اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من بين العناوين التي تعرَّض لها القرآن في عالم السلب والإيجاب عنوان الجدال. والجدال يمثِّل الحوار بين اثنين أو بين جماعتين يختلفان في الدّين، فهذا يلتزم ديناً وذلك يلتزم ديناً آخر، أو بين جماعتين يختلفان في المذهب في الدّين الواحد، فهذا يلتزم مذهباً وذاك يلتزم مذهباً آخر، أو في داخل المذهب الواحد حيث تختلف وجهات النظر في المسائل العقائدية أو المسائل الاجتهادية الشرعية أو ما إلى ذلك.
وربما تنطلق الاختلافات في الجوانب السياسية، حينما يتبنّى فريق من الناس خطّاً سياسيّاً معيّناً ويتبنّى الفريق الآخر خطّاً سياسيّاً آخر، أو في بعض الجوانب الاجتماعيّة أو التاريخيّة، حيث تختلف النظرة إلى حدث معيّن هنا أو هناك، فينقله أو يحلّله شخص بطريقة ويحلّله آخر أو ينقله بطريقة أخرى، وهذا ما يعبِّر عنه بالحوار وقد يعبر عنه بالجدال، وربّما كانت كلمة الجدال تختزن بعض العنف أو بعض الحسم، وهذا أيضاً ربّما يأتي في القضايا الخاصّة الشخصيّة، كالجدال الذي يحدث في داخل البيت بين الزوج والزوجة، أو بين الأب وأولاده، أو بين الأمّ وأولادها، أو بين النّاس في القضايا الخاصّة التي يختلفون فيها.
والعنوان الإسلاميّ الأساس في ذلك هو أن يكون الجدال بالوسائل السلميّة التي لا تنتج أيّة مشكلة، ولا تؤدّي إلى أيّ حالة نزاع أو حقد، بل أن يكون الجدال بالأسلوب الأحسن والأفضل، وبالكلمات الأحسن، بحيث إذا أراد الإنسان أن يدخل في مسألة الحوار والجدال، في أيِّ موضوعٍ من الموضوعات، فعليه أن يختار الكلمات التي يوجّهها إلى الآخر، وأن يختار الأسلوب الذي يستعمله معه، وأن يختار المناخ الذي يسيطر على حالة الحوار.
الجدال بالتي هي أحسن
وقد أكَّد الله تعالى ذلك في خطِّ الدعوة، فإذا أردت أن تدعو إنساناً إلى سبيل الله وطريقه، وهو تعبير عن سلوك طريق الدين الحقّ الذي يؤدّي بالإنسان إلى الله تعالى ويوجّهه إلى الخطّ الذي يرضي الله، إذا أردت ذلك: {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل:125). فإذا أردت أن تدعو إنساناً إلى أن يؤمن بما تؤمن به، أو بما تعتقد أنّه الحقّ الذي ينسجم مع الخطّ المستقيم ومع ما يحبّه الله تعالى ويرضاه، فعليك أن تستعمل الحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، كأن تقول الكلمة المناسبة في الجوِّ المناسب مع الشّخص المناسب، بحيث تختار الكلمات التي يمكن أن تنفذ إلى قلب هذا الإنسان وإلى عقله، فتقارن بين عقل هذا الإنسان ومشاعره وأحاسيسه وبين الكلمة، لأنّ الكلمة تطلق مرّة فينفتح لها قلب الإنسان الآخر، وتطلق مرّة أخرى فينغلق لها قلبه، ومثالاً على ذلك، قد يأتي شخص ويقول للذي يختلف معه: أنت لا تفهم، أو أنت مخطئ ومشتبه، ومرّة يقول له: هناك وجهة نظر ثانية، هذا الذي تقوله أنت وهناك أناس آخرون يقولون غير هذا الكلام.
ففي المرة الثانية قلت له أنت لم تفهم الحقيقة، لكنّك لم تتحدَّ ذاته ولم تشتمه؛ عندما تقول له أنت مخطئ، أو أنت لا تفهم، فهذه تُعتبر شتيمة، وعندها لن يكون مستعدّاً لأن يسمع منك، بينما إذا قلت له هناك وجهة نظر ثانية فعليك أن تفكّر فيها، وهناك أناس لا يوافقونك على هذا الموضوع، فعند ذلك تستطيع أن تفتح قلبه وعقله لأن يفكر معك، لأنّك لم تلامس كرامته، ولم تهنه {ادع إلى سبيلك ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة}، أي بالكلمة اللينة التي تدخل إلى القلب، لأنّها الكلمة التي تنطلق بمحبّة وترسل إشارات المحبّة إلى الآخر.
وهذا الذي أخبرنا الله تعالى به عن النبيّ محمّد (ص) عندما قال: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك} (آل عمران:159)، ثمّ يقول: {وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل:125).
وهذا طبعاً ينطبق على النّاس الذين تتحمَّل مسؤوليّة دعوتهم، فهم عندهم من وجهات نظر تختلف عن وجهة نظرك، كأن يكونوا غير مسلمين وأنت مسلم، أو أن يكونوا من مذهب وأنت من مذهب ثانٍ، أو أنّهم من خطّ سياسيّ وأنت من خطّ سياسيّ آخر.
من الطبيعي أنّ هناك وجهتي نظر مختلفتين، ففي هذه الحال، وعندما تريد أن تدخل في جدال لتثبت وجهة نظرك في مقابل وجهة نظرهم، عليك أن تختار الكلمة الأحسن والأسلوب الأحسن والمناخ الأحسن، أي أن تختار كلّ الوسائل التي تجعلك تدخل إلى قلب الإنسان لينفتح لك عقله، لأنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبه. اربح قلوب الناس تنفتح لك عقولهم.
الله سبحانه وتعالى أكّد ذلك في القرآن الكريم وفي أكثر من آية، يقول تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} (الإسراء:35)، أي عندما تتحدّثون مع بعضكم البعض، عندما يتحدّث الزوج مع زوجته، وتتحدّث الزوجة مع زوجها، وتتحدّث مع أولادك ومع جيرانك ومع النّاس الذين تتعامل معهم ويتعاملون معك، اختر الكلمات التي توجّهها إليهم، ولتكن الكلمة الأحسن، أي حاول أن تقارن بين كلمة وكلمة، وتختار الكلمة الأفضل التي تُعطي النتائج الطيّبة في علاقتك مع الآخر. ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى يعلِّل السبب في أن نختار الكلمة الأحسن أو القول الأحسن: {إنَّ الشيطان ينـزغ بينهم إنّ الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً}، يعني أنّ الشيطان يُحاول أن يستغلّ الكلمات السلبيّة التي يمكن أن تستخدم في إثارة النـزاع والحقد، وفي تعقيد الأمور بين النّاس، لذلك وكما تختار أنت الفاكهة الصحيحة من الفاكهة الفاسدة، وتختار الحبّة الطيّبة، من الحبّة غير الطيّبة عليك أن تختار الكلمة الأحسن.
من المعروف الآن، أنّنا عندما نريد أن نطبخ البرغل أو العدس أو أي شيء، فإنّنا ننقّيه هذا من الحجر أو الزوان أو ما أشبه، ذلك لأنّه إذا كان فيه حجارة، فمن الممكن أن يكسّر لك أسنانك، لكنّ الكلمة ربّما تكسر لك رأسك، وتكسر لك حياتك، وتعقِّد لك كلّ أوضاعك.
هناك آية أخرى تتعرّض لصورة وجود مشكلة بين إنسان وإنسان، سواء كانت مشكلة ثقافيّة أو اجتماعيّة أو شخصيّة، {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} الحسنة هي الأسلوب الحكيم، الأسلوب السلميّ، والسيّئة هي الأسلوب العنيف، {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم} (فصِّلت:34)، أي ادفع المشكلة بالطريقة الأحسن، ثمّ حدِّد ما هي نتيجة هذه الطريقة، يعني الطريقة التي تحوّل عدوَّك إلى صديق. ثمّ يبيّن الله تعالى أنّ هذه المسألة تحتاج إلى جهد نفسيّ وتحتاج إلى وعي فكريّ، {وما يُلقَّاها}، لا يحصل عليها {إلا الذين صبروا} أي أنّك تحتاج إلى صبر أوّلاً حتّى تتحمَّل السلبيّات التي تعيش في داخل هذه المشكلة أو السلبيّات التي تنطلق من أحاسيسك ومشاعرك، ومن الضغط النفسيّ، {وما يلقَّاها إلا ذو حظّ عظيم} (فصِّلت:35)، الذي عنده حظّ من الوعي ومن الفكر الذي يدفعه إلى أن يتكلّم بالحكمة.
إذاً نحن نلاحظ من خلال هذه الآيات، أنَّ الإنسان إذا اختلف مع إنسان آخر في أيِّ شأن من الشؤون، فإنّ عليه أن يستخدم الأسلوب الأفضل الذي يربح من خلاله اقتناع النّاس الآخرين به، وفي هذا المجال، فإنّ من الطبيعيّ أن أختلف معك من جهة أنّ دينك يختلف عن دينيّ {لكم دينكم ولي ديني}(المائدة:3)، ومذهبك يختلف عن مذهبي، أو خطك السياسيّ يختلف عن خطيّ، لكن مرّة أدخل معك في جدال وحوار حتّى أربحك، وهذا هو الخط الإسلامي في التعامل مع الآخرين، ومرّة أخرى أدخل معك حتّى أنفّس عن غيظي، فأستعمل كلّ كلمات السبّ والشتم والتكفير والتضليل التي تستهلكها غالبية الأحزاب والجماعات عندما تختلف مع بعضها البعض.
ألا يوجد بعض النّاس يقول أريد أن أتكلم هذه الكلمة وليحدث ما يحدث؟! ألا تسمعون بعض الناس يتكلّمون هكذا؟! فهو يفجّر غيظه، وهو بذلك يكون قد فجَّر مشكلته النفسيّة، ولكنّه واجه مشكلة حياتيّة أكبر من المشكلة التي كان يعيشها.
ولذلك جعل الله سبحانه تعالى كظم الغيظ من الأخلاق التي يتَّصف بها المتّقون، ومن صفات المتّقين أنّهم {والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحبّ المحسنين}(آل عمران:134)، لأنّ كظم الغيظ، يعني حبس الغيظ في نفسك، وهذا يدلّ على أنّك إنسان تملك أعصابك ومشاعرك وتملك عقلك، لأنّه من لم يملك غضبه لم يملك عقله في هذا المعنى. فمرّة تريد أن تفجّر غيظك لتنفّس عن الاحتقان في نفسك، ومرّة لا تريد أن تفجّر غيظك لأنّك صاحب رسالة وصاحب عقيدة، فأنت إنسان تريد أن تهدي النّاس إلى الحقّ الذي تؤمن به.
لذلك عليك أن تختار أفضل الوسائل التي تمكِّنك من ربح هذا الإنسان أو ذاك لتفتح قلبه عليك، كما عليك أن توسّع أخلاقك عندما تريد أن تهدي الناس إلى الحقّ، وتجمع الناس حول ما تؤمن به، كما هي الحالة التي قدم الله تعالى لنا بها النبي (ص) كداعية {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنّتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}(التوبة:128).
لذلك نحن في هذا الجوّ العاصف الذي تملؤه التحديات، وتتنوع فيه الضغوط والحروب، وتأتينا منه الكثير من المشاكل الاقتصادية وغير الاقتصادية، نحتاج أن نعيش الروح المنفتحة على الآخر، لأننا إذا عشنا حالة التشنج والتعسف والحقد والبغضاء فسوف يسيطر علينا الآخرون بحيث نمكّنهم فينا.
الآن في العالم يدرسون خلافاتنا الدينية والمذهبية والسياسية ويلعبون عليها، وهناك جامعات للمخابرات، فإذا كنا نتحرك بعقل هادئ وقلب منفتح وروح رسالية، بحيث ننظر إلى الأمور بشكل دقيق، عند ذلك لن يستطيع أحد أن يلعب بنا وأن يوجّهنا إلى ما يخطِّط له، والحديث عن الجدال كثير في القرآن الكريم.
العلامة السيد محمد حسين فضل الله (قده)/الوسط
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين