إنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرحيمُ حينما أراد الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) إعداد الجيش لخوض معركة تبوك أعلن النفير العامَّ ، وتهيَّأ المسلمون للقتال ، فخرجوا في اليوم المُحدَّد مُتوجِّهين نحو جَبهة القتال ، إلاَّ أنَّ ثلاثة مِن الأنصار هُم : كعب بن مالك ، وهلال بن أُميَّة ، وابن ربيع مكثوا في المدينة مُتخلِّفين عن المسلمين وما أمر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دون مُبرِّر .
ولمَّا عاد الرسول بجيشه إلى المدينة ، دخل عليه هؤلاء الثلاثة طالبين منه الصَّفح عَمَّا بدا منهم ، إلاَّ أنَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يُحدِّثهم ، ودعا المسلمين إلى مُقاطعتهم ، حتَّى هجرهم جميع المسلمين بصغارهم وكبارهم حتَّى أُسرهم هجرتهم ، وكانت تُقدِّم إليهم الطعام في مواقيته دون أنْ تتحدَّث معهم .
واستمرَّت المُقاطعة حوالي خمسين يوماً حتَّى ضاقت عليهم الأرض ، فكانوا يُغادرون المدينة أحياناً لشدَّة ما حَلَّ بهم ، ويلتجئون إلى التِّلال والمُرتفعات المُحيطة بالمدينة ، فيستغفرون الله تعالى نادمين على فعلتهم طالبين منه العفو والصَّفح بأعيُن دامعة ، حتَّى تقبَّل توبتهم وعفا عن خطاياهم .
قال تعالى : ( وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .
وذات يوم وعقب صلاة الصُّبح أعلن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) عن قَبول الله سبحانه وتعالى توبة هؤلاء الثلاثة ، وطلب إنهاء المُقاطعة ليعود هؤلاء إلى حياتهم الاجتماعيَّة ، ويستعيدوا عِزَّتهم وكرامتهم ، وقد أثار هذا النبأ موجة مِن البَهجة والسرور عمَّت أهالي المدينة .
إنَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يُجازِ المُتخلِّفين الثلاثة بالسِّجن والتعذيب أو الإعدام ، بلْ استغلَّ مسألة العِزَّة والكرامة الاجتماعيَّة ، وعاقبهم بسوء السُّمعة والعار والفضيحة ، وكان إعراض الناس عنهم ومُقاطعتهم لهم أصعب بالنسبة لهم مِن السِّجن وأشدَّ ألماً مِن أيِّ عِقاب ، وبالرغم مِن أنَّهم كانوا أحراراً غير مُقيَّدين ، إلاّ أنَّهم شعروا بأنَّ الأرض قد ضاقت عليهم نتيجة مُقاطعة الناس لهم .