{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون }
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفضلي التفسير..
قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ قدر الشيء وقدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر ونحوهما يقال: قدرت الشيء قدرا وقدرته بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشيء وهندسته المحسوسة ثم توسع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل: قدر فلان عند الناس وفي المجتمع أي عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعهم وقيمته الاجتماعية.
وإذ كان تقدير الشيء وتحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة لحاله المستتبعة لعرفانه أطلق القدر والتقدير على الوصف وعلى المعرفة بحال الشيء - على نحو الاستعارة - فيقال قدر الشيء وقدره أي وصفه، ويقال: قدر الشيء وقدره أي عرفه، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا.
ولما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس ولا وهم ولا عقل وإنما يعرف معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف وينال من عظمته ما دلت عليه آياته وأفعاله صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال: ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه أو ما عرفوه حق معرفته.
فالآية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة، وعنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق ونعمة الهداية بين الناس زمانا بعد زمان وجيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار إنزال الوحي حطا لقدره تعالى وإخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية بشئون عباده وهدايتهم إلى هدفهم من السعادة والفلاح.
ويؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ الزمر: 67.
وقوله تعالى: ﴿إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز﴾ الحج: 74 أي وقوته وعزته وضعف غيره وذلته تقتضيان أن لا يحط قدره ولا يسوى هو وما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة وأربابا فالأنسب بالآية هو المعنى الأول وإن لم يمتنع المعنيان الآخران، وأما تفسير ﴿ما قدروا الله حق قدره﴾ بأن المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية.
ولما قيد قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ بالظرف الذي في قوله: ﴿إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه وعدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي والكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية وخصائص الربوبية أن ينزل الوحي والكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط والفوز بسعادة الدنيا والآخرة فهي الدعوى.
وقد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى والحجاج له بقوله: ﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ إلخ، وبقوله: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ والأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء (عليهم السلام) الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء (عليهم السلام) نوح ومن بعده، وهي التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله: ﴿وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر - إلى قوله - إن هو إلا ذكرى للعالمين﴾.
والثاني من القولين احتجاج بوجود معارف وأحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من الإنسان الاجتماعي من حيث مجتمعه بما له من العواطف والأفكار التي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء والمسكن واللباس والنكاح وجلب المنافع ودفع المضار والمكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الإنسان بحسب طبعه الحيواني، وأما المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة الطيبة والشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإنسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي وأنى للشعور الاجتماعي ذلك؟ وهو إنما يبعث الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية، ومقاصده في المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن وما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد والاشتراك في المنافع ورعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه، وهو سر كون الإنسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة في البحث عن قوله تعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين﴾ البقرة: 213 في الجزء الثاني من الكتاب، وسنزيده وضوحا إن شاء الله.
وبالجملة فالآية أعني قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط ومنزل السعادة بإنزال الكتاب والوحي على بعض أفراده، وتستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا، وبوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا.
قوله تعالى: ﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا﴾ القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب والمخاطبون به اليهود لا محالة، وقرىء ﴿يجعلونه﴾ بصيغة الغيبة، والمخاطب المسئول عنه بقوله: ﴿من أنزل الكتاب﴾ إلخ ، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما قيل، والمراد يجعل الكتاب قراطيس وهي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها، وإما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف والقراطيس تسمى كتابا كما تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا.
وقوله: ﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ إلخ.
جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى: ﴿إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ والآية وإن لم تعين القائلين بهذا القول من هم؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون: ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ هم اليهود أيضا، وذلك أن الآية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى (عليه السلام) والمشركون لا يعترفون به ولا يقولون بنزوله من عند الله، وإنما القائلون به أهل الكتاب، وأيضا الآية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، وهذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين.
على أن قوله بعد ذلك: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم وسيجيء إن شاء الله تعالى.
وأما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى ومن قبله (عليه السلام) وبنزول كتب سماوية كالتوراة وغيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا: ما أنزل الله على بشر من شيء لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه: أن يكون ذلك مخالفا للأصل الذي عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الإسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد وأساس دينهم التوحيد حتى أنزل الله: ﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا﴾ النساء: 51.
وقولهم - وهو أبين سفها من سابقه - اغتياظا على النصارى: إن إبراهيم (عليه السلام) كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى: ﴿يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون - إلى أن قال - ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين﴾ آل عمران: 67 إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم.
ومن كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة.
وأما قول من قال: إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة وإنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم والدار دارهم، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس والدين عام ودعوته شاملة لجميع الناس والقرآن ذكر للعالمين وهم والمشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما وقد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم﴿: العنكبوت: 46 وقوله: ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ النحل: 118 وقد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية.
ومن المستبعد أن تدوم الدعوة الإسلامية سنين قبل الهجرة وفي داخل الجزيرة طوائف من اليهود والنصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها ولا يقولوا شيئا لها أو عليها وقد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة وقرءوا سورة مريم المكية عليهم وفيها قصة عيسى ونبوته.
وأما قول من قال: إن السورة - يعني سورة الأنعام - إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه وعامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لإرجاع الضمير في قوله: ﴿إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لأن الكلام في سياق الخبر عنهم، ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة ﴿يجعلونه﴾ إلخ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب.
وأما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة المنزلة على موسى (عليه السلام) فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة.
ففيه: أن سياق السورة فيما تقدم من الآيات وإن كان لمحاجة المشركين لكن لا لأنهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنهم يستكبرون عن الخضوع للحق وينكرون أصول الدعوة التي هي التوحيد والنبوة والمعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة ونزول الكتاب لدخوله في غرض السورة، ووقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أصول الدين الإلهي وإن كان القائل به من غير المشركين وعبدة الأصنام، ولعله مما لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في بعض الآثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وربما بعثوا إليهم الوفود لذلك.
على أن قوله: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ كما سيأتي لا يصح أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى: ﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس﴾ والقول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله سبحانه وخاصة مع وصفها بأنها نور وهدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدعي ذلك والمصحح للخطاب هو الأول دون الثاني.
وأما قراءة ﴿يجعلونه﴾ إلخ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله ﴿من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ وقوله: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ لليهود.
وقد حاول بعضهم دفع الإشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع تصحيح القراءتين جميعا فقال ما ملخصه: إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو - يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة - محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحي استبعادا لأن يخاطب الله البشر بشيء، وقد اعترفوا بكتاب موسى وأرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول العالمون بأخبار الأنبياء.
فهو تعالى يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء كقولهم:
أبعث الله بشرا رسولا: ﴿من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا﴾ انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريين ﴿وهدى للناس﴾ أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الأحكام والشرائع الإلهية فكانوا على النور والهدى إلى أن اختلفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء ﴿يجعلونه قراطيس يبدونها﴾ فيما وافق ﴿ويخفون كثيرا﴾ مما لا يوافق أهواءهم.
قال: والظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم وكتموا بشارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال المشركون من قبلهم - إن صحت الروايات بذلك - فعند ذلك كان غير مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود وغيرهم بالخطاب لليهود فيقول: ﴿تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا﴾ مع عدم نسخ القراءة الأولى.
قال: وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما، انتهى كلامه ملخصا.
وأنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله وكذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ على ما أشرنا إليه، وكذا تخصيصه قوله تعالى: ﴿نورا وهدى للناس﴾ باليهود فقط وكذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة: ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ كر على ما فر منه.
على أن قوله: إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم ويخاطبهم بقوله: ﴿تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا﴾ مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة وهي إحدى آياته ومرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة ولا جزء منها، وإن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية ولا القراءة قراءة، وإن أريد به أن الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ ﴿تجعلونه قراطيس﴾ إلخ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع الخطاب والغيبة جميعا وأن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله من ينهي القراءات المختلفة إلى قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو القراءة عليه ونحوهما ففيه الالتزام بورود جميع الإشكال السابقة كما هو ظاهر.
واعلم أن هذه الأبحاث إنما تتأتى على تقدير كون الآية نازلة بمكة، وأما على ما وقع في بعض الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها.
قوله تعالى: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ المراد بهذا العلم الذي علموه ولم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع والضار في الحياة مما جهز الإنسان بالوسائل المؤدية إليه من حس وخيال وعقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به ولا رابطة بين حصول العلوم العادية للإنسان من الطرق المودعة فيه وبين المدعى وهو أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى سعادته وتنزل على بعض أفراده الوحي والكتاب.
وليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده قوله تعالى: ﴿وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة﴾ النحل: 78 وقوله: ﴿الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم﴾ العلق: 5، فإن السياق كما عرفت ينافي ذلك.
فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز بها أن ينال علمه، وليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه وحملة وحيه بكتاب أو بغير كتاب من المعارف الإلهية والأحكام والشرائع فإنها هي التي لا تسع الوسائل العادية التي عند عامة الإنسان أن تنالها.
ومن هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا﴾ إلخ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة والشرائع الإلهية شيء بين يعرفونه ويعترفون به والذي كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف، وقد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله: ﴿وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله﴾ البقرة: 118
فالخطاب متوجه إلى غير المشركين، وليس بموجه إلى المسلمين أما أولا: فلأن السياق سياق الاحتجاج، ولو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق الاحتجاج من غير نكتة ظاهرة.
وأما ثانيا: فلما فيه من تغيير مورد الخطاب، والعدول من خطاب المخاطبين بقوله: ﴿من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ إلخ، إلى خطاب غيرهم بقوله: ﴿وعلمتم﴾ إلخ، من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين والمسلمين وهم اليهود المخاطبون بصدر الآية.
فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين: ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ عنادا وابتغاء للفتنة من طريقين: أحدهما: طريق المناقضة وهو أنهم مؤمنون بالتوراة وأنها كتاب جاء به موسى (عليه السلام) نورا وهدى للناس ويناقضه قولهم: ﴿ماأنزل الله على بشر من شيء﴾ ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها ويخفون كثيرا.
وثانيهما: أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب ولا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه وذلك كالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والشرائع والقوانين الناظمة للاجتماع والمعدلة له أحسن نظم وتعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها وخاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما ينال بالاكتساب، والتي تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الإلهية من التوحيد والنبوة والمعاد والأخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرد ذلك في استقرارها في المجتمع الإنساني، فمجرد العلم بشيء غير دخوله في مرحلة العمل واستقراره في المستوى العام الاجتماعي، فحب التمتع من لذائذ المادة وغريزة استخدام كل شيء في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس والتسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالا للإنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف والحقائق المدفونة في فطرته ثم يبني ويدوم عليها وفي مسير حياته وخاصة إذا استولت هذه المادية على المجتمع واستقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات المادية لا ينفذ في شيء من أقطاره شيء من الفضائل الإنسانية، ولا يزال ينسى فيه ما بقي من إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعا حيوانيا ساذجا كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية واستسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها وصرفهم عن الآخرة إلى الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال بالمعنويات ومنعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة.
ولم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأمم والملل رجلا من رجال السياسة والحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الإنسانية والمعارف الطاهرة الإلهية، وطريق التقوى والعبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية - هو أن يتمهد الأمر لبقاء سلطتها واستقامة الأمر لها، وغاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية - الديمقراطية وما يشابهها - أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية الأفراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل المعنوية والكمالات والمقاصد العالية الإنسانية التي بقيت أسماؤها عندهم وألجأتهم الفطرة إلى إعظامها والاحترام لها كالعدل والعفة والصدق وحب الخير ونصح النوع الإنساني والرأفة بالضعيف وغير ذلك فسروها بما يوافق جاري عملهم والدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم.
وبالجملة فالعقل الاجتماعي والشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل الإنسان إلى هذه المعارف الإلهية والفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات الإنسانية على تنوعها وتطورها تتضمن أسماء كثيرة منها واحترام معانيها وأين الإخلاد إلى الأرض من الترفع عن المادة والماديات؟.
فليست إلا آثارا وبقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء ومجاهداتهم في نشر كلمة الحق وبث دين التوحيد وهداية النوع الإنساني إلى سعادته الحقيقية في حياته الدنيوية والأخروية جميعا فهي منتهية إلى تعليم إلهي من طريق الوحي وإنزال الكتب السماوية.
فقوله تعالى: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ احتجاج على اليهود في رد قول القائل منهم: ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم ولا ناله ولا ورثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق وهو طريق إنزال الكتاب والوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه وهو المعارف الحقة وشرائع الدين، وقد كان عند اليهود من هذا القبيل شيء كثير ورثوه من أنبيائهم وبثه فيهم كتاب موسى.
وقد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا﴾ مطلق ما ينتهي من المعارف والشرائع إلى الوحي والكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى (عليه السلام) وإن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة وشرائعه خلافا لبعض المفسرين
وذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل: ﴿وعلمتم ما لم تعلموا﴾ إلخ، ولم يقل وعلمتم به أو وعلمكم الله به.
وقد قيل: ﴿وعلمتم﴾ إلخ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل: إن فيما عندكم علوما لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟ ثم أجيب عن مجموع السؤالين بقوله: الله عز اسمه.
قوله تعالى: ﴿قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون﴾ لما كان الجواب واضحا بينا لا يداخله ريب، والجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه ولا ينتظر المسئول المحتج عليه، أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتصدى هو للجواب فقال: ﴿قل الله﴾ أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى والذي علمكم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم هو الله.
ولما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول وهزله الذي لا يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق وخاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى والمباهين بالعلم والكتاب أمره بأن يدعهم وشأنهم فقال: ﴿ثم ذرهم في خوضهم يلعبون﴾.
الميزان في تفسير القرآن للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قدس سره)
__________________
النزول
جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الضيف يخاصم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أ ما تجد في التوراة إن الله سبحانه يبغض الحبر السمين وكان سمينا فغضب وقال ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه ويحك ولا موسى فنزلت الآية عن سعيد بن جبير وقيل إن الرجل كان فنحاص بن عازورا وهو قائل هذه المقالة عن السدي وقيل أن اليهود قالت يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم قالوا والله ما أنزل الله من السماء كتابا فنزلت الآية عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه أنها نزلت في الكفار أنكروا قدرة الله عليهم فمن أقر أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره وقيل نزلت في مشركي قريش عن مجاهد.
المعنى
لما تقدم ذكر الأنبياء والنبوة عقبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوة فقال ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ أي ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق عظمته وما وصفوه بما هو أهل أن يوصف به ﴿إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ أي ما أرسل الله رسولا ولم ينزل على بشر شيئا مع أن المصلحة والحكمة تقتضيان ذلك والمعجزات الباهرة تدل على بعثة كثير منهم ثم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ﴿قل﴾ يا محمد لهم ﴿من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ يعني التوراة وإنما احتج بذلك عليهم لأن القائل لذلك من اليهود ومن قال أن المعني بالآية مشركو العرب قال احتج عليهم بالأمر الظاهر ثم بين أن منزلة محمد في ذلك كمنزلة موسى ﴿نورا﴾ أي يستضاء به في الدين كما يستضاء بالنور في الدنيا ﴿وهدى للناس﴾ أي دلالة يهتدون به ﴿تجعلونه قراطيس﴾ أي كتبا وصحفا متفرقة وقال أبو علي الفارسي معناه تجعلونه ذا قراطيس أي تودعونه إياها ﴿تبدونها وتخفون كثيرا﴾ أي تبدون بعضها وتكتمون بعضها وهو ما في الكتب من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والإشارة إليه والبشارة به ﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ قيل إنه خطاب للمسلمين يذكرهم ما أنعم به عليهم عن مجاهد وقيل هو خطاب لليهود أي علمتم التوراة فضيعتموه ولم تنتفعوا به وقيل معناه علمتم بالقرآن ما لم تعلموا عن الحسن ﴿قل﴾ يا محمد ﴿الله﴾ أي الله أنزل ذلك وهذا كما إن الإنسان إذا أراد البيان والاحتجاج بما يعلم أن الخصم مقر به ولا يستطيع دفعه ذكر ذلك ثم تولى الجواب عنه بما قد علم أنه لا جواب له غيره ﴿ثم ذرهم في خوضهم يلعبون﴾ أي دعهم وما يختارونه من العناد وما خاضوا فيه من الباطل واللعب وليس هذا على إباحة ترك الدعاء والإنذار بل على ضرب من التوعد والتهدد كأنه قال دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم.
مجمع البيان في تفسير القرآن للفضل بن الحسين الطبرسي (قدس سره)