اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
هذه الفقرة من السورة المباركة هي آخر أمرٍ خوطب النبي (ص) به في هذه السورة
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾
فالصبر والذي هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد قد لا يكون له أثر أخروي عندما لا يكون الصبر لوجه الله عزَّ اسمه وتقدس، وحده الصبر الذي ينشأ عن قصد التقرب لله هو الذي يترتَّب عليه الثواب من عند الله جلَّ وعلا، وأما لو صبر الإنسان لغايةٍ شخصية في نفسه فإن كان للصبر نفع فإنَّه يترتب، إلا انَّ الأثر الأخروي لو كان يرجوه الصابر فإنه لن يجده، فالكثير من الناس قد صبروا لأنَّهم يرون أن الصبر هو مقتضى التعقُّل وأنَّه بالصبر يتحصُّل الإنسان على غايته لذلك فهو يصبر وينتج عن ذلك الوصول للهدف المرجو، فيصبر العاقل مثلاً على طلب العلم فيُصبح عالماً، ويصبر العاقل على الجهود المضنية التي تبذل من أجل التكسب فيصبح مليَّاً ثريَّاً، ويصبر العاقل على أذى الناس ويتَّسع لحماقاتهم صدرُه ليتحصَّل من ذلك على الشرف والسؤدد بين الناس فيجد هذا الأثر ماثلاً بعد حين، لكنَّه أثرٌ لا يتعدَّى الحياة الدنيا، أما الصبر الذي يُراد له أن يكون منشأً لرضوان الله عزوجل وليكون مستحقاً للوعد الإلهي في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فهو الصبر الذي يكون لوجه الربِّ جلَّ وعلا، ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾، ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾
شهيد الحمار
يذكر بعض المؤرخين أنَّ رجلاً من الصحابة قُتل في معركةٍ من المعارك التي خاضها الرسول الكريم (ص) مع المشركين، فحينما وضعت الحربُ أوزارها أخذ المسلمون يتحدثون عن الشهداء وعن المجاهدين فوصفوا ذلك الرجل الذي قُتل بأنه رجلٌ قد أبلى بلاءً حسناً حتى راح إلى ربِّه شهيداً، ففوجئوا أن الرسول الله (ص) -كماهي الرواية- قال لهم: إنَّه شهيد الحمار، إنَّه شهيد الحمار، فصبره على مجالدة الأعداء وصبره على الطعن بالرماح والضرب بالسيوف لم يجدِ له نفعاً، بل إنَّ زهاق روحه في هذا الطريق لم ينتهِ به إلى خير، لماذا؟ لأنَّ هذا الصبر الذي صبره وهذه المجالدة التي جالد بها المشركين وهذه الدماء التي سفكها ودمه الذي سفك لم يكن شيء منه لله جلَّ وعلا، بل كان -كما أفادت هذه الرواية- كل قصده من تلك المنافحة والمقاومة هو أنَّ يدفع عن دابته وعن أمواله حتى لا يغتنمها الكفار منه، فهو لم يجاهد من أجل إعلاء كلمة الله ولم يكن بقصد التقرب إلى الله عزوجل، لذلك فهو حين سقط ميتاً صار شهيداً للحمار الذي كان يدافع عنه وكان غرضه التحفظ على هذا الحمار أو كان غرضه أن ينتصر المسلمون فيحصل حينذاك على غنيمةٍ حمارٍ أو جملٍ أو شيئٍ من ذلك، ولهذا فهو حينما يقتل في هذا السبيل يكون شهيد الحمار.
وفي الرواية عن أهل البيت (عليهم السلام) أن الرجل يُسأل يوم القيامة ماذا صنعت في الدنيا؟ فيقول: جاهدت في سبيل الله، وصبرت على الأذى، وأبليت في هذا الطريق بلاءً حسنا، فقَتَلتُ ثم قُتِلت، كل ذلك من أجلك يا رب، فيقول الله له: كذبت، فتقول له الملائكة: كذبت، لم تكن قد فعلت الذي فعلته من أجل الله، وإنما ليقال أنَّك شجاع، وقد قيل، وقد قيل. فيُسأل الآخر، فيقول لربِّه أنه كان يقرآ القرآن –مضمون الرواية- ويقيم الصلاة ويصوم ويفعل الطاعات والخيرات والمبرَّات، كل ذلك من أجل الله، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، إنَّما فعلت ذلك ليقال أنك رجل صالح، وقد قيل، وقد قيل.
إذن لا تُقبل الأعمال وإن كانت صالحة إلا أن تكون خالصة لوجه الله، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، ويقول النبي الكريم: "إنما –وهي للحصر- إنما الأعمال بالنيات، ولكلِّ امرءٍ ما نوى"
فالصبر كذلك أيها الأخوة، كم من رجلٍ يصبر على فقد حبيبه فلا يُظهر جزعاً حتى لا يقال أنَّه قد جزع، وكم من رجلٍ يصبر على الكثير من العناءات حتى لا يشمت به الأعداء، يُروى أنَّ معاوية قد أُصيب في نهاية عمره قبل أن يهلك بمرض جلدي نشأت عنه الكثير أو العديد من القروح والدماميل في جسده وتغيَّرت على إثرها سحنةُ وجهه وجسده، فكان إذا أراد أن يستقبل الناس يأمر خدمه حشمه أن يُجلسوه ويسووا عليه الثياب والرداء حتى يظهر بمظهر المتماسك فيجلس أمامهم وكأنَّه غير مألوم وغير موجوع، وهذا نوع من الصبر، فهو يصبر على الألم فلا يظهره، ويصبر على الوجع فلا يظهره، فحين خرج آخر من كان في المجلس كما يذكر الأدباء أو كان في طريقه للخروج أخذ معاوية ينشد:
وتجلُّدي للشامتين أُريهم * أنَّي لريب الدهر لا أتضعضع
هذا الغرض وهذه هي الغاية من الصبر.
فأجابه:
وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارها * ألفيتَ كلَّ تميمة لا تنفع
إذن، يقول الله عزوجل: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾، اصبر يا محمد (ص) على أذى هؤلاء المشركين فأمامهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وعاقبة ما كانوا قد أجرموه في حقك، اصبر فأمامهم يوم عسير يجدون فيه غبَّ ما اجترحوه، ويجدون فيه حصيلة ظلمهم لك وتجدُ أنت عاقبة صبرك.
سماحة الشيخ محمد صنقور
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين