اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَام غَيْرَ نَـاظِرِينَ إِنَيـهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيث إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْى مِنكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْى مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلُْتمُوهُنَّ مَتَعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً * إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شِىْء عَلِيماً } سورة الأحزاب 53 - 54
سبب النّزول
ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآية: أنّ النّبي (ص) لمّا تزوّج "زينب بنت جحش" أولم للناس وليمة فخمة تقريباً.
وقلنا سابقاً: إنّ هذه الأحكام ربّما كانت من أجل تحطيم سنّة جاهلية في مجال تحريم مطلّقات الأدعياء بحزم تامّ، وليكون لهذا التحطيم شعاع أوسع، ولتمحى هذه السنّة الجاهلية التي كانت تعتبر الزواج بأيامى العبيد المحرّرين عيباً وعاراً.
يقول "أنس"، وكان خادماً خاصّاً للنبي: أمرني النّبي أن أدعو أصحابه للغداء فدعوتهم، فكانوا يأتون جماعة يأكلون ويخرجون، حتّى قلت: يارسول الله، لم يبق أحد لم أدعه، فأمر برفع السماط، فرفعوا السماط وتفرّق القوم، إلاّ ثلاثة نفر بقوا في بيت النّبي وكانوا مشغولين بالحديث.
فلمّا رأى النّبي (ص) حديثهم قد طال، نهض ونهضت معه لعلّ القوم يلتفتون ويذهبون إلى أعمالهم، فخرج النّبي حتّى أتى حجرة عائشة، ثمّ رجع مرّة اُخرى وكنت معه، فرأيت القوم على جلستهم وحالهم، فنزلت الآية أعلاه وأفهمتهم كيفية التعامل مع هذه المسائل
ويستفاد من بعض الرّوايات أيضاً أنّ الجيران وسائر الناس كانوا يأتون إلى بعض نساء النّبي ويستعيرون أشياء حسب المتعارف والمعتاد، وبالرغم من أنّهم لم يكونوا يرتكبون معصية وذنباً طبقاً لبساطة الحياة آنذاك، إلاّ أنّ الآية أعلاه نزلت لحفظ حيثيّة زوجات النّبي وأمرت المؤمنين أنّهم إن أرادوا أن يأخذوا من نساء النّبي شيئاً فليأخذوه من وراء حجاب.
وجاء في رواية اُخرى أنّ بعض مخالفي النّبي قالوا: كيف تزوّج النّبي بعض نسائنا، أما والله لئن مات لنتزوجنّ نساءه، فنزلت الآية أعلاه وحرّمت الزواج بنساء النّبي من بعده مطلقاً، وأنهت هذه المؤامرة
التّفسير
مرّة اُخرى يوجّه الخطاب إلى المؤمنين، لتبيّن الآية جانباً آخر من أحكام الإسلام ضمن جمل قصيرة بليغة وصريحة، وخاصّة ما كان مرتبطاً بآداب معاشرة النّبي (ص) وبيت النبوّة، فتقول أوّلا: لا ينبغي لكم دخول بيوت النّبي إلاّ إذا دعيتم إلى طعام واُذِن لكم بالدخول بشرط أن تدخلوا في الوقت المقرّر، لا أن تأتوا قبل ذلك بفترة وتجلسون في إنتظار وقت الغذاء
(ياأيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبي إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه)
بهذا تبيّن الآية أحد آداب المعاشرة المهمّة، والتي كانت قلّما تراعى في تلك البيئة، ومع أنّ الكلام يدور حول بيت النّبي إلاّ أنّ من المسلّم أنّ هذا الحكم لا يختصّ به، إذ ينبغي أن لا تدخل دار أي إنسان بدون إذنه (كما جاء ذلك في الآية 27 من سورة النور) بل نقرأ في أحوال النّبي (ص) أنّه عندما كان يريد دخول بيت إبنته فاطمة (سلام الله عليها)، كان يقف خارجاً ويستأذن.
وكان معه "جابر بن عبد الله" يوماً، فاستأذن له بعد أن استأذن لنفسه
إضافةً إلى أنّهم إذا دُعوا إلى طعام فينبغي أن يكونوا عارفين بالوقت، لئلاّ يوقعوا صاحب البيت في جهد وإحراج في غير مكانه.
ثمّ تناولت الحكم الثّاني فقالت: (ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا)
وهذا الحكم مكمّل ومؤكّد للحكم السابق في الواقع، فلا تدخلوا البيت الذي دعيتم إليه في غير زمان الدعوة، وفي وقت غير مناسب، ولا تهملوا إجابة الدعوة أو أن لا تعبؤوا بها، ولا تتأخّروا بعد تناول الطعام مدّة طويلة.
من البديهي أنّ مخالفة هذه الاُمور وعدم اتّباعها سيؤدّي إلى أذىً وإشمئزاز المضيف، وهي لا تلائم الاُصول الأخلاقية.
وتقول في الحكم الثالث: (ولا مستأنسين لحديث) فلا تجلسوا حلقاً تتحدّثون بعد تناول الطعام، سواء كان ذلك في بيت النّبي، أم في بيت أي صاحب دعوة.
طبعاً، قد يرغب المضيفون في مثل هذه الحلقات والمجالس، فهذه الحالة مستثناة، إنّما الكلام في ما لو كانت الدعوة لتناول الطعام فقط، لا لتشكيل مجالس الاُنس، حيث تجب مغادرته بعد تناول الطعام، خاصّة إذا كان البيت كبيت رسول الله (ص)، مقرّ أداء أكبر رسالات الله وأعظمها، فيجب أن لا يهدر وقته باُمور جانبية تعوقه مدّة عن تأدية رسالته.
ثمّ تبيّن الآية علّة هذا الحكم فتقول: (إنّ ذلكم كان يؤذي النّبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحقّ).
من المسلّم أنّ النّبي (ص) لم يكن يتردّد لحظة، ولا يخشى شيئاً، أو يستحيي من شيء في بيان الحقّ في الموارد التي لم يكن لها بعد شخصي وخاصّ، إلاّ أنّ بيان الحقّ إذا كان يعود على القائل نفسه ليس بالأمر الجميل الحسن، أمّا تبيانه من قبل الآخرين فانّه رائع ومستحسن، ومورد الآية من هذا القبيل أيضاً، فإنّ اُصول الأخلاق والأدب كانت توجب على النّبي (ص) أن لا يدافع عن نفسه، بل يدافع الله سبحانه عنه.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الرابع في باب الحجاب، فتقول: (وإذا سألتموهنّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب)
قلنا: إنّ هذا الأمر كان ولا يزال متعارفاً بين العرب وكثير من الناس أنّهم إذا احتاجوا شيئاً من لوازم الحياة ووسائلها فإنّهم يستعيرونها من جيرانهم مؤقتاً، ولم يكن بيت النّبي مستثنى من هذا القانون، بل كانوا يأتون إليه سواء كان الوقت مناسباً أم غير مناسب، ويستعيرون من نساء النّبي شيئاً، ومن الواضح أن جعل نساء النّبي عرضة لأنظار الناس - وإن كن يرتدين الحجاب الإسلامي - لم يكن بالأمر الحسن، ولذلك صدر الأمر إلى الناس أن يأخذوا الأشياء من خلف حجاب أو من خلف الباب.
والمسألة التي ينبغي الإنتباه إليها هنا هي أنّه ليس المراد من الحجاب في هذه الآية لباس النساء، بل هو حكم يضاف إلى ما كان خاصّاً بنساء النّبي، وهو: أنّ الناس مكلّفون إذا أرادوا شيئاً من نساء النّبي أن يأخذوه من وراء حجاب لظروف نساء النّبي الخاصّة، ويجب عليهنّ أن لا يخرجن إلى الناس ويظهرن لهم في مثل هذه الموارد حتّى وإن كن محجّبات، وهذا الحكم لم يرد طبعاً في شأن النساء الاُخريات، بل يكفيهنّ أن يراعين الحجاب الإسلامي.
والشاهد على ذلك أنّ كلمة "الحجاب"، وإن كانت تستعمل في المحادثات اليومية بمعنى حجاب المرأة، إلاّ أنّها ليس لها مثل هذا المعنى لا في كتب اللغة، ولا في تعبيرات فقهائنا.
"الحجاب" في اللغة هو الشيء الذي يحول بين شيئين، ولذلك اُطلق على الغشاء الموجود بين الأمعاء والقلب والرئة اسم "الحجاب الحاجز"
وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة بمعنى الحائل أو الساتر في عدّة مواضع، كالآية ( رقم 45) من سورة الإسراء حيث تقول: (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً).
ونقرأ في الآية ( رقم 32) من سورة ص: (حتّى توارت بالحجاب).
وجاء في الآية ( رقم 51) من سورة الشورى: (وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب)
أمّا في كلمات الفقهاء فقد استعملت كلمة "الستر" فيما يتعلّق بلباس النساء منذ قديم الأيّام وإلى يومنا هذا، وورد أيضاً في الرّوايات الإسلامية هذا التعبير أو ما يشبهه، وإستعمال كلمة "الحجاب" في شأن لباس المرأة إصطلاح ظهر في عصرنا على الأكثر، وإذا وجد في التواريخ والرّوايات فقليل جدّاً.
والشاهد الآخر هو ما نقرؤه في الحديث المروي عن "أنس بن مالك" خادم النّبي الخاص، حيث يقول: أنا أعلم الناس بهذه الآية - آية الحجاب - لمّا اُهديت زينب إلى رّسول اللّه كانت معه في البيت - صنع طعاماً، ودعا القوم فقعدوا يتحدّثون، فجعل النّبي يخرج ثمّ يرجع وهم قعود يتحدّثون، فأنزل الله: (ياأيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبي) - إلى قوله - (من وراء حجاب) فضرب الحجاب وقام القوم
وفي رواية اُخرى عن "أنس" أنّه قال: أرخى الستر بيني وبينه، فلمّا رأى القوم ذلك تفرّقوا
بناءً على هذا فإنّ الإسلام لم يأمر النساء المسلمات بأن يجلسن خلف الستور، ولا يبرحن دورهن، وليس لكلمة "المستورات" أو "المحجّبات" وأمثال ذلك من التعبيرات صفة إسلامية أو بعد إسلامي بالنسبة للنساء، بل إنّ ما يلزم المرأة المسلمة هو محافظتها على الحجاب الإسلامي، إلاّ أنّ نساء النّبي قد أمرن بهذا الأمر الخاص بسبب وجود أعداء كثيرين، ومتتبعين للعيوب والمغرضين، وكان من الممكن أن يصبحن عرضة للتهم، وحربة تقع بيد الإنتهازيين.
وبتعبير آخر: إنّ الناس قد اُموروا أن يسألوا نساء النّبي ما يبتغونه من وراء حجاب
خاصّة وأنّ التعبير بـ "وراء" يشهد لهذا المعنى.
ولذلك بيّن القرآن فلسفة هذا الحكم فقال: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ).
وبالرغم من أنّ مثل هذا التعليل لا ينافي الحكم الإستحبابي، إلاّ أنّ ظهور الأمر في جملة (فاسألوهنّ) لا يتزلزل في دلالته على الوجوب، لأنّ مثل هذا التعليل قد ورد أحياناً في موارد أحكام واجبة اُخرى.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الخامس بأنّه (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) فبالرغم من أنّ هذا العمل قد ذكر في نفس الآية، وهو الذهاب إلى بيت النّبي (ص)في وقت غير مناسب، والجلوس بعد تناول الطعام، فقد ورد في روايات سبب النّزول أنّ بعض المنافقين كانوا قد أقسموا على أن يتزوّجوا نساء النّبي من بعده، وقد آلم ذلك رسول الله (ص).
ولكن معنى الآية عام على كلّ حال، فهو يشمل كلّ نوع من الأذى.
وأخيراً تبيّن الآية الحكم السادس والأخير في مجال حرمة الزواج بنساء النّبي من بعده، فقالت: (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إنّ ذلكم كان عند الله عظيماً)
وهنا يأتي سؤال، وهو: كيف حرّم الله نساء النّبي من اتّخاذ زوج لهنّ بعد وفاة النّبي (ص)، وقد كان بعضهنّ شابات تقريباً؟
وجواب هذا السؤال يتّضح بملاحظة الغاية من هذا التحريم، وذلك لأنّه:
أوّلا: كما علمنا من سبب النّزول، فإنّ البعض صمّم على هذا العمل كإنتقام من النّبي (ص) وإهانة لقدسيته، وكانوا يريدون أن ينزلوا ضربة بكيانه (ص) عن هذا الطريق.
ثانياً: لو كانت هذه المسألة جائزة، فإنّ جماعة كانوا سيتّخذون زوجان النّبي أزواجاً لهم من بعده، وكان من الممكن أن يستغلّوا هذا الزواج لتحقيق مآربهم والوصول إلى مكانة إجتماعية مرموقة.
أو أنّهم يبدؤون بتحريف الإسلام على أساس أنّهم يمتلكون معلومات خاصّة صادرة من داخل بيت النّبي (ص)، وأهل البيت أدرى بالذي فيه، أو أن يبثّ المنافقون بين الناس مطالب عن هذا الطريق تخالف مقام النبوّة - تأمّلوا ذلك
ونلمس ذلك بصورة أوضح عندما نعلم أنّ جماعة هيؤوا أنفسهم للقيام بهذا العمل، وصرّح بذلك بعضهم، وكتمه البعض الآخر في قلبه
وكان من جملة من ذكره بعض مفسّري العامّة هنا هو "طلحة"
إنّ الله المطّلع على الأسرار الخفيّة والمعلنة، والخبير بها، قد أصدر حكماً قاطعاً لإحباط هذه الخطّة الخبيثة، وليمنع من وقوع هذه الاُمور، ولتحكيم دعائم هذا الحكم فقد أطلق لقب (اُمّهات المؤمنين) على أزواج النّبي ليعلم اُولئك بأنّ الزواج منهنّ كالزواج من اُمّهاتهم!
وبملاحظة ما قيل يتّضح لماذا وجب على نساء النّبي أن يتقبّلن هذا الحرمان بكلّ رحابة صدر؟
قد تطرح أحياناً مسائل مهمّة على مدى حياة الإنسان، يجب أن يظهر تجاهها التضحية والإيثار، وأن يغضّ النظر عن بعض الحقوق التي ثبتت له، خاصّة وأنّ الإفتخارات العظيمة تصاحبها مسؤوليات خطيرة، ولا شكّ أنّ أزواج النّبي قد إكتسبن فخراً لا يضاهى وعزّاً لا يسامى بزواجهنّ من النّبي (ص)، وإكتساب هذا الفخر يحتاج إلى مثل هذه التضحية.
لهذا السبب كانت نساء النّبي يعشن من بعده بكلّ إحترام وتقدير بين الاُمّة الإسلامية، وكن راضيات جدّاً عن حالهنّ، ويعتبرن ذلك الحرمان مقابل هذه الإفتخارات أمراً تافهاً.
وحذّرت الآية الثّانية الناس بشدّة، فقالت: (إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإنّ الله كان بكلّ شيء عليماً) فلا تظنّوا أنّ الله سبحانه لا يعلم ما خططتم له في سبيل إيذاء النّبي (ص) سواء ما ذكرتموه، أو الذي أضمرتموه، فإنّه تعالى يعلم كلّ ذلك جيداً، ويعامل كلّ إنسان بما يناسب عمله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين