اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طرق التميّز في درجات القرب الإلهي
- إن الشهيد المطهري وضع في محل عبادته صورة، كان قد كتب فيها لفظ الجلالة بأنوارٍ مضيئةٍ؛كي تقع عينه على لفظ الجلالة وهي مضيئة له أثناء الصلاة..فإن كان ولابد من النظر إلى شيء مادي أثناء الصلاة، فليكن إلى ما يرمز إلى المولى ولو لفظاً!.
فنحن محرومون من الأنس بعالم الغيب بمعناه الواقعي، فلنحاول أن نسلي أنفسنا بلفظ الجلالة.
- إن من العبارات التي تفتح باب الأمل كثيراً، تلك العبارات المنقولة في آخر دعاء كميل:
(واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وأقربهم منزلةً منك، وأخصهم زلفةً لديك.. فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك)..
وكل إنسان مشروعٌ لأن يحقق هذه العبارات، التي هي عبارات مثالية جداً، وأشبه بالأسطورة،
وذلك للأسباب التالية:
أولاً:إن دعاء كميل هو عبارة عن إملاء علي بكتابة كميل، وهذا يعطي قوة لمضامين هذا الدعاء الشريف..
روى السيد في الإقبال أن كميل بن زياد قال:
كنت جالسا مع مولاي أمير المؤمنين -عليه السلام- في مسجد البصرة، ومعه جماعة من أصحابه فقال بعضهم:
ما معنى قول الله عز وجل: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)؟..
قال عليه السلام:
(ليلة النصف من شعبان، والذي نفس علي بيده!.. أنه ما من عبد إلا وجميع ما يجري عليه من خير وشر، مقسوم له في ليلة النصف من شعبان، إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة، وما من عبد يحييها ويدعو بدعاء الخضر -عليه السلام- إلا أجيب له)..
فلما انصرف طرقته ليلا،
فقال عليه السلام: ما جاء بك يا كميل؟..
قلت: يا أمير المؤمنين، دعاء الخضر!..
فقال:(اجلس يا كميل، إذا حفظت هذا الدعاء، فادع به كل ليلة جمعة، أو في الشهر مرة، أو في السنة مرة، أو في عمرك مرة.. تكف وتنصر وترزق، ولن تعدم المغفرة.. يا كميل!.. أوجب لك طول الصحبة لنا، أن نجود لك بما سألت، ثم قال: اكتب...).
ثانياً:لو كانت هذه المنازل خاصة بالأئمة –عليهم السلام– وكميل..ومن ورائه من أصحاب علي –عليه السلام– لا قابلية لهم للوصول إلى هذه الدرجات،
كان بإمكان علي (ع) أن يجعل هذا الدعاء وقفاً على كميل وأمثاله..
وقد شاء الله –عز وجل– أن يكتب الخلود لشخصيتين من أصحاب الأئمة: كميل وأبو حمزة الثمالي..
فالدعاء للمعصوم، ولكنه معروف باسم أصحاب الأئمة!..
ومن ذلك يُعلم أن الله –عز وجل- قد يكتب للإنسان شيئاً من الخلود.. فلو لم يذهب كميل في تلك الليلة المعهودة إلى دار عليّ،
لما وصلنا هذا التراث، ولما اجتمع المؤمنون ليلة الجمعة، وليالي القدر بعد قرون، لأجلِ قراءة هذا الدعاء الشريف.
- إذا كان كل إنسان مشروعا لأن يكون مصداقاً لهذه العبارات: (واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وأقربهم منزلةً منك، وأخصهم زلفةً لديك)،
فما المانع من أن يتمنى الإنسان القمم العالية؟..
رغم أنه يرى نفسه أنه لا يمكنه الوصول إلى هذه القمم:
إذ لا جناح له يطير بهما، ولا براق يحمله إلى هذه القمم، وليس هنالك من يحمله على نقالة ٍ أو حمالةٍ ويأخذ به إلى القمة..
ما المانع أن يتمنى هذه الدرجات العالية؟..
فرب العالمين إذا رأى صدقاً في عبده وإصراراً،
من الممكن في ليلة واحدة، كما أنه يُصلح أمر وليه في ليلة، يُصلح أمر ذلك الإنسان أيضاً في ليلة..
وذلك مثل قضية اتصال التيار الكهربائي، الذي جاء من المصنع إلى المنازل، إذ أن هنالك قطعة حديدية صغيرة قد فصلت الكهرباء عن المنزل!..
فالإنسان الذي لا يفقه في هذا الأمر، لا يعلم كيف يُوصل التيار؟!..
فيأتي المهندس الخبير، ويكبس ذلك الزر، وإذا بهذا البيت المظلم يصبح كالشمس الساطعة..
فالكهرباء موجودة، ومصنع الطاقة بين أيدينا، ولا تحتاج القضية إلا إلى وصل..وقلوبنا كذلك أيضاً مستعدة،
فـ"بشر الحافي" كان من كبار العصاة في قومه، كان أوّل أمـره يتعاطى الخمـر، ومشـغولاً بصـحبة الغواني، واستماع الأغاني والطرب والمجون..
حتى اتّفق يوماً أن كان الإمام الكاظم:موسى بن جعفر (ع) يجتاز علی داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والرقص والناي تعلو من داره، وخرجت أثناء ذلك جارية بالقُمامة تريد إلقاءها خارج الدار،فسألها الإمام:(يَا جَارِيَةٌ!.. صَاحِبُ هَذَا الدَّارِ حُرٌّ أَمْ عَبْدٌ)؟!..
فَقَالَتْ: بَلْ حُرٌّ..
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (صَدَقْتِ لَوْ كَانَ عَبْداً، خَافَ مِنْ مَوْلاَهُ)..
فدخلت الجارية الدار، وكان مولاها علی مائدة السُّكْر،
فقال لها: ما أبطأك؟..
فقالت: حدّثني رجل بكذا وكذا.
. فخرج بشر مُسـرعاً حافياً حتى لحـق بمولانا الإمـام الكاظـم عليه السلام،
فاعتذر منه وبكي وتاب علی يده..
وإذا ببشر يصبح إلى يومنا هذا من أقطاب المعرفة والتقوى في حياة الأمة.. وغيره الكثيرون ممن تكهربوا بكهرباء التوحيد، والولاية، بنظرة في ليلة من الليالي..
ما المانع أن نتمنى هذه المقامات العالية؟..
- إن علياً –عليه السلام– بعد ذلك يقول:(فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك)..
فالقضية قضية فضل وتفضل!..
فمن الممكن أن تثير غيرة المرأة المؤمنة من مريم –عليها السلام- إذ أن أمها عندما كانت حاملا بها نذرت ما في بطنها محرراً..
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}..
في عالم القرب إلى الله –عز وجل– يشترط العلماء عدم الاختلاف بين الجنسين،فنحن لم نعهد أستاذاً في العرفان اتخذ تلميذة أجنبية عنه!..
نعم، يمكن ذلك بالتواصل من بعيد بالكتابة أو ما شابه، ولكن الله –عز وجل– هيأ نبياً من أنبيائه وهو زكريا (ع)،
ولم يكن محرما على مريم فهو زوج خالتها..
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}،
ومريم (ع) لم تشهر سيفا في سبيل الله، ولم تؤلف كتاباً، ولم تقم بدعوة، ولم تكن لا نبية ولا وصية..
فما الذي جعل مريم تعيش هذا الدلال الإلهي؟..
فبعد أن رفع من درجاتها، وأنزل عليها المائدة السماوية، أثيرت غيرة زكريا، لما رأى من بركات الذرية الصالحة، والدرجة التي وصلت إليها هذه الفتاة..
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}،
فرزق يحيى -عليه السلام-.- إن مريم (ع) بعد ذلك ابتليت بالحمل وشماتة القوم، وتهمة الزنا، وغير ذلك..
ولكن المهم هو أن ندخل، وأن نفك هذه المعادلة السحرية!..
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}،
من هو فاعل أنبتها؟..إنه رب العالمين..لذا على الإنسان أن لا يقلق، ولا يحزن، وما عليه إلا أن يقوم بحركة فيجتبيه ربه:
مجاهدة لشهوة، أو مجاهدة لغضب..
هنالك تدين عام:
إنسان يصلي، ويصوم، ويخمس، ويحج، هذه الطبقة الغالبة من المجتمع..
فنرى إنسانا وقد اشتعل الرأس شيبا، ووهن العظم!..
وقد ذهب إلى الحج عشرات المرات، وأقام عزاء الحسين -عليه السلام- خمسين، أو ستين، أو سبعين سنة..
ولكن لا نرى له تميزاً:
لا في قول، ولا في فعل!..
فإذا صار كلام في الغيبة، دخل مع الداخلين، وأكل مع الآكلين، وضحك مع الضاحكين،
فأين التميز في مقام العمل، وأين سنوات العبادة؟..
وأين ثمرة الجهود؟..
سبعين، أو ثمانين سنة، إنسان يعبد ربه، وإذا لا مراقبة له في قول ولا فعل!..
حتى أنه نرى بعض المعاصي التي لا تناسب هذه الفترة العمرية!..
رجل عجوز في الستين، أو السبعين من عمره، وينظر إلى بعض المسلسلات الماجنة!..
وقد قال رسول الله (ص):
(أربعــة يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والإمام الجائــــر، و...)..
هذا في مقام السقوط من عين الله عز وجل.
لسماحة الشيخ / حبيب الكاظمي
م.ن.ق.و.ل