المريض المعافى: زين العابدين النجّار. من محافظة شيراز. الحالة المرضيّة: شلل وضعف البصر والذاكرة وصعوبة النطق. تاريخ الشفاء آب 1994.
أبداً ما كنتُ أراك مُتعَباً يا زين العابدين، ولا منكفئاً على نفسك، ولا محزون الفؤاد. ألِفتُك سنوات طويلة، وعرفتك منذ زمن بعيد. كنتُ طفلاً صغيراً أمرّ كلّ يوم ـ وأنا في طريقي إلى المدرسة ـ بأستوديو التصوير الذي تملكه. أتذكرُ يا زين العابدين ؟!
تناديني وتسألني عن حالي، ثمّ تدسّ يدك في جيبك فتُخرج قطعة شيكولات وتقدّمها لي. وما زلت إلى الآن أحسّ بحلاوتها في فمي. تقبّل جبيني وتأذن لي أن أتفرّج على الصور المؤطَّرة المعروضة في الأستوديو. كم كنت أحبّ هذه التصاوير.. خاصّة تصوير ذلك الطفل الذي لا أدري حتّى الآن: أكان يبكي أم كان يضحك!
كنتُ أرغب أن تكبّر صورتي وتؤطّرها، ثمّ تضعها في واجهة الأستوديو. لكنّي أخجل أن أبوح لك بهذه الرغبة.
أبداً ما كنتُ أراك متعباً يا زين العابدين، ولا منكفئاً على نفسك، ولا محزون الفؤاد. دائماً كنت أحبّك.. أراك مَرِحاً ضاحكاً طيّب القلب.
كيف أصدّق يا زين العابدين أن عينك صارت كليلةً عاجزة ؟! أبداً لا أصدّق. أنت تعتمد في شغلك ـ أكثر من أيّ شيء آخر ـ على عينيك ورِجلَيك. كيف يُصدَّق أنّ رِجلَيك لا تُسعفانك في الحركة والمشي ؟!
ما زلت أذكر كيف كنت تتنقّل وتتحرّك في الاحتفالات التي تُدعى إلى تصويرها خفيفاً رائق النفس، وأنت تحمل كاميرتك التي يبرق «فلاشها» مرّات ومرّات!
أتراه واقعاً ما أراه ؟! زين العابدين المَرِح الفَكِه.. قد انقلب إنساناً محزوناً مهموماً لا يغادر كرسيّ المُقعَدين، وعيناه الواهنتان تحدّقان في المجهول! لا كاميرا، ولا فلاش، ولا تصاوير، ولا ذكريات تثبّتها للناس على الورق الصقيل!
لا يا زين العابدين.. لن أصدّق.. أبداً لن أصدّق.. أبداً!
* * *
أعبر أمام الأستوديو.. فأراك قاعداً على كرسيّ العجز والمسكنة، وعينك تنظر بذهول. تستبدّ بي الدهشة وأسرع إليك. وتسيقظ في ذهني الذكريات. أحسّ أنني طفل يودّ لو يتذوّق من يدك حلاوة الشيكولات.. وتستهويه الصور المعروضة في محلّك.. ويطلب منك ـ بلا خجل هذه المرّة ـ أن تكبّر صورته وتضعها في واجهة المحلّ.
لكنْ.. لا. أنا لم أعُد طفلاً. لقد كبرت.. ولم تَعُد يستهويني التفرّج على هذه الصور التي وقع الغبار على ابتساماتها المصطنعة، ونظراتها الجامدة، وهيئاتها المتكلَّفة. أحبّك يا زين العابدين؛ فأنت جزء من ذكريات طفولتي وقطعة من الماضي الجميل.
أقترب منك.. وأسلّم عليك. وتسمع أنت صوتي.. فتجيش قسمات وجهك ويغلب عليك البكاء. أسألك:
ـ ما الذي حدث يا زين العابدين ؟!
تقول لي من خلال البكاء:
ـ بلاء.. بلاء.. نزل علَيّ بلاء!
آه.. ما أصعب رؤية هذا البكاء! بكاء رجل، هزيمة رجل!
وتواصل:
ـ بلاء نزل فجأة عليّ.. حادثة مُرّة لا أدري من أين جاءتني. فجأة أحسست بدوار.
ولم يتوقّف الدوار. فقدت القدرة على التحمل.. لا طاقة لي. وقعت على الأرض..
شللٌ نصفيّ. لا أقدر أن أحرّك رجلي. حتّى بصري أُصيب. شبه أعمى..
بلاء.. هو الموت.. الموت بعينه!
ضمَمتُ رأسك إلى صدري، وقبّلت جبينه. لا طاقة لي على رؤيتك تبكي يا زين العابدين. يشقّ عليّ أن أرى رجلاً يبكي ويتعذّب. ودعوتُ لك الله.. أتراني قادراً على أن أعمل لك شيئاً غير الدعاء ؟!
* * *
طابت أيّامك يا زين العابدين، ودمتَ في هناء وسرور. كلّ شيء عاد إلى سيرته الأولى.. ورائحة الماضي تملأ المكان: رائحة أيّام الطفولة السعيدة.
أعبر أمام الأستوديو.. فأراك ضاحكاً بمَسرّة. ضاحكاً من القلب.. وأنت تعدو هنا وهناك.. توزّع (حلويّات) الفرح على جيران محلّك، وعلى العابرين. لم أصدّق أنك أنت الواقف على قدمَيك، وعينك صحيحة سليمة تعمل بشكل طبيعيّ! آتيك لأتحقّق. أجل.. أجل.. وهو ذا أنت! أنت يا زين العابدين، بلا كرسيّ متحرّك.. تمشي على قدمَيك، وعيناك...!
كأنّ شيئاً لم يقع مِن قبل! هو ذا أنت زين العابدين القديم.. المعافى الفَكِه النشيط. زين العابدين الطيّب القلب. ولمحتَني.. فأقبلتَ مسرعاً إليّ. احتضنتني.. وقبّلتني بحرارة. ما أحلى رائحة الماضي.. هذه التي تفوح منك! رائحة القلب الطيّب والمحبّة والصفاء.
قدّمتَ لي الحلويّات.. وأنا أتطلّع كالذاهل إليك. ما هذه العجيبة التي ما كانت تخطر لأحد على بال ؟! أخذتَ بيدي وأجلستَني على كرسيّ، وجلستَ أنت إلى جواري. أردتَ أن تعبّر عن فرحتك وأن تُخرجني من هذا الذهول. أردت أن تجيب عن السؤال الذي كان يطنّ منّي في الذهن. وتدفّقتَ تشرح. ما أحلى حديثك يا زين العابدين، وما أروع ما فيه من عبير أخّاذ!
ـ أنتَ تدري.. يئستُ من مراجعة الأطبّاء والمستشفيات. لم يبقَ لي أمل. شعرتُ أنّي مقطوع عن هذا العالم الذي أسلَمني وتركني إلى وحدتي وهمومي. لا أراك الله مرارة داء هو كالموت البطيء. كنت أبكي وحدي. أختلي بالله وأبكي. أتضرّع إليه، ليس لي غيره.
تغيّرت حالته وهو يحكي، وقرأتُ دمعة تترقرق في عينيه الوسيعتين:
ـ كما قلت لك.. كنت أتضرّع إلى الله ودموعي تسيل حارّة حارقة. ولم أدرِ كيف نعست، وأنا أبكي.. وأخذني النوم. وفي المنام: رأيت نوراً نازلاً من السماء، ومن داخل النور سمعت قائلاً يقول لي:
ـ دواؤك في مشهد. اطلبْ شفاءك مِن إمامك.
وصحوتُ من النوم. قلبي يضطرم، وفي نفسي جَيَشان لا أقدر على وصفه. ترى.. ما معنى هذه الرؤيا ؟ أتراها شيئاً غير اللجوء إلى الإمام الرضا عليه السّلام ؟!
الرؤيا واضحة لا مجال فيها للتأويل. وسافرتُ فعلاً إلى مشهد، لألتجئ «دخيلاً» عند شافي جميع الأمراض. كنت قد سمعت أنّ الإمام يحضر في الرؤيا للذين يلجؤون إلى عتبته المقدّسة.. ولذلك حاولت أن أنام، لكن استعصى علَيّ النوم. مرّة أخرى حاولت.. لا فائدة. أغمضتُ عينيّ، ورحتُ أناجي الإمام بقلبٍ مضطرّ كسير:
ـ أيّها الإمام الرضا.. أيّها الرؤوف. مَن وجّهني إليك لابدّ أن يكون قد أوصاك بي، وها أنذا أتيت.. عبداً ضعيفاً ذليلاً مسكيناً مستكيناً بين يدَي الله، وأنت وليّ الله الأعظم وبابه الذي يؤتى منه.. أيّها الرضا.. أيّها الرضا.
كنت أسمع همهمات أدعية وضراعات الحاضرين اللائذين مثلي بعتبة شمس الشموس وأنيس النفوس.. حين تناهى إلى أذني ـ من بين الهمهمات المختلطة ـ صوت. صوت يخاطبني بعذوبة وحزم:
ـ قم.
ـ لا أقدر.
ـ قم، أنت تقدر.
باعَدتُ بين أجفاني، فأدهشني ما رأيت: هذه هي جموع الزائرين أراها بوضوح! أمسكتُ بمشبّك الضريح واعتمدت عليه لأقوم. ما هذا يا إلهي ؟! ها أنذا استطيع الوقوف على قدمَيّ! لقد شفيتُ.. شفيت.. شفاني الإمام الرضا! وبدون أن أقصد.. صدرت منّي صيحة، ورميت نفسي على الضريح.
ارتفعَتْ نداءات الزائرين بالتكبير والتهليل والصلوات على محمّد وآل محمّد. وكانت الأيدي تمتدّ من حولي إلى ثيابي تقتطع منها قِطَعاً تُقبَّل بشوق وتوضع على العيون. وما كنت أسمع إلاّ صوت نقّارة الحرم تبثّ بشائرها في كلّ ذرّة من الهواء.
(ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة، من مجلة الزائر ـ العدد 19 ايلول 1995).