اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: ﴿قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ / وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(17).
يرد في القرآن أن إبراهيم الخليل هو مسلمٌ أيضاً مع أنّه ظهر سنة2700 قبل ظهور الدعوة المحمدية، في جنوب بلاد ما بين النهرين (العراق حالياً) فكيف يصح هذا …؟
أسمع القول : ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً مسلماً… (آل عمران 67).
ثم إنَّ محمداً ذاته يقول في الأنعام (أنا أول المسلمين)، فمن نصدق يا ترى …!
الجواب:
المراد من وصف المسلم في القرآن الكريم هو المسلًم والمذعن لله تعالى وحده فيما يأمر به من شرائع الدين والذي هو دينٌ واحد لا يختلف من نبيٍّ لآخر في أُصوله العامة كما أفاد تعالى في قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ﴾(1).
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(2).
لذلك فجميع الأنبياء وأتباعهم على إمتداد تاريخ الرسالات يصحُّ وصفهم بالمسلمين كما وصفهم الله تعالى في مواطنَ عديدة من القرآن الكريم، فلم يكن إبراهيم (ع) وحده مَن وصفه القرآن بالمسلم بل إنَّ نبيَّ الله نوحاً (ع) الذي بُعث قبل إباهيم (ع) بمئات السنين وكذلك مَن آمن بنوحٍ من قومه قد وصفهم القرآن بالمسلمين، قال تعالى يحكي خطاب نوحٍ لقومه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(3).
ووصف القرآن الكريم نبيَّ الله لوط (ع) الذي كان معاصراً لإبراهيم ووصف مَن آمن معه من أُسرته بالمسلمين في قوله تعالى حكايةً عن الملائكة الذين أُرسلوا لايقاع العذاب على قوم لوط: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ / قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ / لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ / مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ / فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ / فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(4) فوصف بيت لوط (ع) أي أُسرته بالمسلمين.
وكذلك فإنَّ إبراهيم كان قد أوصى أبناءه بالثبات على دين الإسلام وبأنْ لا يموتوا إلا وهم مسلمون، وهكذا كانت وصية يعقوب (ع) لبنيه قال تعالى يحكي وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(5).
وقال تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(6).
ولهذا كان يوسف (ع) يسألُ ربَّه الثبات على الدين وانْ يتوفَّاه مسلماً: ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(7).
هذا وقد كانت دعوة سليمان (ع) وهو من أنبياء بني إسرائيل هي الإسلام وقد صرَّح بذلك في مراسلته لبلقيس - ملكة سبأ- وقومها، قال تعالى على لسانه: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾(8).
وقال سليمان(ع) مخاطباً قومه من الجن والإنس: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾(9).
ثم إنَّ سليمان(ع) قال حين جاءته بلقيس ووجدت عرشها عنده و: ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾(10) قال: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾(11).
ثم إنَّ بليقس حين أذعنت بدعوة سليمان (ع) كان إعلانها عن ذلك بقولها: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(12).
بل إنَّ دعوة موسى (ع) نبيِّ اليهود كانت هي الإسلام، فلم يكن يقبل من قومه إلا انْ يكونوا مسلمين كما تُؤكد ذلك آياتٌ عديدة، قال تعالى على لسان موسى (ع) مخاطباً لقومه: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾(13).
ولهذا قال السحرة بعد انْ آمنوا مخاطبين فرعون: ﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾(14).
وبعد انْ وقع الغرق لفرعون وجنوده قال فرعون قبل انْ يُدركه الموت: ﴿قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(15) فهو يعلم انَّ الإيمان بما آمنت بنو إسرائيل يساوق الدخول في زمرة المسلمين.
وكذلك فإنَّ الوسام الذي حرص الحواريون على الثبات عليه وانْ يشهد لهم السيد المسيح (ع) عند ربه انَّهم ملتزمون به هو انَّهم مسلمون، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(16).
والمتحصَّل انَّ الدين الذي شرعه الله تعالى لعموم أنبيائه هو الإسلام، فهو تعالى لا يقبل من عباده غيره كما قال تعالى: ﴿قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ / وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(17).
فالدين الذي آمن به إبراهيم (ع) وبلَّغه لعباد الله تعالى كان هو الإسلام، وكذلك هو ماجاء به موسى (ع) ودعى إليه قومه، وهو كذلك الذي بُعث عليه السيد المسيح (ع).
فالرسول محمد (ص) كان إمتداداً لهذه الرسالات، فلم يكن يدعو لنسف ما جاءت به الرسالات المتعاقبة بل جاء مصدِّقاً لها كما صرَّحت بذلك العديدُ من الآيات كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾(18).
وجاء ناسخاً لبعض الأحكام التي نشأ تشريعها في الرسالات السابقة عن الرعاية لمصلحة الوقت.
كما جاء مكمِّلاً لما كانت عليه تلك الرسالات من نقصٍ نشأ عن إقتضاء العناية الإلهية للتدريج في بيان وتبليغ شرائع الدين، فنظراً لتأهُّل البشرية حين المبعث النبوي الشريف لتلقِّي الدين كاملاً بعد ان أهَّلتهم لذلك الرسالات المتعاقبة صدع النبيُّ الكريم (ص) بالدين الكامل الذي لا مندوحةَ لأحدٍ من عباد الله تعالى إلا التديُّن به دون سواه قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾(19).
وأما ما حكاه القرآن عن انَّ النبيَّ الكريم (ص) انَّه قال: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾(20) فالمراد منه أنَّه كان أول المسلمين بالإضافة إلى أُمته، فلا يُناقض ذلك ما أفاده القرآن من وصف إبراهيم بالمسلم ووصف نوحٍ وعموم الأنبياء وأتباعهم بالمسلمين.
ولعمري إنَّ ذلك أوضح من أن يخفى إلا على مَن تعمَّد المكابرة والتشويش على ما هو بيِّنٌ لكلِّ مَن له أدنى تأمُّل، فالنبيُّ الكريم (ص) لو لم يكن نبيَّاً فهو عاقل بل لا يرتاب أحدٌ في تميُّزه وتفوقه في مداركه، فكيف يتلو آياتٍ ليلَ نهار يُصرِّح فيها بأنَّ نوحاً كان من المسلمين وانَّ إبراهيم كان مسلماً، وانَّ عموم الأنبياء كانوا مسلمين وهم قد سبقوه بمئات وبعضهم بآلاف السنين ثم يقول انَّه أول المسلمين ويقصد من ذلك أنَّه لم يسبقه أحدٌ من الأنبياء بالإتصاف بهذا الوصف، إنَّ ذلك لايصدر من أبسط الناس وأقلِّهم إدراكاً فضلاً عن مثل محمد (ص) الذي لم تعرف البشريةُ له من نظير.
وكيف خفيَ على أتباع محمد(ص) ومناوئيه ماتفطَّن له هذا المورد للشبهة وكأنَّه قد وقف على ما غفل عنه الأولون والآخرون!!
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور