اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جبل النور . غار حراء ..
رموز لتجربة إنسانية عظيمة جرت أحداثها بعيداً عن
الناس ومفردات العالم المادي ..
كانت السماء والجبال والصخور والأحجار شهود
تلك الواقعة ..
ولكنها كانت انطلاقة لأعظم رسالة سماوية تبارك بها الخلق
والوجود ..
هذه التجربة هي الخلوة ..
فلكل انطلاقة فترة استرجاع وتأهب وتهيئ ولا شيء أوقع أثراً من الخلوة تكون
بداية لتلك الإنطلاقة لأنها تعمل على تعريف الإنسان بحقيقة نفسه وكيانه ،
وتقربه من الخالق الذي أبدع هذا الكيان وتدعوه للتفكر في هدفية الملكوت
وعلة الوجود والخلق ..
لذلك كانت الخلوة وسيلة الأنبياء لمعرفة حقيقة
ذواتهم .. وسفينة العبور إلى الحقائق الكلية والمعارف الربانية لأنها تعمل
على دوام الفكرة وتثبيت للعلوم والمعارف التي تترشح في القلوب ..
وإذا كانت رسالة الأنبياء تتطلب شيء من الخلوة ..
فإن رسالة الإنسان في الحياة بحاجة هي الأخرى إلى شيء من الخلوة ..
ففي خضم معادلة التقدم والتطور الذي يشهده العالم اليوم فقد الإنسان جزءاً
كبيراً من هويته وأصالته وجوهره نتيجة للضغوط الخارجية التي باتت تطمس
شخصيته وتجعله كياناً آخر غير كيانه الحقيقي ، أو بتعبير آخر تلك الضغوط
التي تجعله مجرد ناقل لما يصدر إليه ، أو تجعله مجرد مرآة عاكسه لما يوجه
إليه من أضواء أو صور ..
وبما تفرضه عليه الشواغل والمشتتات الخارجية ..
وأحاط نفسه بهالة من الإحباط لشعوره بأنه لا يمثل شيء في مسلسل الأحداث ..
فأصبح فاقداً لهويته وحقيقته ..
ولكي يبدأ الإنسان من جديد ..
فهو بحاجة ملحة لجلو شخصيته وإزالة ماسبق أن
علق بها من ركامات وأتربة وتعلقات ..
ولعل أنجح طريقة تعيدنا إلى ذلك هو
التمتع بخلوة ..
ولو أزلنا غبار المفاهيم الخاطئة وعوالق المذاهب المتطرفة عن مفهوم الخلوة
لعرفنا بأنها تعني تلك الفترة الزمنية التي يقتطعها الإنسان من الزمن
ويعيش بها مع عالمه الداخلي وآفاقه المكنونة بعيداً عن ضوضاء الآخرين ..
وعوامل التشتت والبحث عن أول الطريق لإزالة الصدأ عن النفس ..
فإذا كنا في
حياتنا اليومية بحاجة إلى ترتيب البيت .. وتنظيم المكتب ..
وتنظيف
الخزانات والأثاث ..
وأخذ حمام بعد يوم من التعب والإرهاق .. فنحن كذلك
بحاجة إلى ترتيب ذواتنا عن طريق الخلوة الواعية مع النفس.
ولا نعني بالخلوة .. الوحدة .. فالخلوة تشترك مع الوحدة في غياب الآخرين
عنك أو هروبك أنت من الآخرين ، فتعيش بعيداً عن عالم العلاقات إلى حيث
السكون والهدوء تنشد السكينة وراحة البال والأفق .. فتنفض عن نفسك رواسب
العوالق التي علقت بك وتهبك مساحة من الفراغ الذهني الذي تحتاجه لتبدأ
مرحلة عمل جديدة أكثر فاعلية .
أما الخلوة .. فلا يقتصر تحقيقها بغياب الآخرين عنك أو ابتعادك عنهم ، ولكنها تعني حضور من عقدت الخلوة من أجله .. وهو أنت .
فالوحدة غياب الآخرين عنك .. أما الخلوة فحضورك أنت في مواجهة نفسك وذاتك
وجهاً لوجه .. فتلتقي مع نفسك العارية عن المسميات والألقاب والمناصب ..
عارية عن كل الأطر التي وضعت نفسك فيها .. متجردة من كل السمات والصفات
الاجتماعية التي ألصقت بك وتسميت بها .
في الوحدة ينشد الإنسان الراحة .. أما الخلوة فهي مواجهة .. تعود من
الوحدة وقد تخلصت من بعض أشكال المعاناة المرهقة .. أما الخلوة فتخرج منها
وقد تخلصت من الأنانية والكدورات النفسية والعوالق القشرية .. تخرج وأنت
في شغف وشوق لتلك الأفكار الراقية التي تتحدث عن الخلق والوجود والهدفية
.. تلك الأفكار التي لم تكن تفكر بها في يوم من الأيام ..تخرج وأنت تنشد
السعادة الحقيقة وتبحث عمن يوصلك إليها .. تخرج وأنت في حسرة وندامة على
ما فاتك من العمر أهدرته في الضياع واللهو وأنت فاقداً لهويتك ..
ولكن مع الأسف قلة من الناس هم الذين يعرفون قيمة الخلوة لأنها تشكل لهم
هاجساً مخيفاً وبعبعاً مرعباً والسبب في ذلك أن الخلوة هي ساحة المواجهة
الحقيقية بين الإنسان وذاته .. وهذه المواجهة لا يحتملها إلا القلة من
الناس .. لأن في هذه المواجهة يسقط كل شيء .. تسقط الأقنعة التي زيفت
حقيقة الإنسان والتي وضعها على وجهه منذ ولادته .. تسقط عادات الأفكار
وقوالب التطبيع .. تسقط الخواتم والأغلال التي أحكمت قيد القلب والوجدان
.. تسقط المسميات والألقاب التي طالما رأى نفسه من خلالها لا من خلال
حقيقته الذاتية .
في الخلوة تسقط الأنا .. والأنا هو القناع أو الدور أو المنصب أو المسمى
الذي يعيش به الإنسان في الحياة ويتنوع بتنوع أدواره .. فيلبس قناع الأب
المتسلط أو الرؤوف إذا كان في عائلته .. وفي عمله يلبس قناع المسؤول أو
الرئيس .. وبين أصدقائه قناع الأنيس والرفيق .. وأمام خادمه في البيت قناع
الآمر الناهي .. وهكذا يقضي يومه في عالم من الأقنعة لابساً قناع وواضعاً
قناع آخر ..
في الخلوة تسقط كل هذه الأقنعة .. وهذا سبب رفض الناس لمبدأ الخلوة ..
فسقوط الأقنعة يعني العراء أمام الحقيقة .. يعني الذات المجردة عن كل
خصائصها ومسمياتها التي عمل الإنسان طوال حياته على بنائها .
فهو المدير الناجح ، والصحافي اللامع ، والطبيب الماهر ، والمحامي الحاذق
، والتاجر الفطن ، والشيخ الحكيم ، والخطيب البارع .. كل هذه المسميات
والألقاب التي بناها الإنسان لذاته ويراها الآخرون فيه تسقط في الخلوة .
يسقط كل ما كان يضنه جوهرياً وذو أهمية لدى الآخرين ..
ولا يبقى منه إلا ذاته ونفسه وجهاً لوجه .. وهذا الأمر يسبب للناس الخوف
والاختناق ، فهم يخافون من ضياع الأنا التي لكثرة ما طغت في حياتهم حسبوها
حقيقتهم .. ولشدة ما تمسكوا بها اعتقدوها كيانهم وذاتهم ، فتلك الأقنعة
تعطيهم الأمن والأمان والاستقرار في علاقاتهم الاجتماعية وتعتبر صمام أمان
للذات ، لذلك فإن سقوطها يشعرهم بالضياع والانقلاب والتقهقر فترى نفسها في
صحراء قاحلة أو في ليل مظلم ينتظر متى يحين فجره .. ومن هنا كان الخوف من
الخلوة ..
وهذه التجربة أشبه بالموت ( موتوا قبل أن تموتوا ) فالخلوة تعني الموت
المعنوي لكل متعلقات النفس والذات .. وبعد مرحلة سقوط الأقنعة تكشف الذات
حقيقتها فتشعر وكأنها استيقظت من حلم بعد نوم عميق ، فترى الذات حقيقتها
وهي مرحلة الولادة الحقيقية التي يتمخض عنها رحم الخلوة .
بعد الخلوة تكون البداية والانطلاقة :
لو ذاق الإنسان حلاوة الخلوة لاستوحش من نفسه .. فالخلوة أفهم للفكرة ..
وطول الفكرة دليل على طريق السعادة والنجاة .. فبعد الخلوة يخرج الإنسان
وهو ينظر إلى الحياة بصورة جديدة ، يرى كل شيء يسير في فلك متناغم متناسق
محكم .. لا يرى شيئاً مستقلاً بذاته فكل في فلك يسبحون .. تبدأ في رؤية
الإبداع الخلقي في الموجودات ..
وكأنك تفقه تراتيل وأذكار تلك الموجودات
من حولك وهي تسبح ..
وإن من شيء إلا يسبح بحمده .. بعد هذه المرحلة تسترجع
هويتك وأصالتك التي فقدتها قبل ذلك .. فتعرف نفسك على حقيقتها ..
وعندما
تعرف نفسك تكون قد أصبحت طرفاً في معادلة الخلق .. ووجودك طرفاً في هذه
المعادلة يتطلب منك الشكر الدائم المستمر المتواصل للخالق المبدع الرحيم
الذي وهبك التوفيق والقدرة ليكون لك هذا الشأن في هذه المعادلة ..