اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شبهة لمسيحي
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾
هنا أهل الكتاب يعرفون الكتاب كما يعرفون أبنائهم..، وهذا مناقض لما ورد في سورة الجمعة ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وهنا يُشبههم القرآن بالحمار الحامل كتباً لا يدرى ما فيها.. فكيف كانوا يعرفون محمداً كنبيٍّ ورسولٍ لله من كتابهم كما في الآية الأولى ومع ذلك لا يدرون ما فيه كما لا يدرى البهيم ما في الكتب المحمَّلة على ظهره فأيُّ الآيتين هي الصائبة؟
الجواب
المراد من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ هم اليهود كُلِّفوا بالتوراة أي بالإذعان بما إشتملت عليه من معارف وبالإلتزام بما إشتملت عليه من شرائع وأحكام.
فكلمة حمِّلوا بحسب مدلولها اللغوي والعرفي تعني أنَّهم كُلِّفوا، فإذا قيل مثلاً "حمَّل الأمير شأن رعاية الثغور لقائد الجند" فإنَّ معنى ذلك هو انَّه كلَّفه مسئولية الرعاية والحفظ لثغور البلد.
وقد إستعمل القرآن الكريم كلمة التحميل في معنى التكليف في أكثر من موضع كقوله تعالى:
﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أي لا تُكلِّفنا ما لا نُطيقه ، وكقوله تعالى:
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ أي إنَّ الرسول مسئولٌ عمَّا كُلِّف به وأنتم مسئولون عمَّا كُلِّفتم به.
فإذا كان المراد من قوله تعالى: ﴿حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ هو أنَّه قد أُنيطت بهم مسئولية الإلتزام بما إشتملت عليه التوراة من معارف وأحكام فهذا يقتضي أنَّهم على علمٍ بما تضمَّنته التوراة، إذ انَّ التكليف بالشيئ لا يتمُّ ولا يصحُّ إلا بعد الإحاطة والمعرفة بالمكلَّف به.
وعليه فأهل الكتاب بما فيهم اليهود يعلمون بما في التوراة ولا يجهلونه، وأما تشبيههم بالحمار الذي يحمل أسفاراً فهو ليس من جهة جهلهم بما في التوراة بل لأنَّهم لم يلتزموا بما إشتملت عليه التوراة من مضامين، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ أي انَّهم لم يلتزموا بمقتضى المسئولية الإلهية التي أُنيطت بهم وهي العمل بما إشتملت عليه التوراة ، وهذا معناه أنَّهم لم ينتفعوا بالهدى الذي جاءت به التوراة، فمثَلُهم في ذلك مثَل الحمار الذي تُحمل عليه الكتب المشتملة على مختلف العلوم والمعارف إلا انَّه لا ينتفع بها ولا يجني من حملها إلا العناء والتعب ، فهكذا هم اليهود حُمِّلوا التوراة وكُلِّفوا بالإهتداء بهديها إلا انَّهم إستحبَّوا العمى على الهدى فلم ينتفعوا بهدْي التوراة شأنُهم في ذلك شأنُ الحمار الذي لا ينتفع بما يُحمل عليه من كتب المعارف والحِكَم.
فوجهُ الشبَه بين اليهود والحمار الذي يَحمل أسفاراً على ظهره هو أنَّ كلاً منهما لا ينتفع بما حُمِّل ، وليس وجه الشبَه هو أنَّ كلاً منهما لا يعلم بما حُمِّل حتى تكون هذه الآية مناقضة لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ فهم يعرفون محمداً النبي (ص) بلا ريب كما أفاد القرآن بل يعرفون كلَّما إشتملت عليه التوراة من معارف إلا انَّهم كانوا يجحدون الحق ويُكابرونه ، وقد أخطأوا بذلك حظَّهم فكان نصيبهم مما عُلِّموه من هدي التوراة كنصيب الحمار من الكتب المُحمَّلة على ظهره، فكما انَّه لا ينتفع بها ولكنَّه يتحمَّل عناء ثقلها على ظهره فكذلك اليهود لم ينتفعوا بالتوراة و لكنَّهم يتحمَّلون وزْرَ المسئولية والتكليف بها.
والذي يؤكِّد أنَّ وجه الشبَه - المراد من الآية - بين اليهود والحمار هو ماذكرناه من عدم إنتفاع كلٍّ منهما بما حُمِّل وانَّه ليس المراد من وجه الشبَه هو انَّ كلاً منهما لا يعلم بما حُمِّل، الذي يؤكد ذلك انَّ الآية من سورة الجمعة كانت بصدد تمثيل اليهود وما آل إليه أمرهم للأُميين المسلمين، وذلك لغرض تحذيرهم من الوقوع فيما وقع فيه اليهود ، وقد أفادت السورة في مطلعها انَّ الأُميين قد بُعث فيهم الرسول (ص) ليُعلِّمهم الكتاب والحكمة ويُزكِّيهم لذلك فليحذروا أنْ يكون مآلُ أمرهم إلى ما آلَ إليه أمر اليهود حيثُ كانوا هم أيضاً قد عُلِّموا التوراة إلا انَّهم لم يهتدوا بهديها، قال تعالى في سورة الجمعة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
فمقتضى سياق الآيات هو انَّ اليهود كانوا على علمٍ بالتوراة كما هو حال الأُميين الذين عَلَّمهم الرسول (ص) الكتاب والحكمة. ومن ذلك يتعيَّن المراد من تشبيه اليهود بالحمار الذي يحمل أسفاراً وانَّ وجه الشبَه هو عدم إنتفاع كلٍّ من اليهود والحمار بما حُمل عليه.
وثمة قرينة أُخرى على تعيُّن وجه الشبَه فيما ذكرناه وهي انَّ الآية التي إشتملت على تشبيه اليهود بالحمار ذيَّلت ذلك بذمِّهم ونعتهم بالكذب ووصفهم بالظالمين، ومن الواضح انَّه لوكان مراد القرآن من تشبيه اليهود بالحمار هو التعبير عن جهلهم وعدم درايتهم لما نعتهم بعد التشبيه بأنَّهم كاذبون وظالمون لأنَّ الجاهل لا يُوصف بالكاذب والظالم، والذي يصحُّ ذمُّه بذلك إنَّما هو العالم فهو مَن يستحق التشنيع والذم بالكذب والظلم.
ومن كلِّ ذلك يتضح انَّ الآية من سورة الجمعة لا تُنافي قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ فإنَّ الآية من سورة الجمعة لا تنفي العلم بالتوراة عن اليهود وإنَّما تنفي عنهم الإهتداء بالتوراة.
هذا وقد تصدَّى القرآن في آياتٍ عديدة للتأكيد على علم اليهود بما في التوراة، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ فهم يُبدون ما يرتضون ويُخفون الكثير مما ينافي أهواءَهم ، وذلك لا يتفق إلا لمن يعلم بكلِّ ما في الكتاب.
وقال تعالى : ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ فهم يُحرِّفون الكلم عن مواضعه ، والتحريف إنَّما ينشأ عن عدم الإرتضاء بما إشتمل عليه الكَلِم من المعاني، ومن البيِّن انَّ عدم الإرتضاء ثم السعي للتحريف هما فرع الفهم والعلم بمضامين الكلام غير المرضي الذي يُراد تحريفه ، ثم قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير﴾ والسعي لإخفاء كثيراً مما إشتمل عليه الكتاب لا يتمُّ إلا في فرض الإحاطة بمضامين الكتاب، فهم إذن يعلمون بما في الكتاب المنزَّل عليهم إلا انَّه ونظراً لإشتماله على مايُنتج إلزامهم بما لا يُناسب أهواءَهم ومفترياتهم لذلك فالوسيلة هي إخفاء تلك المواضع ليكونوا في أمنٍ من إحتجاج خصمهم بها عليهم.
والمتحصَّل مما ذكرناه انَّ وجه الشبَه في الآية من سورة الجمعة بين اليهود والحمار الذي يحمل أسفارا هو انَّ كلاً منهما لا ينتفع بما حُمِّل، والقرينة على ذلك انَّ معنى قوله حملوا التوراة هو انَّهم كُلِّفوا بما في التوراة ، والتكليف بالشيئ فرع العلم به.
والقرينة الثانية: هي انَّ سورة الجمعة كانت بصدد تمثيل حال اليهود للأميين الذين نصَّت الآيات من سورة الجمعة على انَّهم -أي الأميين -عُلِّموا الكتاب والحكمة، فمقتضى ذلك انَّ اليهود كانوا على علمٍ بالتوارة حتى يصحُّ التمثيل بهم.
والقرينة الثالثة: انَّ الآية التي شبَّهت اليهود بالحمار ذيَّلت التشبيه بذمِّ اليهود ونعتهم بالكذب والظلم ، وكلا النعتين إنَّما يصحَّان في فرض العلم والدراية، وأما الجاهل فلا يُذمُّ بالكذب والظلم.
والقرينة الرابعة: انَّ القرآن أكَّد في آياتٍ عديدة على انَّ أهل الكتاب كانوا على علمٍ بما أُنزل إليهم فيكون ذلك أمارةً على عدم إرادة نفي العلم من تشبيه اليهود بالحمار الذي يحمل أسفارا، وعليه فلا يكون التشبيه مناقضاً لقوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ بل إنَّ كلاً من الآيتين تقتضي إثبات العلم لليهود ونفي الإلتزام بما علموا.
سماحة الشيخ محمد صنقور
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين