~~~~~~~~~~~~~~~~
الفقر في اللغة هو القلة في المال والرزق، والفقير هو من لا يقدر على تحصيل المال بما يكفي حاجته، سواء كان ذلك عن عجز وعدم قدرة، أم كان عن كسل وعدم إقدام.
وأما في الاصطلاح الفقهي فالفقير هو من لا يملك قوت سنته فعلاً أو قوةً. والمراد بالقوة من لا يقدر على تحصيل قوت سنته ولو تدريجاً ويوماً بيوم مثلاً، بخلاف الفعل فإنه يملكه ويكون حاضراً بين يديه.
* ذم الـــــفــقــر
وردت جملة من الروايات عن أئمة أهل البيت (ع) تذمّ الفقر وتبدي مساوئه،
من قبيل ما ورد عن الإمام الصادق(ع): «كاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسد أن يغلب القدر»(1).
وقوله(ص): «الفقر أشد من القتل»(2).
وما ورد عن أمير المؤمنين(ع): «الفقر الموت الأكبر»(3).
وعنه(ع) أنه قال لابنه محمد بن الحنفية: «يا بنيّ إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فإنّ الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت»(4).
* مـــدح الـــــفــقــر
إلا أنه قد وردت في مقابل هذه الروايات جملة أخرى من الروايات الدالة على مدح الفقر والفقراء، وتبين أهمية الفقر في الحياة، والمقام السامي للفقراء،
من قبيل ما ورد عن النبي(ص): «الفقر فخري وبه أفتخر»(5).
وعنه(ص): «الفقر شينٌ عند الناس وزينٌ عند الله يوم القيامة»(6).
وعن أبي عبد الله(ع) أنه قال: «في مناجاة موسى(ع): «يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنبٌ عُجِّلت عقوبته»(7).
وعن سعيد بن المسيب قال: «سألت علي بن الحسين(ع) عن قول الله عزّ وجلّ:
{وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}،
قال: عنى بذلك أمة محمد(ص) أن يكونوا على دين واحد كفاراً كلهم {لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ}، ولو فعل الله ذلك في أمة محمد(ص) لحزن المؤمنون وغمهم ذلك، ولم يناكحوهم ولم يوارثوهم»(8). وغير ذلك كثير جداً.
* الـــــفـقـر بـيـن الـمـــدح والـــذم
أمام هاتين الطائفتين من الروايات يرد سؤال مهم، وهو: هل يوجد منافاة وتناقض في البين أم لا؟ وعلى الثاني كيف نجمع بينهما؟
وفي مقام الإجابة نقول:
لا شكّ أن الحياة الاجتماعية للناس لا تستقيم إلا بوجود الغنى والفقر في هذه الدنيا، نظراً لما يحتاجه الإنسان في كافة الميادين، فلو كان الناس أغنياء لما بقيت طبقة عاملة، هي التي تقوم بتسيير نظام الحياة، فيعم الفساد وتنتشر الفوضى. كما أن من غير الممكن أن يكون الجميع فقراء؛ لأن لازمه ذهاب خيرات الكون سدى، وقد خلقها الله تعالى لصالح هذا الإنسان. والمهم في المقام بيان النكتة التي تجعل بعض الناس فقيراً وبعضهم غنياً، بعدما كان كل ما في الكون مسخراً لخدمة النوع الإنساني.
وهنا نجد أن الناس يختلفون في كمالاتهم النفسية، وقدراتهم على تحمل مشاق الحياة، فكان كل من الفقر والغنى يشكل ابتلاء لهم، وامتحاناً لقدراتهم وكمالاتهم، فابتلى الأغنياء ليظهر مدى إنفاقهم واهتمامهم بالفقراء فينالوا بذلك رضاه تعالى، وابتلى الفقراء ليظهر مدى صبرهم وتحملهم، ويكون بذلك أجرهم عظيماً.
* لــو صـرفـــتـه إلـى غــير ذلك لــهـلـك
وأما الملاك والميزان في صيرورة هذا فقيراً وذاك غنياً، فيظهر من الحديث الوارد
عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: «لما أُسريَ بالنبي(ص) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: ... وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك..»(9).
والحديث صريح في أن كلّاً من الفقر والغنى قد وُجد لمصلحة الإنسان الفرد، كما قد وجدا لمصلحة الجماعة الإنسانية. إلا أن الحياة الدنيا لما كانت {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} (الحديد: 20)،
وهي عناوين تأسر النفس الإنسانية، وتدفعها إلى البحث عنها، نجد الإنسان بطبعه ينفر من الفقر ويمقته، ويبحث عن الغنى ويطلبه، فيحسب أن الفقر نقمة عليه، فربما دعاه إلى الكفر والتمرد عليه تعالى.
وهذا ما نجده في جواب الإمام السجاد(ع) لسعيد بن المسيب مستشهداً بالآية الشريفة المتقدمة، كما ورد عن الإمام الكاظم(ع) أنه قال: «إن الله عزّ وجلّ يقول: إني لم أغنِ الغني لكرامة به علي، ولم أفقر الفقير لهوان به علي، وهو مما ابتليت به الأغنياء بالفقراء، ولولا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة»(10).
ولما كان الحصول على مفاتن الدنيا وما تشتهيه النفس يبعد الناس عن التفكر في خلق الله والتقرب إليه تعالى، نتيجة لطبيعة الدنيا، التي وصفها تعالى بقوله: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185)،
كانت مصلحة أكثر الناس أن يكونوا فقراء وإن لم يلتفتوا لذلك.
* الــــفـقـــر والـتـعــفــف
ولما كان الإسلام ينظر إلى الإنسان أولاً وبالذات، وكان نظره إلى المال أنه وسيلة للإبقاء على الحياة، لا ليكون الإنسان خادماً له، فإن بناء الشخصية ذو مقتضيات تربط الإنسان بالله تعالى، ذلك أن اهتمامه بما عند الله يصرفه عن التفكير بالمال مما يحتاج إليه بقاؤه وعيشه الكريم.
وهذا ما يستلزم الحفاظ على كرامته وهيبته أمام الناس، ما يعني عدم شكاية الفقر، والتذلل لسواه تعالى، لأن الناس ينظرون إلى ما يملكه المرء من أموال، لا إلى ما يتمتع به من ملكات فاضلة، وحسن علاقة بالله عزّ وجلّ.
من أجل ذلك ورد الكثير من الروايات الحاثّة على كتمان الفقر، والتعفّف أمام الناس حفاظاً على شخصية الفقير من ناحية، وإعلان الرضا بما قسم الله تعالى له من ناحية ثانية، وتعويد النّفس على الصبر وتهذيبها وصرفها إلى الكمالات الحقة من الارتباط به تعالى من ناحية ثالثة.
وهذا كله يؤدي إلى علوّ درجاته في الآخرة، وعدم التعلّق الشديد بالدنيا، إذ من الظّاهر أنه كلما توطّدت علاقة الإنسان بربّه كلما قلّ اهتمامه بزخارف الدنيا ومترفاتها، ولذلك كان الفقر شعار الأنبياء والصالحين.
فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: «إن الله يحب المؤمن إذا كان فقيراً متعفّفاً».
وعنه(ص): «إن الله جعل الفقر أمانة عند خلقه فمن ستره أعطاه الله مثل أجر الصائم القائم...».
وعن أمير المؤمنين(ع): «العفاف زينة الفقر»(11).
ويفسّر كل ذلك، وغيره كثير، ملاك مدْحه تعالى للفقراء المتعففين، حين قال:
{لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (البقرة: 273).
الهوامش:
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 69، ص 29.
(2) م. ن.
(3) م. ن، ص 45.
(4) م. ن، ص 53.
(5) م. ن، ج 69، ص 55.
(6) م. ن، ص 49.
(7) أصول الكافي، الكليني، ج 2، ص 263.
(8) م. ن.
(9) م. ن، ص 352.
(10) م. ن، ص 265.
(11) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 7، ص 519.
الشيخ حاتم إسماعيل