والأئمة الأطهار الميامين الأبرار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
لاسيما الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف
والعالم الإسلامي أجمع بذكرى إستشهاد الإمام المرتضى علي بن أبي طالب عليه السلام
حادثة استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)
ــــــــــــــــــــــ
خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في آخر
جمعة من شهر شعبان وذكر ما يتعلَّق بشهر رمضان ،
فقام الإمام علي وقال: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر
يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: يا أبا الحسن ! أفضل الأعمال في هذا الشهر
الورع عن محارم الله عزَّ وجل ، ثُمَّ بكى النبي عليه
الصلاة والسلام فقال الإمام علي:
ما يبكيك يا رسول الله ؟ فقال: يا علي ! أبكي لما
يستحل منك في هذا الشهر ! كأنِّي بك وأنت تُصلِّي
لربِّك وقد انبعث أشقى الأوَّلين والآخرين ، فضربك
ضربة على قرنك ، فخضب منها لحيتك ، قال الإمام:
وذالك من سلامـة مـن ديني ؟ فقال عليه الصلاة
والسلام: في سلامة من دينك …
وقبل الواقعة أخبر الإمام علي ابنته أم كلثوم بأنه
رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم
وهو يمسح الغبار عن وجهه ويقول: يا علي لا عليك
، قضيت ما عليك ، وكان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثًا
وستين سنة.
وفي شهر رمضان من تلك السنة التي استشهد فيها
كان الإمام يفطر ليلةً عند ولده الحسن وليلةً عند وله
الحسين وليلة عند ابنته زينب الكبرى ، زوجة عبد الله
بن جعفر ، وليلةً عند ابنته زينب الصغرى المُكناة بأم
كلثوم.
وفي الليلة التاسعة عشر كان الإمام في دار ابنته أم
كلثوم فقدَّمت له فطوره في طبق فيه قرصان من خبز
الشعير ، وقصعة فيها لبن حامض ، فأمر الإمام ابنته
أن ترفع اللبن ، وأفطر بالخبز والملح ، وأكل قرصًا
واحداً ، ثُمَّ حمد الله وأثنى عليه ، وقام إلى الصلاة ،
ولم يزل راكعًا وساجدًا ومبتهلاً ومتضرِّعًا إلى الله تعالى
، وكان يُكثر الدخول والخروج وينظر إلى السماء ويقول
هي ، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله ،
ثم رقد هنيئة وانتبه وجعل يمسح وجهه بثوبه ، ونهض
قائمًا على قدميه وهو يقول: اللهم بارك لنا في لقائك ،
ويكثر من قول: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم ،
ثم صلى حتى ذهب بعض الليل ، ثم جلس للتعقيب.
قالت أم كلثوم: قال لأولاده: إني رأيت في هذه الليلة
رؤيا هالتني وأريد أن أقصها عليكم ، قالوا: وما هي ؟
قال: لإني رأيت الساعة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في منامي وهو يقل لي: يا أبا الحسن إنك قادم
إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من
دم رأسك ، وأنا والله مشتاق إليك ، وإنك عندنا في
العشر الأواخر من شهر رمضان ، فهلُمَّ إلينا فما عندنا
خيرُ لك وأبقى ، قال: فلمَّا سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء
والنحيب ، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا ، ثم أقبل
عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر ،
قالت أم كلثوم: لم يزل أبي تلك الليلة قائما وقاعدا
وراكعا وساجدا ، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يُقلِّبُ
طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول:
والله ما كَذبت ، وإنها الليلة التي وُعِدتُ بها ، ثم
يعود إلى مُصلاه ويقول: اللهم بارك لي في الموت.
ويكثر من قول: " إنَّا لله وإنا إليه راجعون "
ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم ، ويصلي على
النبي عليه الصلاة والسلام ويستغفر الله كثيرًا ، قالت
أم كلثوم: فلمَّا رأيته في تلك الليلة قلقا متململاً كثير
الذكر والاستغفار أرِقتُ معه ليلتي وقلت: يا أبتاه مالي
أراك هذه الليلة لا نذوق طعم الرقاد ؟ قال: يا بنيَّه إنَّ
أباك قتل أبطال وخاض الأهوال وما دخل الخـوف له
جـوفًا ، وما دخل في قلبي رعب أكـثر مما دخل في
هذه الليلة ، ثم قال: " إنَّا لله وإنا إليه راجعون " فقلت:
يا أبي مالك تنعي نفسك منذ الليلة ؟ قال: بُنَيَّة قد قَرُبَ
الأجل وانقطع الأمل ، قالت أم كلثوم: فبكيت فقال لي:
يا بنية لا تبكي ، فإني لم أقل ذالك إلاَّ بما عهـد إليَّ
النبي صلى الله عليه وآله ، ثم إنه نعس وطوى ساعة
ثم استيقظ من نومه ، وقال: يا بنية إذا قرب الأذان
فأعلميني، ثم رجع ما كان عليه أول الليل من الصلاة
والدعاء والتضـرع إلى الله سبحانـه وتعالى ، قالت
أم كلثوم: فجعلت أرقب الأذان ، فلما لاح الوقت أتيته
ومعي إناء فيه ماء ، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء ، فقام
ولبس ثيابه وفتح بابه ثم نزل إلى الدار وكان في الدار
أوِز قد أهدي إلى أخي الحسين فلما نزل خرجْن وراءه
ورفرفن ، وصحن في وجهه ، وكان قبل تلك الليلة لم
يصحن فقال: لا إله إلا الله ، صوائح تتبعها نوائح ،
وفي غداة غدٍ يظهر القضاء.
فقلت: يا أبتاه هكذا تتطيَّر ؟ فقال: بُنيَّه ما منَّا أهل
البيت من يتطيَّر ولا يتطيَّر به ، ولكن قول جرى على
لساني ، ثم قال: يا بُنيَّـة بحقي عليك إلاَّ ما أطلقتيه ،
وقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقـدر على الكلام
إذا جاع أو عطش فأطعميه واسقيـه وإلاَّ خلي سبيله
يأكل من حشائش الأرض ، فلمَّا وصل إلى الباب فعالجه
ليفتحـه فتعلَّق الباب بمئزره فانحلَّ مئزره حتى سقـط
فأخذه وشدَّه وهو يقول:
أُشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ فَإِنَّ الْمَوْتَ لاَقِيكَا
وَلاَ تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا حـَلَّ بـِنَادِيكَا
كَمَا أَضْحَكَكَ الدَّهْـرُ كَذَاكَ الدَهْرُ يُبْكِيكَا
ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت ، اللهم بارك لي
في لقائك ، قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه ، فلمَّا
سمعته يقول ذالك قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعي
نفسك منذ الليلة قال: يا بنيه ما هو بنعاء ولكنها دلالات
وعلامات للموت يتبع بعضها بعضًا ، ثم فتح الباب
وخرج قالت أم كلثوم: فجئت إلى أخي الحسن فقلت:
يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا وهو قد
خرج فألحقه فقام الحسن بن علي عليه السلام وتبعه
فلحق به قبل أن يدخل الجامع ، فأمره الإمام بالرجوع
فرجع.
وأمَّا عدو الله: عبد الرحمن بن ملجم المرادي كان
على رأي الخـوارج ، وكانت بينه وبين قُطام حب
وغرام ، وقطام قد قتل أبوها وأخـوها وزوجها في
معركة النهروان التي دارت بين الخـوارج وجيش
الإمام علي بن أبي طالب ، وقد امتـلأ قلبها غيضًا
وعداء للإمام علي ، وأراد ابن مُلجم أن يتزوَّجها
فاشترطت عليه قتل الإمام علي بن أبي طالب وطلبت
منه ثلاثة آلاف دينار وعبدًا وجارية وينسب إليه هذه
الأبيات:
فَلَمْ أَرَ مَهْرًا سَاقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ
كَمَهْرِ قُطَامٍ مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ
ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَعَبْدٍ وَجَارِيَةٍ
وَضَرْبَ عَلِيٍ بِالْحُسَامِ الْمُصَمَّمِ
فجاء عبد الرحمن تلك الليلة وبات في المسجد
ينتظر طلوع الفجر ومجيء الإمام علي للصلاة وهو
يفكر حول الجريمة العُظمى التي قصد ارتكابها ومعه
رجلان الأول شبيب بن بحرة والثاني وردان بن مجالد
يساعدانه على قتل الإمام .
وسار الإمام إلى المسجد ، وصعد المأذنة ثم أذَّن ،
فلم يبق في الكوفة بيت إلاَّ اخترقه صوته ، ثم نزل
من المأذنة وهو يسبح الله سيحانه وتعالى ويقدسـه
ويكبره ، ويكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه
وآله، وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائـم:
" الصلاة ، يرحمك الله قُم إلى الصلاة المكتوبة ثم تلا
قوله تعالى: " إِنَّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ".
لم يزل الإمام يفعل ذالك حتى وصل إلى ابن مُلجم
المُرادي وهو نائمٌ على وجهه وقد أخفى سيفه تحت
إزاره فقال له الإمام: يا هذا قُم من نومك هذا ، فإنها
نومة يمقتها الله ، وهي نومة الشيطان ، ونومة أهل
النار ، بل نَمْ على يمينك فإنها نومة العلماء ، أو نَمْ
على يسارك فإنها نومـة الحُكماء ، أو نم على ظهرك
فإنها نومـة الأنبياء.
نعم ، الشمس تشـرق على الْبَرِّ والفاجـر والإمام
علي يفيض من علومه على الأخيار والأشرار وينصح
السعـداء والأشقياء ولا يبخل عن الخير حتى لأشقى
الأشقياء ، ويرشد كل أحد حتى قاتله !!
ثم قام قائمًا يصلي ، وكان يطيل الركوع والسجود
في صلاته ، فقام المجرم الشقي اللعين لإنجاز أكبر
جريمة في تاريخ الكون !! وأقبل مُسرعً يمشي حتى
وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام يصلي عليها ،
فأمهله حتى صلَّى الركعـة الأولى وسجد السجـدة
الأولى ورفع رأسه منها ، فتقدم اللعين وأخذ السيف
وهزَّه ثم ضربه على رأسه الشريف ، فوقعت الضربة
على مكان الضربة التي ضربه عمرو بن عبد وُد
العامري.
فوقع الإمام على وجهه قائلاً: بسم الله وبالله وعلى
مِلَّةِ رسول الله ثم صاح الإمام قائلاً: قتلني ابن مُلْجِمْ ،
قتلني ابن اليهودية ، أيها الناس ! لا يفوتكم ابن مُلْجِمْ.
نبع الدم العبيط من هامة الإمام وسال على وجهه
المنير ، وخضَب لحيته الكريمة وَصَدَقَ كلام الرسول
صلى الله عليه وآله ووقع ما أخبر به ، لم يفقد الإمام
وعيه وما انهارت أعصابه بالرغم من وصول الضربة
إلى جبهته وبين حاجبيه ، فجعل يشدُّ الضربة بمئزره
ويضع عليها التُّراب ، ولم يُمهله الدم فقد سال على
صدره وأزياقه ، وعوضًا من التأوه والتألُّم والتوجُّع
كان يقول عليه السلام: فُزْتُ وربُّ الكعبة ! هذا ما
وعد الله ورسوله ! وَصَدَقَ رسوله ! استولت الدَّهشة
والذُّهول على الناس ، وخاصَّـةً على المصـلِّين في
المسجد.
وخرج الحسن والحسين فإذا الناس ينوحون وينادون:
واإماماه ، واأمير المؤمنيناه ، ، قُتِلَ والله إمامٌ عابدٌ
مُجاهد لم يَسْجُدُ لِصَنمٍ قط ، وكان أشبه الناس برسول
الله.
فلمَّا سمع الحسن والحسين عليهما السلام صرخات
الناس ناديا: واأبتاه واعليَّاه ، ليت الموت أعدمنا الحياة
، فلمَّا وصلا إلى الجامع ودخلا وجد أبا جُعْدَة بن هبيرة
ومعه جماعة من الناس وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام
في المحراب ليصلِّي بالناس . فلم يُطِقْ على النهوض ،
وتأخَر عن المحراب ، وتقدَّم الحسن فصلَّى بالناس ،
والإمام علي صلَّى إيماءً من جلوس وهو يمسح الدَّم
من وجهه وكريمته يميل تارةً ويسكن أخرى.
ثم إن الخبر شاع في جوانب الكوفة وانحشر الناس
إلى الجامع ينظـرون إلى الإمام علي بن أبي طالب ،
فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن ورأس أبيه في
حُجره وهو يرمق السماء بطرفه ولسانه يسبح الله
ويوحده.
فقال له الحسن: يا أبتاه ما تعرفنا من ضربك ومن
فعل بك هذا ؟ قال الإمام: ضربني ابن اليهودية ،
عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، فقال الحسن: يا أبتاه !
من أيِّ طريق مضى ؟ قال: لا يمضي أحدٌ في طلبه
فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب . وأشار بيده الكريمة
إلى باب كنده.
فاشتغل الناس بالنظر قدوم إلى باب كندة ويرتقبون
قدومه وقد غصَّ المسجد بالعالم ما بين باكِ ومحزون ،
فما كان إلاَّ ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت من الناس
وقد جاؤوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفًا هذا يلعنه وهذا
يضـربه ويقولون له: يا عدو الله ما ذا فعلت ؟
ضربت خير الناس ، وإنَّه لصامت وبين يديه رجل
يقال له حذيفة النخعي بيده سيفٌ وهو يردُّ الناس عن
قتله ، وهو يقول: هـذا ضارب أمير المؤمنين علي
حتَّى أدخلوه المسجد فلمَّا جاؤوا به أوقفوه بين يـدي
الإمام علي ، فلمَّا نظر إليه الحسن قال له:
يا ويلك يا لعين ! يا عدوَّ الله ! أنت قاتل أمير المؤمنين
ومثكلنا بإمام المسلمين ؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك
وقرَّبك وأدناك وآثرك على غيرك ؟ فلم يتكلَّم بل دمعت
عيناه.
فقال له الملعون: يا أبا محمد أفأنت تنقذ من في
النار ؟ فعند ذالك ضجَّ الناس بالبكاء والنَّحيب ، فأمر
الحسن بالسُّكوت.
فقال الحسن: الحمد لله الذي نصر وليه ، وخـذل
عدوه ، ثم انكبَّ الحسن على أبيه يُقَبِّلُهُ وقال: يا أباه
هذا عدو الله وعدوك ابن مُلجم قد أمكن الله منه وقد
حضر بين يديك.
ففتح الإمام علي عينه ونظـر إليه وهو مكـتوف
وسيفـه مُعلَّقٌ في عنقـه ، فقال له بضعف وانكسار ،
صوت رأفة ورحمة: يا هذا لقد جئت عظيما ، وارتكبت
أمـرًا عظيما ، وخطبًا جسيما ، ألم أكـن شفيقًا عليك
وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك ؟
ألم يكن يقال لي فيك كذا وكـذا ، فَخَلَيْت لك السبيل
ومنحتك عطائي ؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة
ولكن رجوت الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع ،
فغلبت عليك الشقاوة فضربتني يا شَقِيُّ الأشقياء ؟.
فدمعت عينا ابن مُلجم وقال: يا أمير المؤمنين أفأنت
تنقذ من في النار ؟ قال له: صدقت ، ثم التفت إلى ولده
الحسن وقال له: أرفق يا ولـدي بأسيرك ، وارحمـه
وأحسن إليه وأشفق عليه ، ألا ترى إلى عينه قد طارتا
في أُمِّ رأسه ، وقلبه يرجف خوفًا وفزعًا ؟؟ فقال له
الحسن: يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وافجعنا فيك ،
وأنت تأمرنا بالرفق به ؟ فقال: نعـم يا بُنَيَّ نحن أهل
بيتٍ لا نزداد على الذنب إلينا إلاَّ كرمًا وعفوًا ! والرَحمة
والشفقة من شيمتنا ! بحقي عليك فأطعمه يا بُني مِمَّا
تأكله ! واسقه مِمَا تشرب ! ولا تُقَيِّدَ له قدمًا ولا تَغُلَّ له
يَدًا ! فإنْ أنا مُتُّ فاقتصَّ منه بأنْ تقتله وتضربه ضربةً
واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تُمثِّل بالرجل ، فإنِّي سمعت
جّدَّكَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إيَّاكُمْ
والمُثْلَةَ ولو بالكلب العقور ، وإنْ أنا عشت فأنا أولى به
، وأعلم بما أفعل به.
قال محمد بن الحنفيـة ابن الإمام علي: بتنا ليلـة
عشرين من شهر رمضان مع أبي ، وكان يصلِّي تلك
الليلة من جلوس ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن
نفسه ، ويخبرنا بأمره إلى طلوع الفجر ، فلمَّا أصبح
استأذن الناس عليه ، فأذن لهم بالدخول ، فدخلوا عليه
وأقبلوا يسلمون عليه وهو يرد عليهم السلام ثم يقول:
" أيها الناس ! اسألوني قبل أن تفقدوني ، وخَفِّفُـوا
سؤالكم لمُصيبة إمامكم !!
فبكى الناس بكاءً شديدًا ، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفًا
عنه فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال:
فَيَا أَسَفِي عَلَى الْمَوْلَى التَّقِيِّ
أَبِي الأَطْهَارِ حَيْدَرَةَ الزَّكِيِّ
قَتَلَهُ كَافِـرٌ حَنَـثٌ زَنِيـمٌ
لَعِينٌ فَاسِـق ٌ نَغَلٌ شَقِيِّ
إلى آخر أبياته ، فلما أبصر به الإمام وسمع شعره
قال له: كيف بك إذا دُعيت إلى البراءة مِنِّي، فما
عساك أن تقول ؟.
فقال حجر: واللهِ يا أمير المؤمنين ! لو قُطِّعت
بالسيف إربًا إربًا ، وأُضرم لي النار ، وأُلْقِيتُ فيها ،
لآثرت ذالك على البراءة منك !!
فقال الإمام: وُفِّقْتَ لكلِّ خير يا حجر ، جزاك الله
عن أهل بيت نبيِّك.
كان الناس متجمهرين على باب بيت الإمام ينتظرون
تنفيذ حُكم الإعدام في حَقِّ ابن مُلْجِمْ ، فخـرج الإمام
الحسن وأمرهم عن قول أبيه بالانصراف ، فانصـرف
الناس ، وكان الأصبغ ابن نُباتة جالسُا فلم ينصـرف ،
فخرج الإمام الحسن مرَّةً ثانيةً وقال: يا أصبغ أما
سَمِعْتَ قولي عن أمير المؤمنين ؟ قال: بلى ، ولَكِنِّي
رأيتُ حاله ، فأحببتُ أن أنظر إليه فأسمع منه حديثًا ،
فاستأذن لي رَحِمَكَ الله.
فدخل الحسن ولم يلبث أن خرج فقال له: أُدْخُلْ !
قال الأصبغ: فدخلت فإذا أمير المؤمنين مُعَصَّبْ بعصابةٍ
، وقد علت صُفْرَ وجهه على تلك العصابة ، وإذا هُوَ
يرفع فَخِذًا ويضع أُخرى من شِدَّةِ الضَّرْبة وكثرة السُّم.
فقال لي: يأ أصبغ ! أمَا سَمِعْتَ قول الحسن عن
قولي ؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين ، ولكنِّي رأيتك في
حالةٍ فأحببتُ النظر إليك ، وأن أسمع منك حديثًا.
فقال لي: أُقْعُدْ ، فما أراك تسمع مِنِّي حديثًا بعد يومك
هذا !!
إعلم يا أصبغ ، أنِّي أتيت رسول الله صلى الله
عليه وأله عائدًا كما جئت الساعة فقال: يا أبا الحسن !
أُخْرُجْ فناد في الناس: الصلاة جامعة، واصْعَدِ الِمنْبَر
وقُمْ دون مقامي بمرقاةٍ وقل للناس: " ألا من عَقَّ
والديه فلعنة الله عليه ، ألا من أَبِقَ من مواليه فلعنة
الله عليه ، ألا من ظلم أجيرًا أجرتُه فلعنة الله عليه ".
يا أصبغ ! ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله
صلى الله عليه وآله، فقام من أقصى المسجد رجل
فقال: يأ أبا الحسن تكلَّمت بثلاث كلمات أوجزتهن ،
فلم أرِدُُّ جوابًا حتَّى أتيت رسول الله ، فقلت: ما كان
من الرجل ؟.
قال الأصبغ: ثُمَّ أخذ بيدي وقال: يا أصبغ ، أبسط
يدكَ ، فبسطت يدي ، فتناول أصبعًا من أصابع يدي
وقال: يا أصبغ ، كذا تناول رسول الله أصبعًا من
أصابع يدي كما تناولت أصبعًا من أصابع يدك ثُمَّ قال:
يا أبا الحسن ، ألا وإنِّي وأنت أبو هذه الأُمَّة فمن عقَّنَا
فلعنة الله عليه ، ألا وإنِّي وأنت مَوْلَيَا هذه الأُمَّة فَعَلَى
من أَبِقَ فلعنة الله عليه ، ألا وإنِّي وأنت أجِيرًا هذه الأُمة
، فمن ظلمنا أجْرَنَا فلعنة الله عليه ، ثُمَّ قال: آمين ،
فقلت: آمين.
قال محمد بن الحنفية ابن الإمام علي لَّا كانت ليلة
إحدى وعشرين جمع أبي أولاده وأهل بيته وودَّعهم ثم
قال لهم: اللهُ خليفتي عليكم ، وهو حسبي ونعم الوكيل
، وأوصاهم بلزوم الإيمان .
وقد مضت ثلاثة أيام فقال: يا بني عبد المطَّلب:
لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضًا تقولون قتل
أمير المؤمنين ، ألا لا تقتلنَّ بعدي إلاَّ قاتلي ، انظروا
إذا أنا مِتُ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضرْبةٍ ،
ولا يُمَثَّلُ بالرجل فإنِّي سمعت رسول الله (ص) يقول:
" إيَاكم والمُثْلَةَ ولو بالكلب العقور ".
ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحُسين وقال:
يا أبا محمد ويا أبا عبد الله كأنِّي بكما وقد خَرَجَتْ من
بعدي الفتن من هاهنا وهاهنا ، فاصبرا حتَّى يحكم الله
وهو خير الحاكمين ، يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه
الأُمَّة ، فعليك بتقوى الله والصبر على بلاءه.
ثم قال: أستودعكم الله جميعًا ، سدَّدكم الله جميعًا ،
خليفتي عليكم الله ، وكفى بالله خليفة ثم قال: وعليكم
السلام يا رسل ربِّي ، وما زال يذكر الله ويتشهَّد
الشَّهادتين: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ،
وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله ثُمَّ قضى نحبه وكان ذالك
في ثلاثة وعشرون من شهر رمضان المبارك.
____________________________________
(عظم الله أُجورنا وأُجوركم باستشهاد أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام)