بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
العلم خير وسيلة لتجلية حقيقة التصور الإسلامي، والمنهج الإلهي في الحياة الإنسانية. وهو الوسيلة المُثلى لتوجيه الجماعة الصالحة للارتفاع بها إلى مستوى الأمانة العظيمة التي ناطها الله بها. ولذا كان أهل البيت (عليهم السلام) يتشدّدون مع الجماعة الصالحة في أمر تلقي العلوم المرتبطة بالعقيدة والشريعة من مصادرها الأصيلة وهي القرآن والسنة الشريفة .
وفي منهج الإمام الباقر (عليه السلام) التثقيفي والتعليمي المعد للجماعة الصالحة نلاحظ التأكيد على الأمور التالية :
1 ـ الحث على طلب العلم
حثّ الإمام (عليه السلام) على طلب العلم، وخصوصاً علم الفقه فقال: (الكمال كل الكمال: التفقه في الدين، والصبر على النائبة وتقدير المعيشة)(1).
وحث (عليه السلام) على السؤال باعتباره مفتاح العلم، وروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (العلم خزائن ومفتاحها السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فانه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمجيب لهم)(2).
2 ـ موقع العلماء المتميّز وفضلهم
بيّن الإمام الباقر (عليه السلام) فضل العالم وقدّمه على العابد، لأن العلم الحقيقي يجعل الإنسان على وعي كامل بالحقائق والتصورات وبالأحداث والمواقف، فلا يختلط عليه أمر بأمر ولا موقف بموقف فيكون قادراً على التمييز والتشخيص، وإصابة الواقع في جميع مجالاته، قال (عليه السلام): (عالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد)(3).
وقال (عليه السلام): (والله لموت عالم أحبّ إلى إبليس من موت سبعين عابداً)(4).
وبيّن (عليه السلام) خصائص العالم فقال: (إنّ الفقيه حق الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي)(5).
3 ـ الإخلاص في طلب العلم
حث (عليه السلام) على إخلاص النية في طلب العلم، بأن يكون الهدف النهائي من طلبه للعلم هو الوصول إلى الحقّ، وتقريره في عقول الناس وقلوبهم تقرباً إلى الله تعالى، وتجسيداً لمنهجه في الحياة.
قال (عليه السلام): (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوء مقعده من النار، إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها)(6).
4 ـ ضرورة نشر العلم وتثقيف الناس
حث الإمام (عليه السلام) على نشر العلم وتعليمه للناس، وإشاعته في الأوساط المختلفة، نهي عن كتمانه، بقوله (عليه السلام): (من علّم باب هدى فله أجر من عمل به، ولا ينقص أُولئك من أُجورهم شيئاً...)(7).
وقال (عليه السلام): (رحم الله عبداً أحيا العلم... يذاكر به أهل الدين وأهل الورع)(8).
وجعل على العلم زكاة فقال: (زكاة العلم أن تعلّمه عباد الله)(9).
كما جعل تذاكره ومدارسته صلاة، فقال: (تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة)(10).
5 ـ مزالق وآفات المتعلّمين
إن الإنسان مهما أوتي من علم فإنه يبقى بحاجة إلى المزيد، ويبقى في كثير من الأحيان جاهلاً ببعض الحقائق، لذا حثّ الإمام (عليه السلام) على الاحتياط في الإجابة لكي يأمن الانحراف، ولا تؤدي إلى تغرير الآخرين، قال (عليه السلام): (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه)(11).
وقال: (ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله اعلم، إن الرجل لينتزع الآية من القرآن يخرّ فيها أبعد ما بين السماء والأرض)(12).
وجعل هذا الاحتياط حقاً لله على العباد، فقال: (حق الله على العباد: أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عندما لا يعلمون)(13).
6 ـ المرجعية العلمية
من الحقائق المشهورة عند المسلمين أنّ علياً (عليه السلام) أعلم الصحابة بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وهو باب علم الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد علّم أبناءه ما تعلّمه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانوا يتوارثون العلم فيما بينهم، من هنا كان أهل البيت (عليهم السلام) أعلم الناس بالقرآن والسنّة، ولهذا أكّد الإمام الباقر (عليه السلام) على مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) العلمية، وبيّن أن علمهم موروث منذ آدم إلى يومه هذا، فقال: (إن العلم الذي نزل مع آدم (عليه السلام) لم يرفع، والعلم يتوارث، وكان عليّ (عليه السلام) عالم هذه الأمة، وانه لم يهلك منّا عالم قط إلاّ خلفه من أهله من علم مثل علمه، أو ما شاء الله)(14).
وبيّن اختصاص أهل البيت (عليهم السلام) بعلم القرآن ظاهره وباطنه فقال: (ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء)(15).
كما بيّن أنّ علمهم (عليهم السلام) علم صائب، فقال: (ليس عند أحد من الناس حقّ ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حقّ إلاّ ما خرج منّا أهل البيت)(16).
وقد أثبت الواقع أهليّتهم (عليهم السلام) للمرجعية العلمية العامّة للمسلمين جميعاً، فكانوا مقصد العلماء من جميع أمصار العالم الإسلامي .
وكان (عليه السلام) يحث الجماعة الصالحة على الرجوع لأهل البيت الأطهار تجسيداً لهذه المرجعية وتحصيناً لهم من الزيغ والانحراف(17).
وكان أيضاً يرشد أصحابه إلى مراجعة العلماء الذين أخذوا العلم من أهل البيت (عليهم السلام) وأتقنوا فنونه وأُسسه وقواعده(18).
7 ـ المؤسسات الثقافية
كان للإمام الباقر (عليه السلام) دور كبير في توسيع المؤسسات الثقافية ، فقد أسس عدة مدارس في أهم الأمصار الإسلامية :
مدرسة المدينة: وكان يشرف عليها مباشرة ، وينتقي منها الفقهاء ليواصلوا حمل العلم ونشره .
مدرسة الكوفة: وكان يشرف عليها من تتلمذ على يديه، وتخرّج من مدرسته، وقد أثمرت هذه المدرسة في نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) وإرجاع الناس إليهم، حتى اعترف الحاكم الأموي هشام بن عبد الملك بهذه الحقيقة، فقد أشار إلى الإمام (عليه السلام) قائلاً: هذا المفتون به أهل العراق(19).
ولذا أمر الأمويون بمنع أهل العراق من الالتقاء بالإمام (عليه السلام)(20).
مدرسة قم: وكان يشرف عليها بعض من تتلّمذ على يدي الإمام (عليه السلام)، وهي متفرعة من مدرسة الكوفة.
وتأثرت بمدرسة الكوفة وقم مدارس أُخرى في الشرق الإسلامي، كمدرسة الري وخراسان(21).
وهنالك مدارس جوّالة كان يؤسسها طلابه أينما حلّوا وهي محدودة بحدود عدد الأفراد المشرفين وبمقدار الاستجابة لهم من قبل الناس .
والمؤسسات الثقافية كان لها دور كبير في تخريج الفقهاء والمبلغين من مختلف الأمصار .
وكانت أساليب الإمام التثقيفية متنوعة، بعضها ذو طابع فردي والآخر ذو طابع جماعي. كما كان التثقيف يتم عن طريق التدريس، وأُخرى عن طريق الرسائل والوصايا.
ولم يكن تثقيفه وتعليمه مقتصراً على الفقه والأصول أو العلوم الدينية بشكل خاص، بل كان شاملاً لجميع العلوم المعروفة آنذاك(22).
نسأل الباري ان يجعلكم ويشملنا من انصار الحجه المنتظر ارواحنا له الفدا
نسألكم الدعاء كلما رفعتم لله كفا
الهوامش:
1- الكافي: 1 / 32.
2- حلية الأولياء: 3 / 192.
3- المصدر السابق: 3 / 183 .
4- تذكرة الخواص: 304.
5- الكافي: 1 / 70.
6- المصدر السابق: 1 / 47.
7- الكافي: 1 / 35.
8- المصدر السابق: 1 / 41.
9- المصدر السابق: 1 / 41.
10- المصدر السابق: 1 / 41.
11- المصدر السابق: 1 / 50.
12- المصدر السابق: 1 / 42.
13- الكافي: 1 / 43.
14- المصدر السابق: 1 / 222.
15- المصدر السابق: 1 / 228.
16- المصدر السابق: 1 / 399.
17- المحاسن: 213.
18- بحار الأنوار: 46 / 328.
19- مختصر تاريخ دمشق: 23 / 79.
20- المصدر السابق: 23 / 83.
21- دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة: 1 / 133.
22- الإرشاد: 264.