدة المنوّرة بالحقّ والهداية، ولقد قالت فاطمة في خطابه: «(أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)(271)»(272).
إنّ في الانقلاب على الأعقاب رجعة إلى ماضي الجزيرة في تفكّكها وتشتيته، في عدم لحمته، وفي عدم تحقيقه..
لقد وحّدتها الكلمة الصائبة، لقد جمعتها الفكرة الكبيرة، لقد رسمت لها الأهداف، لقد طبّقت أمامها المثل، لقد تحقّق لها البرهان، ولقد دفعت ثمن ذلك من دمه.. فما بالها ـ وقد مات نبيّها العظيم ـ تنقلب على أعقابها؟!
هكذا تكرّس الانقسام مع أوّل خلافة برزت إلى الصدارة، ليبتر أوّل وحدة لمحها تاريخ الجزيرة.
أيّ شيء فيما بعد تمكّن من إعادة اللحمة؟ أيّ عهد من العهود التي كرّت حتّى الساعة الحانية عبر أربعة عشر قرناً عمل على الترميم وساعد على محو ما علق في الخواطر؟ أيّة يد حاولت أن تتناول شريط التسجيل التاريخيّ لتحوّر بثّه أو لتغيّر ألوان مرائيه؟ وأيّ مجتمع من مجتمعات الأُسرة العربية ابتداءً من الجزيرة الأُمّ، أم الهجرات التاريخيّة، وأم القوافل الدارجة إلى كلّ هذه المهابط اللاقطة حدو القوافل اللاقطة والحاضنة والمطوّرة، أجل، أيّ مجتمع لم تتعكّر مجاريه من ثقل ذلك الغبار الذي ثار حاملاً معه كلّ هذا الكثيف من السموم والعفن؟ !
ولاتزال الأجيال حتّى اليوم تتلهّى بغربلة خطاب فاهت به فاطمة الزهراء، في هل أنّ كلماته خرجت بالفعل من بين ثناياه، أم أنّ عبقريّاً آخر نحلته عبقريّته إليها؟
وفاطمة الزهراء كانت لوناً بارزاً في الخطّ الثاني، كانت نصف الرجل الذي حمل راية الخطّ، فهي معه وحده في العمل وفي النهج.
إنّ المأساة في درس الخطاب من ناحية حروفه، وليس من ناحية معانيه، كالمأساة عينها في أن نحصي خطواتنا على طريق مقفل يمتصّ أعراقنا دون أن يردّها إلينا قيمة..
إنّ العبرة في تفسير ما قالت الزهراء تكمن في تحصيل قولها إنذار، والعبرة في أنّ الخلافة لم تقبل الإنذار..
والعبرة كلّ العبرة في أنّ الأجيال أجيال الإسلام لم تدرس حتّى اليوم خطاب الزهراء، وهي ضائعة بين أن تسنده إلى فاطمة، أو أن تسنده إلى مقحم، طباق آخر على كلّ ما وجّه إلى الإمام علي في «نهج البلاغة»، إسناداً إليه، أم إقحاماً عليه !
والعبرة في أنّ خطاب فاطمة الزهراء ـ أكانت هي تدري أم لم تكن تدري ـ جاء يرزم قوّة التعبير عن ذلك الرأي العامّ الذي اهتاج وهو
يرضخ للواقع، ليعود فيتكوّن ثورة على كلّ ما هو خروج عن خطوط الحقّ والعدالة.
منذ ذلك الحين تكوّنت نواة المعارضة مطالبة بتركيز الخلافة على محورها الصادق، ومنذ ذلك الحين والخلافة لا ترتبط بمصير حتّى تتقطّع حبال ذيّاك المصير..
ومنذ ذلك الحين والسيف العربي لا يرتوي من دماء أبنائه، ومعظم الخلفاء لا يرتوون من شرب الدم صرفاً أم ممزوجاً بالخمور والفجور! أكان ذلك مع الحجّاج أم مع السفّاح أكان مع الوليد أم الأمين ابن الرشي .
ومنذ ذلك الحين والخلافة تدور بها العواصف والزعازع من مكّة إلى يثرب، ومن يثرب إلى الكوفة، إلى الشام، إلى بغداد، إلى خراسان،
إلى مصر، إلى القيروان، إلى الأندلس، إلى بلاد الأتراك..
ومن تفسيخ إلى تفسيخ! من الراشدين، إلى الأُمويّين،
فالعباسيّين، والفاطميّين، والأيُّوبيّين ، والمماليك(
والمغول ، والحشّاشين
قد تكون في القول هذا كلّ القساوة في تحميل الخلافة الأُولى هذا الحبل الطويل من المسؤوليات الجسام، ولكن أيّ طريق طويل لا يقاس بالخطوة الأُولى؟ وأيّة دولة من دول العالم تجسّم الحقد فيها كما تجسّم على يد الحجّاج بن يوسف وبقي لها شيء من كيان؟! كيف يربو الولاء في صدور حفدة مئة وعشرين ألف قتيل حصدها سيف طاغية تثبيتاً لكرسي خلافة ؟! وكيف لا يكون الحقد وليد الحقد وقبور بني أُميّة تنبش لتجلد فيها الرمم ؟! وكيف تربط دنيا الإسلام بعضها ببعض برباط الحبّ والانفتاح ومؤسّس الدولة الانفتاحيّة في الأندلس لا يزال يبكي أخاه مقطّعاً بسيف الحقد والضغينة، وهو لا يزال هارباً من الملاحقات عبر الفيافي؟! كيف ينمو حنين الإنسان إلى وطنه وبغداد تحمل شارات التعسّف والظلم منشورة جماجم معلّقة في الهواء فوق جسور دجلة والفرات تدليلاً على عظمة البطش وهيبة السلطان؟!
لعمري، إنّ رسالة الإمام علي إلى الأشتر تشهد للرجل الكبير بصدق نظرته وحصافه رأيه .. تلك الدماء ذاتها مهدورة بغير حلّه، جبلت من طينها ـ فيما بعد ـ جماجم الغزاة، شأن جنكيز خان ، وتيمورلنك( . أجل، هو ذاته تيمورلنك الذي بنى في بغداد بجماجم البغداديّين مئة وعشرين برج
أجل، إنّ الخلافة تكون مجوراً عليها إذا حُمّلت جريرة عدّة أجيال، ولكنّها كانت مسؤولة كخلافة لرسالة سوف تتخطّى المكان والزمان عن مدّ نظرها إلى مثل هذه الأبعاد، وهي مسؤولة على الأقلّ عن تثبيت قدم العدالة التي ما تزال قريبة من منابعه.
إنّ الخطوة الأُولى قرّرتها السقيفة، وكان فيها ذلك الاعوجاج، ولن يقاس درب طويل بخطوة معوجّة..
ولم يكن الاعوجاج من المتطلّبين أمجاد الحكم أكثر ممّا كان من الحبل الطويل المشدود على خصور القبائل، ذلك الشعب الذي كان معوجّ، وما صرف الجهد النبويّ إلاّ اعوجاجه.
كيف تبحث قضيّة الخلافة بأمانة وإخلاص إن لم يتحرّر الباحث من الهوى؟! ولكنّ الذين تزاحموا على كرسي الحكم ما ساقهم إليه إلاّ الهوى!
كان كرسي الخلافة بين أن يثبت متيناً وبين أن ينهار رهناً بحروف اسمه إمّا أن يكون خلافة، أو أن يكون حُكم، والخلافة كانت استكمال خطّ واستمرار نهج، والحكم كان لوناً سياسيّاً وصوليّ.
إنّ الحكم في الجزيرة في خطّة الماضي لم يكن درجة في سلّم حضاري. إنّ الرسالة الجديدة هي التي نقضت هذا الحكم في مجال تحضير مادّة جديدة يستقيم فيها الحكم، تلك المادّة هي الوجبة الروحيّة التي يكتمل بها رشد الإنسان في الجزيرة حتّى يتوصّل إلى حقيقة الحكم.
تلك الحقيقة كان يعرفها النبيّ، وكان يعرفها أشدّ الناس اختلاطاً بالنّبي(صلى الله عليه وآله)، لهذا كان النبيّ أكثر تشديداً على استكمال نموّ رسالته بتسليمها إلى الذي يدرك الكنه العميق.. هنا كانت تبرز الإشارة بوضوح إلى علي.
كان المقصود بإسناد الخلافة إلى علي خلافة المعنى الصحيح أكثر منها حُكماً مؤقت، خلافة لرسالة تتمّ تحضير الوجبة الكبيرة ليأكل منها كلّ الذين هم بحاجة إلى اكتمال الرشد.
في أيّ وقت يكتمل الرشد؟ إنّ ذلك يكون رهناً بالسلسلة الطويلة في اكتمال نضجها وبثّ إشعاعاته. وهذا كان على ما يظهر قصد الرسالة.
تقبلوا خالص شكري ودعواتي لكم