نحن في رحاب سورة يوسف (ع)، وما جرى على هذا العبد الصالح، هذا الصدّيق الذي أُبتلي.. ولكن خُتمت عاقبته في الدنيا بخيرٍ، ورئاسةٍ، وتمكّنٍ في الأرض، وما أعده الله له من الأجر في الآخرة أعظم وأعظم.
لم يكفها عامل المراودة، وإغلاق الأبواب، وما شابه ذلك من عوامل الإثارة.. بل قرنت الإثارة بالتهديد أيضا:
{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}.. أي إن لم تقبل ما آمرك به، فإن مصيرك هو السجن.. وأدوات التأكيد: اللام، والنون {لَيُسْجَنَنَّ} كل ذلك يدل على عزمها على ذلك.
يقول يوسف (ع) في جواب هذا الاقتراح: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}
فيوسف (ع) لم يطلب من الله السجن، فلم يقل: ربي أدخلني السجن.. لأن العافية خير للمۆمن، فالإنسان المبتلى في بدنه، وفي أمنه، وفي رزقه ليس من المعلوم أنه يثبت على الابتلاء.. وعليه، فإن طلب العافية خير من غير العافية، ولهذا قال يوسف (ع):
{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}.. ولم يطلب من الله السجن.
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.. فإنه لا زال يثبت ويبين لربه، أنه بحاجة إلى مدد دائم.. وإلا وقع فيما لا يحمد عقباه.. ولعل في الآية إشارة لطيفة جدا، قد لا تمر على الأذهان الساذجة البسيطة.. فيوسف (ع) يريد أن يقول بأنه: يا رب أنت لك مدد، وأنواع من المدد يأتيني من قِبلك.. فإذا انقطع هذا المدد، سوف أكون من الجاهلين.. فلم يقل هنا: من الظالمين، بل قال: {مِّنَ الْجَاهِلِينَ}..
معنى ذلك: أن المدد الإلهي تارة يكون إيقاعا للعزم في القلب، أي تثبيتا للفۆاد.. وتارة المدد الإلهي من قبيل العلم، والعلم مدد من الله عز وجل
فيقول يوسف: لو قطعت عني المدد، لبقيت في زمرة الجاهلين.
فإذن، إن رب العالمين له أنواع من الرزق، منها: تثبيت الفۆاد، والعلم الذي يُلقى في فكر الإنسان، فيزداد علما.. فمثلا: إن موسى (ع) هو كليم الله، ومن أنبياء أولي العزم، وله تاريخ عريق في التوحيد والدعوة إلى الله تعالى، ومقارعة فرعون.. ومع ذلك فإن هناك نوعا من العلم -العلم اللدني- أوتيه الخضر، ولم يۆتَه موسى.. ولهذا لم يكن يستوعب حقيقة ما يجري مع ذلك العبد الصالح.
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. أيضا استعمل كلمة العلم هنا، لأن الله عليم.. وهنا –بالمناسبة- نقرر قاعدة مهمة: وهي أن الله عز وجل فياض، لا يمنع فيضه إلا موانع العبد.. فهو عليم، يريد أن يمنَّ بعلمه على من يشاء بمقدار ما يشاء.. ولكن العبد بخطئه، وبجرمه، وجريرته، يُوجد هذه الحجب.
{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}.. فمن أجل الحفاظ على وجاهة المرأة -زليخا- ودفع التهمة عن البيت الملكي، حُكم على يوسف (ع) بالسجن، رغم أنهم رأوا علامات البراءة: القميص قُدّ من دبر، وشهد شاهد من أهلها.. فعلامات الصدق موجودة، والنسوة قطعن أيديهن.. ومع ذلك جعلوا يوسف في السجن، لأجل الحفاظ على ماء وجه البلاط، الذي كان يحكم في مصر.
ومن الطريف أنهم رموا بيوسف في السجن إلى أن تهدأ الأوضاع، ولكن يبدو أنهم نسوا يوسف في غياهب السجون.. ولهذا عندما خرج ذلك السجين قال له يوسف: اذكرني عند ربك، واطرح مشكلتي مع الملك.. فأنا في زوايا سجون مصر منذ سنوات ولا ذنب لي!
نعم، {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}.. كما يقول القرآن الكريم، فديدنهم الإفساد إلا من خرج بالدليل.
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}.. تنقل الآيات قصة المنام، وهنا أيضا لا بد أن نسجل كلمة حول المنامات.. مع الأسف نلاحظ أن بعض الناس يبني أفكاره، وتصوراته، وتقييمه للأمور على أساس الرۆيا.. فمثلا: إنسان يرى مۆمنا أو مۆمنة، في هيئة غير حسنة في منام من المنامات التي لا حجية لها، ويبني على ذلك موقفا، ويحكم بالسلب على ذلك الإنسان؛ وهذا انحراف في التصور.. فالمنام عبارة عن صور تمر على النفس عند خروج الروح، وانفصال الروح عن البدن، كما يعبر القرآن {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
فإذن، إن ما يُرى في حال النوم قد يكون حقا، وقد يكون باطلا.. حتى إذا رأيت المعصوم في المنام، لا يمكنك الجزم بأنه هو المعصوم.. ولهذا قال العلماء: أن المعصوم لو أمرك في المنام بأمر، لا يجب امتثال ذلك الأمر.. وفي نفس الوقت أيضا المنام الصادق تفسيره، يحتاج أيضا إلى قدرة غيبية، لأن الأحلام رموز، وعبارة عن حركات لها مغزى.. إن كان المنام صحيحا، فإنه يحتاج إلى من أوتي العلم في هذا المجال.. فليس كل إنسان له التخويل في أن يفسر المنام.. وعليه، فإن من رأى مناما وأسره، كفاه الله خيره وشره.. فما على الإنسان إلا أن يدفع صدقة، ليُدفع عنه البلاء.. وأما أن يلهج به أمام هذا وذاك، ليفسر له أيضا تفسيرا يبعث فيه أملا أو خيبة أمل، فلا داعي لمثل ذلك.
ولهذا فإن القرآن الكريم يذكر بتفصيل قصة المنام، وكيف أن يوسف عبّر ذلك المنام بإلهام من الله سبحانه وتعالى.. ولكن أيضاً من الدروس العملية في هذه القضية بعد أن ذكروا المنام قالوا: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}.
فالدرس الأول: هو أنه إذا أردت أن توصل فكرة إلى إنسان، وتقنعه بأمر من الأمور، فإن الخطوة الأولى، هي أن تجلب ثقة ذلك الشخص، إذا كان لا يعرفك، ولا يقدرك.. وإلا، فكيف لك أن تۆثر فيه؟.. فيوسف (عليه السلام) قال: أنا ذلك الشخص الذي أخبركم بالطعام قبل أن يأتيكما.. فإذن، أنا إنسان مرتبط بالغيب، وأنا إنسان غير عادي.. وعليه، فإنه قد عرّف نفسه، لجلب الثقة.. وليس هذا من المديح المذموم.. فالفخر والمديح، وأن يبين الإنسان خواصه الذاتية في حدّ نفسه، هو من مصاديق العجب المذموم.. وأما إذا كانت القضية مقدمة للتبليغ، فلا مانع من ذلك.. فمثلا: إنسان له تخصص في الحياة، وهذا التخصص محترم في العرف، وأراد أن ينصح إنساناً، فلا بأس أن تذكر مستواه العلمي، ومستواه الثقافي، والشهادات الأكاديمية من باب أن يعرِّفه أنه إنسان خبير في بعض الأمور، وعاش الدنيا وما فيها.
فإذن، لا بأس في المديح، ومديح الذات..
فالقرآن يقول في مكان آخر: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.. بينما هنا يوسف (ع) يزكي نفسه مقدمة للإرشاد.. وأيضا كان بإمكان يوسف أن يجيب على المنامين، وانتهى.. ولكن يوسف يريد أن يستغل الموقف لصالح الدين، فأخذ يبلّغ الدين والدعوة الإلهية في زمانه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.. وهذه العبارة {الْقَهَّارُ} ذهبت مثلاً من يوسف؛ أي إذا أراد شيئاً قهر الوجود وفق ما يريد، خيراً كان أو شراَ، في الإنسان أو الطبيعة.
اعداد / سيد مرتضى محمدي