اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رغم البلاء والظلمة.. إلا أنه يتوقد
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾..
في حاجة ماسة هذه الأسر المتلاحقة - جيلاً بعد جيل - لمعرفة هذه القصة وتفاصيل مشاهدها الثرية، لكونها تحمل الآيات والعلامات الواضحة التي يتوجب عليها معرفتها، حتى لا تقع فيما وقعت فيه بنو إسرائيل، بل ولتدرك مناطق الخطر، وطرق العلاج ومنافذ الخلاص..
وفي المقدمة:
لامناص من الوقود، لا حيلة لنا من غير الزاد، لا غاية ندركها من غير وسائل-؛ ولكونه ليس بمجرد الأماني يبلغ المرء الذروة -. فكيف كان الصديق يوسف يتزود؟! وما هي المحطات التي يرتوي منها حتى يتوقد؟؛ لنعرف المنابع الصافية في طريق السالكين إلى الله وبلوغ الأهداف العظيمة..
1- التكتم والتخفي:
تبدأ القصة بمشهد بريء يقطر عذوبةً ورواءً يستمع فيه الوالد العزيز لما يروي ابنه الطفل «اليتيم».. إنها حكاية رؤيا منام، لم تكن هذه الرؤيا عادية مفرغة من المعاني حيث فهم يعقوب «الأب» منها أن ابنه هذا نبي- وأحلام الأنبياء حقيقة- لذا فطن يعقوب أن لليوسف عليه حقاً سماوياً حينما كان هو أحد الساجدين له، تقول الآية: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ ولنلاحظ أنه لم يقل ساجدة ولا ساجدات بل قال «ساجدين» وإنه لمن المعروف أن الجمع بالياء والنون للوصف بالسجود يرتبط بصفات جمع العقلاء، وهنا يسر يعقوب ابنه باستخدام «التكتم» وعدم إفشاء هذه الرؤيا العظيمة لإخوته حتى لا يدخل الحسد في قلوب الإخوة، والآية الكريمة تنقل لنا لسان يعقوب: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾ ولم يسكت عند هذا الحد- لكون الطفل يريد في العادة مصوغ لهذا النهي العجيب بالنسبة له - فأكمل مباشرة ﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ ﴾ وأردفها بتأكيد لفظي «كَيْدًا» ولكن الطفولة قد تستغرب؛ لذا أكمل الصور بتوضيح دور الشيطان الذي يوقع المشاكل بين الإخوان ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾..
ومشهد آخر للتكتم.. أن يوسف لم يصرح بإله ومعبوده في كثير من الأحيان لعدم ظهور الفرصة المناسبة، ففد قيل في قوله تبارك وتعالى على لسان يوسف: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ كان يقصد بربه خالقه، وليس العزيز، لكونه نبياً لا يرتكب الحرام مطلقاً؛ لكنه ألمح أنه يقصد العزيز، وقد استخدم التخفي «التقية» حتى لا يفتك به وهذا عين العقل..
2- الصبر المتوقد:
وهناك نموذجين من نماذج الصبر:
قال أمير المؤمنين : "الصبر شجاعة، والعجز آفة، الصبر صبران: صبر على ما يكره، وصبر على ما يحب، والصبر على الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه".
النموذج الأول: الصبر على ما يكره:
وقع الصِّدِّيق يوسف في جملة من المكاره التي ترفضها طبيعة الجنس البشري إلا انه صبر عليها وعلى مكابدة عنائها غاية الصبر، منها: «كره أخوته له، ثم ضربه وإلقائه في الجب وهو لا يزال غلاماً صغيراً، ثم استرقاقه وبيعه كعبد من قبل أعز الناس له وهم إخوته، ثم إيداعه السجن سنين طويلة إلا أنه نجح فيها كلها رغم قسوتها ولم يفقد الأمل» ليعلمنا درس الصبر في تحمل البلاءات المتلاحقة والمصائب والمحن المتتالية..
النموذج الثاني: الصبر على ما يحب:
قد ينجح المؤمن في صبره على ما تكرهه نفسه، ولكن ماذا عن صبره فيما تنزعه إليها شهوته؟!، الشاب المؤمن الذي تصارعه الشهوات التي بداخله حينما يعرض له العارض الحرام قد لا ينجح نتيجة الضغوط النفسية والشهوات القاسية ومكر الشيطان اللعين الذي يحدق به ويتحين فيه فرصته السانحة، وهو القائل: ﴿ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ﴾، إلا أن يوسف قد نجح بجدارة، واستطاع أن يفر من هذه المطبة الكأداء حينما ﴿ هَمَّتْ بِهِ ﴾ فاتنة عصرها وأميرة أمرائها زوجة العزيز ذات الجمال والنفوذ الكاسر وجبروته القاهر «زليخا»، رغم أن البعض من المفسرين يولغ في الخطأ حينما تحين النوبة على تفسير ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ وليس صحيح ما ينقله بعض المفسرين الذين يقولون هم بها أي قصد بها ما أرادت ﴿ لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّه ﴾ كما ينقل صاحب تفسير الجلالين ويعضددها برواية ابن عباس: "مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله".. وهذا ينافي مقام السمو والعصمة التي يتحلى به الأنبياء والصالحين؛ ولكن الحق هو أنه هم أن يضربها أو هم بالفرار هارباً من المعصية حتى قدت قميصه من الخلف ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
الصبر المضاعف:
ومن الجدير أن نشير هنا إلى درجات الصبر وأن البعض يمتلك صبراً مضاعفاً، ويتمثل في يعقوب النبي الذي فقد من يحب وهو ابنه وقرة عينه وثمرة فؤاده يوسف، وحينما ضاعف الله له هذا البلاء بفقده «بنيامين» الأخ الشقيق لليوسف، هو كذلك ضاعف صبره من الصبر الاعتيادي إلى الصبر الجميل وهو درجة أرقى وأرفع، بل كان الأمل في عينيه يتوقد رغم الحزن الذي أصابهما على فقد ابنه وحبيبه فأصبحت عمياء.وحديثه المعذب يعكس الحالة النفسية التي يتكبدها بقوله متنهدا من شدة الحزن والألم: ﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾…
3- الدعاء سلاح المؤمن:
لم يكن الامتحان للحظة، بل تنافست النساء على إغوائه، وهو لا يزال شاباً تحاصره الشهوة، فلم يستسلم واستعان بالسلاح القوي وهو الدعاء، ومناجاة الخالق والحبيب الذي لا يخذل حبيبه ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ ثم أن الآية تحدد مقدار شدة هذا البلاء الذي يعاني منه هذا النبي الشريف بتصريح يوسف نفسه ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴾، وهنا يلجئ إلى الركن الوثيق بتمسكه بالله والاستعانة والاعتصام به، لكون أن النفس أمارة بالسوء إلا من رحم، وهكذا دخل في رحمته وصرف عنه ذلك الكيد الذي يطلق عليه تبارك وتعالى أنه ﴿ عظيم ﴾..
ليس دائماً البقاء هو الحل، بل يكون الهروب هو الحل الناجع في بعض الأحيان، إذا كانت البيئة تلك غير صالحة، وتتسربل بالفساد الكامل الذي لا يتمكن الإنسان من مقاومة شلالاته الهادرة وأمواجه المتلاطمة، فالحل هو الهروب من هذه الحرية المزعومة إلا السجن حيث يكون هو الحرية الحقيقية في مثل هذه الحالة، وهذا يدلل على أن الأولياء والعرفاء يسيرون في طريق قد لا يراه الأعم الأغلب صحيحاً إلا أنه هو الحل الأصح..
4- وقود التبليغ:
المؤمن رغم الاحباطات التي تصيبه؛ إلا أنه يغتنم الفرصة لينشر الوقود الصحيح، فهذا يوسف ، يغتنم فرصة إقبال السجيينين لينشر معتقده، بقوله الخالد: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ • مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، فهو من السجن ينطلق ليحرر العقول ويروي الشتلات العطشى، وينطلق بهم إلى الحرية الحقيقية، وهي التمرد على الذات والعروج بالروح نحو الرب الأوحد.
5- وقود الصفح:
هاهي العذابات التي تحملها النبي يوسف تأذن بالمغيب والغروب، إلا أنه لا يزال شمساً ساطعة بالعفو والصفح الجميل، وشعاره ﴿ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾، إذ لم يمهل نفسه بالتفكير في الصفح، فهاهو يختم ستار هذه القصة الرائعة بقوله الكريم لأخوته: ﴿ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾..
وفي الختام نقول: هل انتهى وقود يوسف؟!
والجواب: لا وكلا، فهناك المزيد المزيد، ولعل اليوسفيون القادمون يكملون هذه المسيرة العبقة.
يتبع ...