اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
يارب الحُ ـسين بح ـق الحُ ـسين إشفِ صدر الحُ ـسين بظهور الحجة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أمير المؤمنين كان رجل الوحدة ورائدها، ففي الوقت الذي يرى نفسه صاحب الحق في الخلافة والإمامة، كما عبّر عن ذلك فيما بعد في إحدى خطبه المروية عنه، والمعروفة بالخطبة الشقشقية، فقال : «أَمَا واللهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلانٌ وإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ»[1] ، وقد كان بإمكانه أن ينبري للدفاع عمَّا يعتقد أنه حق له، وكان يعلم أن في توليه الخلافة مصلحة للأمة والرسالة، ولكنه وجد أن هذا التصدي وهذا الموقف يضر بالمصلحة العامّة في ذلك الظرف، ولذلك لم يطالب بحقه، حتى عندما جاء إليه أبو سفيان وصار يهتف: «إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان ؟ أين الأَذَلاَّنِ علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ ثم قال لعلي : أبسط يدك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجلاً فزجره علي وقال : «والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرَّاً لا حاجة لنا في نصيحتك»[2] , فلم يستجب له, ولم يرحب به, ولم يقع في الفخ الذي كان يريده له أعداء الأمة، وإنما أعلن: «وَاللهِ لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِهِ وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ»[3] .
لقد امتنع الإمام علي عن بيعة أبي بكر أياماً أو شهوراً، كما ذكرت المصادر التاريخية، لكنه حين رأى جديّة خطر الردة عن الإسلام، وإمكانية تعرض كيان الأمة للاهتزاز، بحصول أي خلاف وتنازع، انضوى تحت راية الخلافة، كما يقول فيما روي عنه: (فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ, فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسْلامِ, يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ)[4] .
إن علي بن أبي طالب تحمل مسؤوليته، فكان مع الخلفاء ومع الأمة، يحضر المسجد, ويشارك في صلاة الجماعة, يُسْتَشَار, ويشير فيعطي رأيه, وينقذ الأمة، ويساعد الخلفاء في مواقف كثيرة.
فهناك أكثر من تسعين موردًا في قضايا عسكرية واقتصادية وسياسية ودينية استشار فيها الخليفة عمر الإمام علياً وأخذ برأيه، سجلها مع ذكر مصادرها الشيخ نجم الدين العسكري في كتابه (علي والخلفاء)[5] .
ولذلك نتساءل: كيف كان يستشير عليَّ بن أبي طالب إن لم يكن يثق بعلي ويطمئن إلى رأيه؟ علي ما كان ينظر إلى الخلفاء كأعداء يكيد لهم ويسعى للانتقام منهم، وهم في المقابل كانوا ينظرون لعليٍّ كمعين ومساعد فيما هو لمصلحة الأمة والدين، وإلا لو كان عمر وأبو بكر ينظران لعليٍّ كعدو لما رجعا إليه ووثقا برأيه، والإمام علي ـ في المقابل ـ ما كان يتعامل من موقع العداوة الشخصية، وإنما كان يمحضهم النصيحة ويشير عليهم بما ينفع الأمة وكيان المسلمين آنذاك، حتى أُثِرَ عن الخليفة عمر أنه كان يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن علي[6] ، وعن يحيى بن عقيل - كما في ذخائر العقبى[7] -: قال كان عمر يقول لعلي إذا سأله ففرج عنه، لا أبقاني الله بعدك يا علي. وعن أبي سعيد الخدري، أنه سمع عمر يقول لعليٍّ وقد سأله عن شئ فأجابه : أعوذ بالله أن أعيش في يوم لست فيه يا أبا الحسن، وروى - أيضاً - عن عمر قوله: «لولا علي لهلك عمر»[8] ، ودعاؤه أيضاً «اللهم لا تنـزل بي شدة إلاَّ وأبو الحسن إلى جنبي »[9] , ونصوص كثيرة في كتب التاريخ وكتب الفريقين.
ومع أن الإمام أبدى عدم رضاه عن بعض السياسات عهد الخليفة عثمان، وبخاصة دور البطانة التي كانت حول الخليفة, إلاَّ أنه ما انفك يقدم النصيحة والرأي لعثمان، وحاول كثيرًا أن يعالج موضوع التمرد على الخليفة، فكان واسطة وسفيرًا بين المعارضين والخليفة أكثر من مرة، ولكن الأمر خرج من يده، وحينما حوصر عثمان ومُنِع عنه الماء استنجد بعليٍّ، فبعث الإمام ولديه الحسنين بِقِرَب الماء حتى يدخلوها إلى بيت عثمان[10] .
وفي نصوص تاريخية مذكورة في مختلف كتب السنة والشيعة أمر ولديه الحسنين أن يبقيا على باب عثمان حراسةً له[11] ، ولكن المعارضين تسلقوا من بيوت الجيران على دار الخليفة.
هكذا كان علي بن أبي طالب ، وهذا ما يجب أن يكون عليه نهج محبيه وأتباعه، فإلى آخر لحظة من لحظات حياته كان يهتم بوحدة الأمة، فقد كان يعلم أن قاتله الشقي ابن ملجم ينتمي إلى الخوارج، ويعرف أنهم من دفعوه إلى ارتكاب هذه الجريمة، لكنه ما أراد لمقتله أن يكون سببًا جديدًا لمشكلة في واقع الأمة، ولذلك قال في وصيته: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلا قَاتِلِي، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ ولا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ»[12] .
إن سيرة علي تؤكد إخلاصه العميق للدين، وحرصه الشديد على وحدة الأمة، فهو يتعبد إلى الله تعالى بالحفاظ على الوحدة، ويتمسك بها كطريق إلى ثواب الله ورضوانه، فالوحدة مبدأ ديني، وفريضة شرعية، قبل أن تكون قضية سياسية أو مصلحة وقتية، وصدق أمير المؤمنين حينما قال: (ولَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وأُلْفَتِهَا مِنِّي، أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وكَرَمَ الْمَآبِ، وسَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي)[13] .
[1] نهج البلاغة: خطبة رقم 3.
[2] ابن الأثير: عزالدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ, ج2, ص10، ط1، 1408هـ، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت.
[3] نهج البلاغة: خطبة رقم 73.
4] نهج البلاغة: كتاب رقم 62
[5] العسكري: نجم الدين، علي والخلفاء، مطبعة الآداب, النجف الأشرف، 1380هـ.
[6] المتقي الهندي:كنز العمال ج10, ص300, ح29509.
[7] الطبري: أحمد بن عبد الله، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ص 150، ط1, 1415هـ، مكتبة الصحابة, جدة.
[8] نفس المصدر ص 149.
[9] نفس المصدر ص 149.
[10] الطبري: محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج3 , ص 417، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت.
[11] ابن قتيبة: عبدالله بن مسلم، الإمامة والسياسة، ج1، ص42، مؤسسة الحلبي وشركاه.
[12] نهج البلاغة: خطبة رقم 47.
[13] نهج البلاغة: كتاب رقم 78.
الإمام علي (ع) ووحدة الأمة
حرسكمـ الله بعينه التي لاتنامـ،،