ومنطق هذا القانون: أنه يوجد واقع موضوعي في كل القضايا النظرية والعملية، وأن كل فعاليات الإنسان إما أن تصيب ذلك الواقع فتكون على حق ، أو تخطئه عمداً أوسهواً أوجهلاً ، فتكون على ضلال .
فالضلال عدم إصابة الأمر الصحيح في علم الله تعالى لأي سبب ، حتى لوكان لا إرادياً كالنسيان: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) (البقرة:282) .
فمفهوم الضلال نسبي ، ولذا كانت استعمالاته وأنواعه في القرآن عديدة:
أولاً: أنواعه بحسب ذاته ، من الضلال المبين وغير المبين ، أي الشديد الوضوح والأقل وضوحاً ، حتى يصل الى الضلال الخفي الذي لا يعلمه إلا القلة ، أو الذي لايعلمه إلا الله تعالى . وقد ورد الضلال المبين في القرآن19 مرة .
والضلال البعيد والأقل بعداً ، حتى يصل الى الأقرب الى الصراط المستقيم . وقد ورد الضلال البعيد في القرآن10مرات ، والكبير وغير الكبير مرة واحدة.الخ.
ثانياً: أنواع الضلال بحسب موضوعه ، من قضايا وأفكار وأعمال . وهو بهذا الإعتبار أنواعٌ ورد ذكرها بنحو وآخر في القرآن ، كالضلال العقلي ، والنفسي والسلوكي والعقائدي والسياسي والإقتصادي والإجتماعي والحضاري .
أو: الضلال عن الفطرة ، والضلال عن الدين ، أوعن التفكير المنطقي. الخ.
ثالثاً: أنواعه بحسب موضوعه من الأشخاص ، مثل: ضلال الظالمين ، وضلال المجرمين ، وضلال المسرفين المرتابين ، والفاسقين ، والكافرين.. الخ .
رابعاً: أنواعه بحسب لزومه وقابليته للزوال: فمن الضلال ما يصبح ثابتاً كالذين حقًّت عليهم الضلالة (الأعراف:30 و النحل:36) ، أو الذين استحقوا أن يضلهم الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . (الرعد:33 ) ، وبمعناها آيات عديدة .
ومنه قابل للزوال بسرعة أوببطء: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ). (الأنعام:125)
خامساً: أنواعه بحسب علته وفاعله . فمنه ما يكون بفعل الشخص مباشرة باتباع الهوى: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (سورة صاد:26) . ومنه ما يكون بفعل الشيطان: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ). (الحج:4) ، ومنه ما يكون بفعل الرؤساء والشخصيات: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا). (الأحزاب:67) ، أوغيرهم من الناس: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ). (الأنعام:116) .
ومنه ما يكون بتأثير الأصنام والمجسمات المعبودة: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاس). (ابراهيم:36) سادساً: أنواعه بحسب تأثيره على صاحبه وعلى المجتمع . وقد ذكر القرآن عدة تأثيرات لأنواع الضلال ، روحية وفكرية وعملية ، فردية ، واجتماعية.. الخ.
سابعاً: أنواعه بحسب الصراط المضلول عنه . كالضلال عن(سبيل الله)حيث ورد في القرآن ست مرات ، وورد ست مرات مضافاً الى ضمير الغائب(سبيله) ومرة واحدة الى ضمير المخاطب (سبيلك) . والضلال عن(سواء السبيل) ورد 5 مرات . والضلال عن السبيل ،4 مرات . والضلال عن الذكر ، مرة واحدة . وضلال الأعمال عن الصراط المستقيم ، أوضلالها وإضلالها عن الهدف منها ..الخ.
ومن الواضح أن قانون الضلال بأصوله وفروعه ، بقيَ فعالاً في أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ، فلم يرد نصٌّ واحد يدل على استثنائها منه ، إلا التأمين الذي عرضه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمته في مرض وفاته ، فرفضه الحزب القرشي !
ففيالبخاري:1/36: (عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي(ص)وجعه قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده . قال عمر: إن النبي(ص)غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ! فاختلفوا وكثر اللغط ! قال (ص): قوموا عني ، ولا ينبغي عندي التنازع !! فخرج ابن عباس يقول: إن الرزيئة كل الرزيئة ، ما حال بين رسول الله (ص) وبين كتابه ) !!
وقال البخاري:5/137: ( لما حضر رسول الله(ص)وفي البيت رجال فقال النبي (ص): هلموا أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده . فقال بعضهم: إن رسول الله(ص)قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ! فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده ومنهم من يقول غير ذلك ! فلما أكثروا اللغو والإختلاف قال رسول الله: قوموا ).
وقال البخاري:7/9: (باب قول المريض قوموا عني...عن ابن عباس قال: لما حُضِرَ رسول الله(ص)وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب...ورواه البخاري أيضاً: 8/160....
وفي مسلم:5/75: (عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ! قال قال رسول الله(ص): إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، فقالوا: إن رسول الله(ص) يهجر) !! ثم روى عن ابن عباس قال: لما حُضر رسول الله(ص) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي(ص): هلم أكتب لكم كتاباً لاتضلون بعده ! فقال عمر: إن رسول الله(ص)قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله... الخ).
وفي مسند أحمد:3/346: (عن جابر أن النبي(ص)دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لايضلون بعده ، قال فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها) ! (ورواه أحمد:1/324و336 و324 )
وفي مجمع الزوائد:9/33: (عن عمر بن الخطاب قال: لما مرض النبي(ص)قال: أدعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتاباً لاتضلون بعدي أبداً ، فكرهنا ذلك أشد الكراهة!! ثم قال: أدعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لاتضلون بعده أبداً ! فقال النسوة من وراء الستر: ألاتسمعون مايقول رسول الله ؟! فقلت: إنكن صواحبات يوسف إذا مرض رسول الله(ص)عصرتنَّ أعينكن ، وإذا صح ركبتنَّ رقبته . فقال رسول الله: دعوهنَّ فإنهنَّ خيرٌ منكم ) ! انتهى .
ومعنى هذا أن الأمة برفضها كتاب التأمين النبوي من الضلال ، قد وضعت نفسها في معرض أنواع الضلال (جواهر التاريخ 1 للشيخ علي الكوراني)