اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إتسمت المرحلة السابقة من حیاة أمتنا عموماً، والعراق خصوصاً، بسمة السطحیة والمیل إلى تفسیرالتاریخ على وفق ما تریده السلطة، حیث کانت الأصوات الحرة والأقلام النزیهة فی أقصى مجاهل الانزواء والإبعاد القسري عن التأثیر فی المجتمع ورفده بالقیم الأصیلة والمبادئ الإسلامیة.
کما اتسمت هذه المرحلة أیضاً بسمات القشریة، وتبریر الوضع المتخلف والعجز الفكري للحزب الحاکم.
والسبب فی کل ذلك یعود إلى الوضع السیاسي الذي کان حاکماً فی تلك المرحلة، وهو وضع سیاسي شاذ وموروث من عهود الاستعمار والتخلف، فقد أفرز هذا الوضع سیطرة أنظمة استبدادیة، تشیع الكبت وخنق الحریات، وتخلق جواً من الإرهاب والشعور بالهزیمة و تساعد على غلبة المواقف الشعوریة العاطفیة، وشیوع حالۀ من القشریة، والتقلید الأعمى للآخرین.
فتعیش الشعوب فی دوامة الاضطراب النفسي والتقلبات العاطفیة، والأحکام السطحیة، وهذا الوضع أشبه ما تکون بحالة الطفل في جو عائلي یحکم فیه أب خشن الطبع، حاد المزاج، وتسیطرعلى البیت أجواء الكبت والتشنج، ویخلو مناخه من نسمات الحریة والمرح، فكیف یا ترى یشب هذا الطفل وینمو فی مثل هذا الجو الخانق المكبوت.
وهكذا نشأ جیلنا السابق فی أجواء سیاسیة مکبوتة، وفی أوضاع نفسیة وفکریة متدنیة، تفرضها السلطة الجائرة، التی ترفع أزلامها على رقاب المجتمع، بما فیه من طاقات علمیة وفکریة، وفوق کل ذلك تحمل الجمهور عبء أفکارها المنحرفة عبر أجهزة الإعلام المضلل ووسائل التوجیه والتحریف الفكري.
وعندما خرج العراق من هذا النفق الحضاري المظلم اصطدم بأزمات من نوع جدید لم یعتد علیه، وخصوصاً قضیة الاحتلال، تحدید شکل النظام المستقبلي.على العکس من الأزمات المزمنة التی کان یعاني منها فی زمن الطاغیة، حیث أنها صارت مألوفة لدیه وتعلم کیف یتعامل معها.
ومع ذلك تشکل المرحلۀ الراهنۀ نقطة شروع وبدایۀ جدیدة، نأمل أن تحمل فی طیاتها الخیر والسعادة لأمة لم تعرف للسعادة معنى، ولم تذق على مدى عقود طعم الأمان والاستقرار.
ومن طبیعة الانفتاح السیاسي والاجتماعي أن یحمل معه انفتاحاً فكریاً وثقافیاً، یمكن أن یأخذ بید الأمة لیخرجها من مضائق التخلف الحضاري العام.
والخروج من مرحلة الطفولة الفكریة، والوصول إلى مرحلة البلوغ الحضاري والرشد الفکري.
ولکن علینا أن نطوي المرحلة المتوسطة، التی تشکل البرزخ بین مرحلة الطفولة وبین مرحلة الشباب والرشد، أو ما یعبر عنها بفترة المراهقة فی مسیرة الأمم.
وهی مثل مرحلة المراهقة فی عمر الإنسان حیث، تتفتح فی کیانه أنواع المشاعر وتتبرعم فی نفسه ألوان المواهب، وتنفجر فی داخله الطاقات الغریزیة والنفسیة والذهنیة.
والإنسان هذه المرحلۀ بحاجة ماسة إلى الحذاقة وحسن استغلال الفرصة، وأن یعرف کیف یستثمر هذا الانفجار الشعوري، والانفتاح الذهني، والاستعدادات الذاتیة، وهذا طبعاً بحاجة إلى وجود مرشد وموجه یوجه الإنسان إلى طریقه السلیم، وبحاجة إلى هدایة تأخذ بیده إلى اختیار برنامج حیاتي صائب، ومنهج فکري وسلوکي ناجح لبناء شخصیته الإنسانیة المتکاملة، وتنمیة مواهبه واستثمار طاقاته.
وفی غیر هذه الصورة فقد ینحرف الإنسان حیث یتعرض لمزالق الطریق، ویقترب من مواقع الخطر، ویشرف على السقوط، فتتبدد فرص النمو والاکتمال عنده، ولربما انقلبت علیه وتحولت ضده، وصارت سبباً لدماره وخسارة عمره ورأسماله.
وهذا المرشد هو النبي (صلى الله علیه وآله وسلم). وهذا البرنامج هو رسالة الإسلام الخالد.
فلا بد لأمتنا من الاهتداء بمنهج الرسالة المحمدیة، التی هی بدورها زبدة کل الرسالات السماویة، وحصیلۀ المسیرات الإلهیة عبر التاریخ الإنساني، والاقتداء بسیرة خاتم المرسلین (صلى الله علیه وآله وسلم)، وبهذا سنعبر هذه المرحلة الصعبة وننجح فی هذا المخاض التاریخی العسیر، إن شاء الله تعالى.
فقد شاءت الحكمة الإلهیة البالغة أن یکون الأنبیاء وحملة الشرائع السماویة، من أرقى النماذج البشریة، وفی أعلى مراتب الکمال النفسي، والطهارة المعنویة، ثم انعكست هذه الكمالات النفسیة على سلوکهم الخارجي، فجاء هذا السلوك نموذجا رائعا لأسمى المعاني الأخلاقیة، وتطبیقا نموذجیا للقیم الدینیة، والاجتماعیة.
فالأنبیاء وأرباب الرسالات الإلهة هم الجوهرة المستخلصة من مجموع البشریة، وهم اللؤلؤة المصطفاة من صدف المجتمعات عبر التاریخ. وکل من أراد أن یتکامل أو یتزین بشيء من الحکمة، أو الأخلاق والسیرة الحسنة فعلیه أن یتجه صوب هذه الشخصیات الربانیة، فیستنیر بنورها، ویهتدي بهداها، ویتزین ببعض بهاء سیرتها وسلوکها العملي، وکلما تزود من التأسي بهم ازداد قربا من الكمال الحقیقي؛ لأنه ینهل من المعین الصافي والنبع الإلهي الأنقى، والعین المبارکۀ التی فجرها الله سبحانه وتعالى.
والرسول الأکرم محمد (صلى الله علیه وآله وسلم) یبرز فی طلیعة هذه الشخصیات الإلهية، ویتقدم کحالة علمیة وأخلاقیة فریدة تمیزت عن سائر البشریة بممیزات جمة وخصوصیات متعددة حتى لا یطمع أحد رمق سمائها إلا وارتد إلیه البصر وهو حسیر حیث حاز (صلى الله علیه وآله وسلم) من مراتب العلم والعمل أشرفها، ومن درجات الكمال أعلاها، وکیف لا یكون کذلك وقد أدبه ربه فأحسن تأدیبه.
وبعد أن صاغه من أصفى العناصر، واستخلصه من أطهر الأصلاب والأرحام امتدحه فقال: (انك لعلى خلق عظيم) وبهذا استحق النبي (صلى الله علیه وآله وسلم) أن یکون القدوة والأسوة الحسنة، لا للمسلمین فحسب، بل لكل من یحب أن یتکامل علما وعملا، على اختلاف عقیدته ومعتقداته.
فالإنسان العاقل الذي یتعلم الكفاح من النملة، والنشاط من النحلة، والإقدام من الأسد کیف لا تجذبه شخصیة الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله وسلم) وهو کعبة الأخلاق المتجسدة، ومنار القیم النبیلة، وعلمَ السلوك السوي على جادة الصواب، بل هو جادة الصواب، وهو الصراط الأقوم، ولو کان للصواب والاستقامة فخر فإنما هو بالانتساب إلى النبي محمد (صلى الله علیه وآله وسلم).
لذا فمن الطبیعی أن یكون (صلى الله علیه وآله وسلم) مهوى القلوب العاشقة للكمال، ولا عجب، فهو صفوة الصفوة، ومعدن النبوة، ومخزن الوحي، ووارث النبیین، وخاتم النبیین والمرسلین.
فالحكمة لیست حكرا على جنس خاص من البشر، ولا على أصحاب عقیدة خاصة ومذهب معین، بل الإنسان العاقل یبحث عن الكلمة الطیبة أینما کانت وحیث وجدها حط رحاله، وهکذا کانت سیرة رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) محط رحال العقلاء من البشر. نسأل الله سبحانه أن یوفقنا للسیر على هدي النبي (صلى الله علیه وآله وسلم)، وهدي آله الطیبین الطاهرین.
السید عادل الحکیم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين