اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في مقابل الدعوات الكبيرة من القرآن الكريم والسنة المطهّرة بضرورة تفعيل نشاط اللسان؛ هذه النعمة العظيمة التي وهبها الله تعالى للانسان، للصدح بقول الحق ونشر الفضيلة ومقارعة الباطل وتصحيح الانحراف، هنالك دعوة في الوقت ذاته لتنظيم هذا النشاط وعدم إطلاق اللسان ما يأتي عليه من ألفاظ وكلام ينثره اينما كان. وربما لا تقل هذه الدعوة اهمية عن الدعوة الاولى. لان (من كثر حديثه كثرت زلاته....)، وقطعاً هذا ما لايريده لنا الله تعالى وأهل بيته الاطهار. لاسيما ونحن اليوم أحوج ما نكون الى آليات سليمة لصياغة الثقافة الصحيحة والاصيلة لضمان السلامة الفكرية لابناء المجتمع.
نعم؛ هنالك في تراثنا المقدس أحاديث للمعصومين عليهم السلام في (الصمت) واهميته، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (أربع لا يصبهن إلا مؤمن: الصمت وهو أول العبادة). وجاء في وصف أمير المؤمنين عليه السلام للمتقين في نهج ا لبلاغة: (إن صمت لم يغمّه صمته، وان ضحك لم يعل صوته)، ويعدها عليه السلام من صفات المؤمن ايضاً: (كثير صمته ، مشغول وقته). وهذا إن دلّ على شيء فانما يؤكد لنا اهمية هذه المفردة الثقافية في منظومة القيم الدينية والاخلاقية، بل انها الاساس والقاعدة للبناء الثقافي، بمعنى ان (الصمت) قاعدة لـ (الكلام)، ومن دون القاعدة لن يكون هنالك بناء، وإن كان فانه معرض للفشل والانهيار.
أثر الصمت في حياة الانسان، "إن العاقل يفكّر ثم يتكلّم". قد جاءت تأكيدات سماحة المرجع الشيرازي على قيمة السكوت في حياة الانسان، لتفتح أمام الجميع آفاق التأمل وقدرته على نقل الانسان من حالات التعجّل والتسرع وارتكاب الاخطاء، الى حالات التفكير السليم، وما أحوجنا إليها في حياتنا.
قيمة الوقت بين الصمت والكلام
يقول سماحة المرجع الشيرازي أيضا: "إن السكوت هو الطريق الأفضل والأسرع لرقيّ الإنسان وتكامله؛ لأن الإنسان ميال بطبيعته لأن يقول كلّ ما يشعر به ويعلمه ويعرفه، مع أن معظمه لا يتناسب من حيث القيمة مع ما يصرفه الإنسان من وقت في هذا السبيل، في حين أن التأمل والتفكر يعطي نتائج أفضل. وإذا كان الناس يعظمون المبدعين والمخترعين والمكتشفين فإن الإبداع في كلّ مجالات الحياة يظهر نتيجة التأمل وليس الكلام".
ولكن تبقى الظروف المحيطة بالانسان هي التي تتحكم بأولوية الصمت أو الكلام، بمعنى هناك مواقف لا يصح معها صمت المؤمن، وهناك مواقف اخرى تتطلب الهدوء والتأمل والصمت لحين الوصول الى القرار الأصح، "تارة يكون الكلام واجباً، ولاشك أن السكوت غير مفضّل عليه في مثل هذه الحالة، ومثاله الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر الحرام. وتارة يكون السكوت واجباً ويأثم الإنسان بتركه كما لو أدّى الكلام إلى قتل النفس المحترمة، وفي مثل هده الحالة يكون السكوت مفضّلاً بل لا يجوز الكلام". "إنّ السكوت النافع أغلى من الكلام النافع، ما لم يكن هناك مرجّح لأحدهما على الآخر".
من فوائد الصمت والتأمّل
إن التأمل والصمت رديفان يدعم بعضهما الآخر، فالصمت يتيح لصاحبه عدم التسرع في إطلاق موقف محدد حيال قضية ما، والتأمل يمنح صاحبه فرصة الاستنتاج الامثل، وينطبق هذا في جانبي المادة والفكر او الجانب النظري، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: "لو أن شخصاً أراد أن يشتري بضاعة ما، فتأمل قليلاً قبل ذلك، فربما انتهى إلى أن هذه البضاعة يمكن اقتناؤها في أمكنة متعددة، وأن سعرها قد يكون في مكان ما أرخص مع الاحتفاظ بالمواصفات نفسها. وربما اختلفت في المواصفات وانتهى إلى أن من مصلحته أن يشترى نوعية معيّنة بالمواصفات الممتازة بتفاوت أقلّ في السعر. ولو كان هذا الشخص قد بادر إلى شراء البضاعة دون تأمل وتفكر فربما ندم لفوات الأفضل أو الأرخص".
"الحالة نفسها تصدق في المعنويات. فالطالب مثلاً يتأمل ويفكّر في اختيار الدروس وسلوك الطريق الذي يختصر عليه الوقت. والمحاضر يفكر كيف يرفع من مستوى الحاضرين، والداعية يخطط قبل أن يبدأ بهداية الشباب، وهكذا المجاهد والعالم والقائد. كلٌّ يبحث بالتأمل والتدبر عن أسهل الطرق وأسرعها بلوغاً للهدف. وهذا كلّه لا يأتي إلا بالصمت".
بين العاقل والأحمق
لذا يكمن الفرق بين العاقل والاحمق في طريقة ردود الفعل ازاء المواقف والاحداث، اذا تبدو العجالة واضحة في سلوك ومواقف وكلام الاحمق، بينما يبقى العاقل هادئا متأملا عارفا بما يليق بهذا الموقف او ذاك من مواقف وكلمات "عن الإمام علي سلام الله عليه أنه قال: "لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه، أي أن الأحمق سريع الكلام يطلق القول قبل أن يفكر فيه ، خلافاً للعاقل فإنّه يفكر في الكلمة قبل أن يقولها".
وهكذا نفهم بأن الصمت قد يفوق قيمة الكلام اذا لم يكن في محله، وهذه القضية تتطلب نوعا من الذكاء والتمرس، قد لا ينجح الجميع في أدائها، لأنها قد تصل الى درجة الملَكَة، حيث ينبغي على الانسان أن يتدرب عليها، من أجل أن يكون دائما في حالة وسط بين وجوب الصمت والتأمل وضرورة النطق والكلام واعلان الموقف الواضح، لذلك ينصح سماحة المرجع الشيرازي "لنقرّر من الآن أن نتعوّد على الصمت والاستفادة من الوقت، وهذا لا يتحقّق دفعة واحدة، بل يأتي عبر الترويض، ويبدأ بالقليل ثم يزداد شيئاً فشيئاً، وذلك بأن يصمّم المرء أن يكون منتبهاً لنفسه كلّ يوم في ساعة معيّنة فلا يتكلّم إلا بعد أن يتأمّل ويشخّص أنه نافع، ويستمرّ على هذه الحالة لمدّة أسبوع مثلاً، بعد ذلك يزيد المدة إلى ساعتين وهكذا لمدة أسبوعين أو شهر مثلاً، ويستمرّ يزيد عدد الساعات التي يراقب نفسه فيها بمرور الزمن، حتى تصبح الحالة ملكة عنده".
واذا القينا نظرة خاطفة الى ما حولنا نجد الكم الهائل من الكلام المذاع هنا وهناك وبوسائل وطرق متنوعة، بل نجد التسابق المحموم والعجيب على نشر وبث اكبر كمية من الكلام الى الاسماع، وهذا لعله يكون أصدق دليل على تسطيح الوعي وتشويه الصورة الثقافية للمجتمع، لان تبعاً لهذه الحالة فان الفرد سيبدأ استعداداته لخوض غمار (الحروب الكلامية) والمساجلات والمغالطات والملاسنات وغيرها، مما تؤدي بالدرجة الاولى الى تغييب الفكر والثقافة، وسيادة الجهل والانانية وبالتالي التمزق والتخلف، وليس أدلّ على ذلك ظاهرة تراجع الثقة بشكل كبير بأي كلام او حديث يصدر في وسائل الاعلام او حتى من خلال إصدار جديد.
لنصمت قليلاً ونستمع ما يقوله سيد البلغاء أمير المؤمنين عليه السلام: (أكثر صمتك يتوفّر فكرك، ويستنر قلبك، ويسلم الناس من بين يديك).