بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
نقوم في أيّام عاشوراء، وفي غيرها من الأيّام بإحياء ذكرى الشهداء من آل بيت النبوّة، باللجوء إلى كثيرٍ من الشعائر الحسينيّة، التي تختلط فيها السنة الشريفة بالاجتهادات الشخصية للمحتفلين، الأمر الذي يفرض على ذوي العقول النيّرة تأدية دورٍ كبيرٍ في تصحيح الممارسات الخاطئة، التي يُمكن العثور عليها إبّان إقامة مراسيم الاحتفال بالشعائر الحسينية جماهيريّاً؛ تلك الشعائر التي تجنح بعض تصرّفات المشاركين فيها عمّا هو مسموحٌ به شرعاً، بدعوى كونها من جملة الشعائر أو ممّا تقتضيه، بينما هي تُسيئ إلى قدسيّة الشعائر، فضلاً عن إساءتها إلى عموم التشيّع.
وبطبيعة الحال فإنّ التصحيح لتلك الممارسات العاشورائيّة الخاطئة لا يُمكن أن يحصل آنيّاً بمجرّد تشخيصها، بل إنّ ذلك يفتقر إلى نقدٍ علميٍّ بواسطة الأدلّة، حيث يقوم العقل بالتمييز والفصل بين ما يصحّ أن يندرج في خانة الشعائر وبين ما لا يصحّ اعتباره منها، ومثل هذا يكون في عهدة الفقيه الجامع للشرائط.
ومن جهةٍ أخرى، فإنّ للعقل دوراً واضحاً في استلهام العبر واستخلاصها، من خلال دراسة واقعة الطفّ والمعاني السامية المترتبة على استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) مع ثلّةٍ خيّرةٍ من أهل بيته وأنصاره. وقد قادت التأمّلات العقليّة جماعةً من كبار العلماء إلى تأليف كتبٍ كُرّست لإبراز هذا الجانب وذلك، عبر التّعمّق في فهم المعاني المرتبطة بالشهادة والتّضحية التي أرسى قواعدها الإمام الحسين (عليه السلام)؛ ومن أشهر تلك الكتب كتاب (أسرار الشهادة) "للفاضل الدربندي" وكتاب "الخصائص الحسينية" للشيخ جعفر التستري.
ثمّ إنّ لعاشوراء قدرةً معنويّةً كبيرة، يمكنها رفع الحالة الشعورية للشخص الموالي، عبر التوجّه الشعوري ناحية الإمام الحسين (عليه السلام)، وانتهاج سلوكه المضحّي على درب الشهادة. وذلك لا يتمّ بمجرّد الرّغبة والتصّور الساذج، بل يحتاج إلى العمل واعداد المقدّمات، كالتحلّي بالفضائل، والتّخلّي عن الرذائل، ورصد المعاني التي جاء الإمام الحسين (عليه السلام) لترسيخها والعمل بها؛ فمن دون ذلك لا يتمكّن المرء من سلوك سبيل التّضحية مطلقاً. كما يجب علاوةً على ذلك توعية الناس بضرورة استغلال أيّام المحرم للتزوّد بتلك القيم الروحيّة والمبادئ الفذّة التي أفرزتها فاجعة الطّف الأليمة، دون أن يزجّ المرء نفسه في دروبٍ غير مأمونةٍ، وإن كان ظاهرها الدّعوة إلى الجهاد والتّضحية تحت عنوان الثورة الحسينية. وقد وردت جملة من الأخبار التي تُحذّر النّاس من متابعة تلك الدروب، وحذّرت من شرّ الجماعات والأشخاص الذين يتصيّدون في الماء العكر، والذين يستغلّون حبّ النّاس لآل محمد (عليهم السلام)، لأجل الحصول على منافع دنيويّة كالجاه والسّلطان؛ فعن علي (عليه السلام): "إنّ لنا أهل البيت راية مَن تقدّمها مرق ومن تأخّر عنها زهق ومن تبعها لحق".
ولقد روي عن عليٍّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: "تمتدّ الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة من بعده... إنّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كلّ زمان، لأنّ الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً والدّعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً). وبعبارة موجزة: فإنّ الحسينيّ الحقيقيّ هو الذي يستوعب فلسفة الشهادة بجميع أبعادها، ومن جملة ذلك انتظار الفرج، فإنّه من أجلى مصاديق الاستعداد للتضحية.
وتعتبر مناسبة "المحرّم" من الظروف التي تساعد على شيوع الروح الإيمانيّة، وهي فرصةٌ ممتازةٌ للتقويم الأخلاقيّ والتقرّب إلى الله عزّ وجلّ بالعمل الصالح وبالتوبة
فإنّ استذكار ملابسات هذه الفاجعة الأليمة له أكبر الأثر في ترسيخ المعاني السامية والمبادئ الفاضلة في نفوس المؤمنين،
ولذلك فإنّ هذا الشهر الكريم بالرغم من كونه شهر الأحزان، فإنّه يدعو إلى تجديد العلقة والرابطة بين المؤمنين، فإنّ لحبّ الحسين (عليه السلام) لوعة في قلوبهم تجعلهم ينسون خلافاتهم فتذوب المنازعات والخلافات بحرارة حبّ الحسين (عليه السلام)، فيتأهّلون لإصلاح أنفسهم ومراجعة وجدانهم والإنابة إلى بارئهم، وتلك فرصةٌ عظيمةٌ، ومن هنا صحّ أن يوصف هذا الشهر بأنّه شهر الطاعة كما يوصف شهر رمضان المبارك.
إنّ العبر والدروس التي يستلهمها الإنسان المؤمن الواعي من واقعة الطّف لها أكبر الأثر في السموّ الروحيّ والأخلاقيّ، ونفس ذلك الأثر الذي يظهر على وجوه شيعة آل محمد (ص) أثناء أيام عاشوراء يعكس حالة الوحدة والتلاحم بين جميع طبقات المجتمع الشيعيّ، ما يكون بنفسه حافزاً للآخرين ـ من غير الشيعة ـ لكي يجعلوا من أنفسهم مشاريعاً للاستبصار، فيندفعون بدافع تلك المعاني التي أفرزها الولاء للحسين وحبّه من قبل نظرائهم الشيعة إلى البحث عن الحقيقة، لاتّباع نهجه.
كذلك تُشكّل المظاهر الجماهيريّة الاحتفاليّة في شهر محرّم رسالةً لجميع المخالفين والأعداء بأنّ الشيعة هم النواة الحقيقيّة للدّعوة إلى الإسلام المحمديّ الحسينيّ الذي هو روح الرسالات السماويّة جمعاء، لأنّ الاحتشاد الألفي والمليونيّ لأجل إقامة مراسم العزاء لسيّد الشهداء (عليه السلام)، يدلّ بدون أدنى ريبٍ على جملةٍ من المبادئ تمثّل جوهر التديّن، ومن أهمّها: الوحدة بين المؤمنين، والدعوة إلى التوحد، والاستعداد للتضحية، والتفاني في إعلاء كلمة الحقّ والجهر بها، والخضوع لله تعالى، وغير ذلك...
وتلك لعمري هي المعاني التي جاء بها الإسلام بل جميع الديانات السماويّة. وفي الإحياء العاشورائيّ تظهر صورة المرأة الزينبية، التي تتّخذ من زينب (سلام الله عليها) قدوةً ومثالاً يُحتذى، لأنّ زينب (عليها السلام) تُمثّل النموذج الكامل لكلّ النّساء المؤمنات، فعلى المرأة المؤمنة أن تقتدي بها فتكون عفيفةً، مجاهدةً، صابرةً، مربّيةً للأجيال، وقائدةً لمن هنّ دونها، وذائدةً عنهنّ في مواجهة الانحراف والابتذال. إنّ زينب (سلام الله عليها) قد جسّدت أسمى المفاخر عبر دورها العظيم الذي أدّته في واقعة الطف، وكانت بحق ذروة الثورة الحسينية وسنامها، بل إنّ وقفتها البطولية هي التي مهّدت للإطاحة بالنظام الأمويّ، وهي التي وجّهت أقسى الضربات لذلك الكيان المتسلّط، فتسببت في سقوطه وانهياره، فدورها الإعلاميّ والتثقيفيّ هو الشقّ الآخر للنصر في تلك الواقعة؛ ولولا تلك المواقف الزينبيّة لما تسنّى للواقعة أن تكون عنواناً ورمزاً تاريخيّاً للفداء.
نسأل الباري ان يجعلكم ويشملنا من انصار الحجه المنتظر ارواحنا له الفدا
نسألكم الدعاء كلما رفعتم لله كفا