بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
وهۆلاء المناهل الرويّة فيهم الشاخص المعروف ـ كالأئمة المعصومين (عليهم السلام) ـ وفيهم مَن دونهم من ذوي الشأن العظيم عند الله تعالى ـ وإن لم يصلوا درجة الإمامة ـ كأبي الفضل العباس بن علي (عليهما السلام)، و السيدة زينب بنت علي (عليهما السلام)، و السيد عبد العظيم الحسيني وكذلك بعض العلماء الأبرار الذين ظهرت على أيديهم الكرامات الجليلة الدالة على علوّ شأنهم وارتفاع منزلتهم عند الله وهذه درجة لا يصلها إلا من امتحن الله قلبه للإيمان.
من تلك الشخصيات البارزة في ميدان العظمة والجلالة من الذين عطروا الحياة بكرامتهم، وكانوا في حياتهم وبعد وفاتهم مصابيح هداية، السيدة نفيسة ، هذه الشخصية العظيمة، والدرّة المضيئة التي ما فتئت تنثر الخير والبركات النديّة، لتروي المتعطشين لنمير علومها الهادية ، والسيدة هي جوهرة من خزائن آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ودرّة من البيت العلوي الطاهر، استقرّتْ على غرّة مدينة القاهرة، الصرح الفاطمي المشهود.
السيرة العطرة
والسيدة نفيسة هي بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب (عليهم السلام)، ولدت بمكة ونشأت بالمدينة، وقدمت إلى مصر فى سنة 193هجرية الموافق 809 ميلادية وأقامت بها إلى أن توفيت فى سنة 208هجرية الموافق 824 ميلادية حيث دفنت في منزلها وهو الموضع الذي به قبرها الآن والذي عُرف فيما بعد بمشهد السيدة نفيسة، وكانت سيدة صالحة زاهدة تحفظ القرآن وتفسيره. وكان زوجها إسحاق من أهل الفضل والاجتهاد، والورع والصلاح، كيف لا! وهو ابن الإمام الصادق (عليه السلام)، وقد أخذ عن أبيه الكثير من علومه وآدابه ، وقد ولدت له (أبا القاسم) و(أم كلثوم)، وهكذا اجتمع في هذا البيت نور الحسن ونور الحسين (عليهما السلام). استقرّتْ في مصر بعد الظروف العصيبة التي مرّتْ بها في المدينة المنوّرة، وراح الناس بمختلف فئاتهم يترددون عليها وعلى زوجها يأخذون عنهما العلم والفقه والحديث، فحصلوا بذلك على الكثير من الثقافة الصحيحة ، واستمروا يتدفقون عليهما، وأصبحت رمزاً للطهارة والقداسة في تلك الديار. وكان لأخيها يحيى (المتوّج) بنت واحدة اسمها (زينب) انقطعت لخدمة عمتها، تقول: (لقد خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة، فما رأيتها نامت بليل أو أفطرت بنهار، إلا في العيد وأيام التشريق) وتقول: (كانت عمتي تحفظ القرآن وتفسّره وتقرأه وتبكي..) وهكذا عاشت في مصر معزّزة مكرّمة، ينتهل من نمير علومها أهالي مصر. وكانت مثال الحديث الشريف: (عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم، وإن متّم بكوا عليكم)، وهكذا ما أن حلّ عام 208هـ - ولم تكد تدخل سنتها الرابعة والستين - حتى أحست بدنو أجلها، فكتبت إلى زوجها تطلب حضوره.
واشتدت بها العلة، حتى حلّت عليها أول جمعة من شهر رمضان، فزاد عليها الألم - وهي صائمة - فدخل عليها حُذّاق الأطباء، فأشاروا عليها بالإفطار لحفظ قوتها، ولتتغلب على مرضها فرفضت، ثم أنشدت:
اصـــــــرفوا عني طبيبي ودعونــــــي وحبـــــــيبي
زاد بــــــــــي شوقي إليـــه وغـــــــرامي فـــــي لهيب
طـــــــاب هتكـي في هــــواه بيـــــــن واش ورقيـــــــب
لا أبــــــــــــــالي بفـــــــوات حيــــث قد صار نصيبي
ليــس مـــــــن لام بعـــــذل عنـــــــه فيـــــــه بمصيب
جســـــــدي راض بسقمي وجفونـــــــي بنحيــــــبي
فانصرف الأطباء، وقد شدّهم الإعجاب بقوة يقينها وثبات دينها، فسألوها الدعاء، فقالت لهم خيراً ودعت لهم. وشاءت السيدة نفيسة أن تختم حياتها بتلاوة القرآن الحكيم، وبينما كانت تتلو سورة الأنعام، حتى إذا بلغت قوله تعالى (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) الأنعام/ 127 غشي عليها. تقول زينب - بنت أخيها - فضممتها إلى صدري، فتشهدت شهادة الحق، وصعدت روحها إلى باريها في السماء. وما إن ذاع خبر وفاتها حتى عجّ الناس بالبكاء والنحيب، ودخل الحزن بيت كلّ محبّ وعارف لفضل هذا البيت الطاهر، ووصل زوجها (إسحاق المۆتمن) القاهرة بعد أن كانت قد فارقت روحها الطاهرة البدن المسجّى. وهكذا بعد أن تمّ القرار على دفنها في القاهرة، اجتمع الناس لتأدية المراسم، فكان يوماً مشهوداً، وازدحم الناس ازدحاماً شديداً، كلّهم يريد أن ينال شرف الصلاة عليها، وتشييع جنازتها، وأقيمت الصلاة عليها في مشهد ضخم حافل لم يُرَ له مثيل، ودُفنت في قبرها الذي حفرته بيدها - وطالما تمددت فيه أيام حياتها تتلو القرآن تتّعض بآياته، وتتأمّل الأيام التي لابدّ من مجيئها.
القبر الشريف
وهكذا أصبح قبرها علماً ومزاراً يزوره المحبّون، ويتذاكرون بركات هذه السيدة الجليلة على أهالي مصر، وما منحتهم من علوم وآداب وما أتحفتهم به من فقه وحديث نبوي. ويقال إنّ أوّل مَن بنى على قبرها هو عبيد الله بن السري بن الحكم أمير مصر. وفى سنة 482 هجرية الموافق 1089 ميلادية أمر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بتجديد الضريح كما أمر الخليفة الحافظ لدين الله في سنة 532 هجرية الموافق 1138 ميلادية بتجديد القبة.
وفى سنة 714 هجرية الموافق 1314 ميلادية أمر الناصر محمد بن قلاون بإنشاء مسجد بجوار المشهد وفى سنة 1173 هجرية الموافق 1760 ميلادية جدّد الضريح والمسجد الأمير عبد الرحمن كتخدا. ولمّا أتلف الحريق قسماً كبيراً من المسجد في سنة 1310 هجرية الموافق 1892 ميلادية أمر الخديوي عباس باشا الثاني بإعادة بنائه هو والضريح وتمّ ذلك فى سنة 1314 هجرية الموافق 1897 ميلادية وهو المسجد القائم الآن بالحيّ المعروف باسمها.
ووجهة المسجد الرئيسة يتوسطها المدخل وهو بارز عن سمتها ومرتفع عنها تغطّيه طاقية مقرنصة وتقوم أعلاه منارة رشيقة بنيت مع الوجهة على الطراز المملوكي، ويۆدّي هذا المدخل إلى دركاة يصل الإنسان منها إلى داخل المسجد وهو عبارة عن حيّز مربع تقريباً مسقوف بسقف خشبي منقوش بزخارف عربية جميلة ويعلو منتصف البائكة الثانية منه (شخشيخة) مرتفعة، وهذا السقف محمول على ثلاثة صفوف من العقود المرتكزة على أعمدة رخامية مثمنة القطاع.
ويتوسط جدار القبلة محراب مكسوّ بالقاشاني الملوّن البديع وفي طرف هذا الجدار وعلى يمين المحراب باب يۆدّي إلى ردهة مسقوفةظ¬ بوسط سقفها (شخشيخة) حلّيت بنقوش عربيةظ¬ ومن هذه الردهة يصل الإنسان إلى الضريح بواسطة فتحة معقودة وبوسطه مقصورة نحاسية أقيمت فوق قبر السيدة نفيسة، ويعلو الضريح قبة ترتكز في منطقة الانتقال من المربع إلى الاستدارة على أربعة أركان من المقرنص المتعدّد. ومن الطرائف الأثرية التي نقلت من مشهد السيدة نفيسة ذلك المحراب الخشبي المتنقّل الذي صُنع للمشهد بين سنتي 532-541 هجرية الموافق 1137- 1147 ميلادية والمودع الآن بدار الآثار العربية مع محرابين خشبيين آخرين صُنع أحدهما للجامع الأزهر والثاني لمشهد السيدة رقيّة، وفيها تتمثل دقّة صناعة النجارة الفاطمية ويتجلى بهاۆها.
ويتمتع المسجد بحالة روحانية نادرة تبعث على الهدوء والسكينة في نفس كلّ زائر، ولذلك فهو يحظى بمكانة عالية في وجدان المصريين الذين يكثرون من زيارته، خاصة يوم الأحد من كل أسبوع، أو كما يطلقون عليه يوم الحضرة، ولابدّ أن تشمل الزيارة ضريح السيدة نفيسة (المقام النفيسي).
نسأل الباري ان يجعلكم ويشملنا من انصار الحجه المنتظر ارواحنا له الفدا
نسألكم الدعاء كلما رفعتم لله كفا