يلحظ المتتبع لقصة النبي شعيب (ع) في القرآن الكريم قيام دعوته (ع) على دعائم ثلاث متداخلة فيما بينها:
أولاً: الإصلاح الفكري ـ الديني.
ثانياً: الإصلاح الاقتصادي ـ الاجتماعي.
ثالثاً: الإصلاح النفسي ـ الروحي.
وقبل التعرّض بالتفصيل لذلك، لا بأس بذكر قصة النبي شعيب (ع) مع قومه إجمالاً مثلما جاءت في القرآن الكريم وفي روايات الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته (عليهم السلام).
النبي شعيب (ع) هو ثالث الرسل من العرب الذين ذكرت أسماؤهم في القرآن، وهم هود وصالح وشعيب ومحمد صلى الله عليه وآله (1).
كان شعيب خطيب الأنبياء على حدّ قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد ذكر الله تعالى طرفاً من قصصه في سورة الأعراف وهود والشعراء والقصص والعنكبوت.
كان (ع) من أهل مدين ـ مدينة في طريق الشام ـ وكان معاصراً لموسى (ع)، وقد زوّجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج وإن أتمّ عشراً فمن عنده، فخدمه موسى عشر سنين ثم ودّعه وسار بأهله إلى مصر.
كان قومه يعبدون الأصنام، وكانوا منعّمين بالأمن والرفاهية والخصب ورخص الأسعار، فشاع الفساد بينهم والتطفيف بنقص المكيال والميزان، فأرسل الله شعيباً وأمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام وعن نقص المكيال والميزان وعن الفساد في الأرض، فدعاهم إلى ما أمر به ووعظهم بالإنذار والتبشير، وذكّرهم ما أصاب أقوام نوح وهود وصالح ولوط.
وبالغ في الاحتجاج عليهم ووعظهم، فلم يزدهم ذلك إلاّ طغياناً وكفراً وفسوقاً. ولم يؤمن به إلاّ جماعة قليلة منهم، فأخذ القوم في إيذائهم والسخرية منهم، وتهديدهم، فكانوا يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدّون عن سبيل الله مَنْ آمن به، ثم أخذوا يرمونه (ع) بأنه مسحور وبأنه كاذب، وأخافوه بالرجم وهدّدوه والذين معه بإخراجهم من قريتهم أو يعودون في ملّتهم، حتى يئس شعيب (ع) من إيمانهم فتركهم وأنفسهم، ودعا الله بالفتح فقال:
ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين"؛
فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلّة. إذ صار ماؤهم حميماً لا يستطيعون شربه، فانطلقوا إلى غيضة لهم (أيكة) فرفع الله سحابة سوداء فاجتمعوا في ظلّها، ثم أرسل عليهم ناراً منها فأحرقتهم ولم ينجُ منهم أحد بعد أن كانوا يستهزئون بشعيب (ع) أن يُسقط عليهم كسفاً من السماء إن كان من الصادقين.
وبالعودة إلى الآية الكريمة، نلحظ الأسس التي قامت عليها دعوته (ع):
أولاً: الإصلاح الفكري ـ الديني
كان أهل مدين مشركين، يعبدون الأصنام، وقد ورثوا تلك العبادة عن آبائهم حتى صارت سنّة قومية لهم، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل، أمّا من أين سرت إليهم هذه العبادة، فذلك عائد إلى الانحراف الذي أُصيبت به البشرية على امتداد التاريخ، فالناس بعد آدم (ع) عاشوا أمّة واحدة على الفطرة الإنسانية، حتى فشا فيهم روح الاستكبار وآل إلى استعلاء القوي على الضعيف، تدريجاً، واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً، فكان ذلك نواة للوثنية وعبادة الأصنام؛ كما أن مزاولة الإنسان الحس والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة وإخلاده إلى الأرض عوّده على أن يمثّل كل ما يعقل ويتصوّر، تمثيلاً حسيّاً.
فالإنسان أليف الخيال وأنيس الحسّ وقد قضت هذه العادة على الإنسان أن يصوّر لربّه صورة خيالية على شكل ما ألفه من الأمور المادية المحسوسة، فالأقرب إلى طبع الإنسان وخاصة الإنسان الأولي الساذج، أن يصنع لربّه المنزّه عن الشبه والمثل، صورة يضاهي بها الذوات الجسمانية، لذلك جسّم الأمور المعنوية وسبك غير المحسوس في قالب محسوس بالتمثيل والتصوير، كما إنه خضع أمام أي قوة قاهرة، حتى سرت روح الشرك والوثنية في المجتمع الإنساني، وربما ابتدأت الوثنية بين الناس باتخاذ تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنام تمثلهم بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، فقد ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ما يؤيّد ذلك،
قال الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى:
(وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ..): ((كانوا يعبدون الله عزّوجلّ فماتوا فضجّ قومهم، وشقّ ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم، أتخذ لكم أصناماً على مثالهم. فكانوا يعبدون الله عزّوجّل وينظرون إلى تلك الأصنام، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت، فلم يزالوا يعبدون الله عزّوجلّ حتى هلك ذلك القرن، ونشأ أولادهم فقالوا: إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء، فعبدوهم من دون الله)).
ولا يتّسع المقام لسرد أوجه الشرك وعبادة الأصنام في الأمم الغابرة، فنجمل القول أن البشرية عرفت على مرّ تاريخها الانحراف عن طريق التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، وما كثرة الأنبياء والرسل في العصور السالفة إلاّ لحثّ الإنسان على العبادة الحقة، وإزالة الرواسب التي شابت فطرته.
وما شعيب (ع) إلاّ رسول أرسله الله تعالى إلى قومه يدعوهم إلى التوحيد وإلى نبذ الأصنام وإلى الإيمان باليوم الآخر، ولم يكتفِ بتصحيح معتقداتهم، بل تلازمت دعوته إلى عبادة الله الواحد مع الدعوة إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وما يستتبع ذلك من إصلاح على المستوى النفسي والروحي.
ثانياً: الإصلاح الاقتصادي ـ الاجتماعي
يعتقد كثير من الناس أن الدين مجموعة من القضايا المجرّدة والمفاهيم النظرية التي ترتبط بأمور غيبية لا صلة لها بجوانب الحياة، ما جعلهم يفصلون قضايا العقيدة عن سلوك الناس في تصرفاتهم اليومية، والقيم الأخلاقية العامة.
وقد حرص النبي شعيب (ع) على دعوة الإصلاح الاقتصادي حرصه على دعوته قومه إلى عبادة الله الأحد ونبذ عبادة الأصنام، إذ كان الإفساد في المعاملات رائجاً فيهم وشائعاً بينهم، مع أن الله تعالى أنعم عليهم بالأمن والرفاهية والخصب ورخص الأسعار.
فنهاهم (ع) عن التطفيف عند المبادلات في البيع والشراء، إذ كان الكيل أو الميزان رمزاً للحركة الاقتصادية ودورتها، لذلك خُصّص نقص المكيال والميزان من بين معاصيهم بالذكر، وهذا دلالة أيضاً على شيوعه بينهم وإقبالهم عليه وإفراطهم فيه بحيث ظهر فساده وبان سوء أثره.
فدعاهم (ع) إلى الصلاح بالنهي عن ذلك النقص، وعاد ثانياً فأمرهم بإيفاء المكيال والميزان، ونهاهم عن بخس الناس أشياءهم، ثم استأنف بالنهي عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو ظلم، مركّزاً على الإصلاح الاقتصادي لأن ذلك مرتبط بالحياة الاجتماعية، وبيان ذلك أن الاجتماع الدائر بين أفراد النوع الإنساني مبني على المبادلة، فما من تواصل وترابط بين فردين إلاّ وفيه عطاء وأخذ. ولا يزال المجتمعون يتعاونون في شؤون حياتهم، يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أو يزيد عليه. ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات المالية ولا سيما حيث تأخذ تلك المعاملات شكل الأمتعة التي لها حجم أو وزن، فإن ذلك من أقدم ما تنبّه الإنسان إليه بوجوب إجراء سنّة المبادلة فيه.
ولا تقتصر المعاملات المالية على الدورة الاقتصادية، بل تتعدّى ذلك إلى الحياة الاجتماعية، لأن الخيانة إذا شاعت في تلك المعاملات، فإن الفساد سيشيع بين أفراد المجتمع ويُسلبوا بسبب ذلك، الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعضهم الآخر، فيذهب بذلك الأمن الشامل بينهم.
فكون إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم خيراً، كما يظهر ذلك في سياق الآية، فلأن حياة الإنسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الأفراد، بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته وأخذ ما يعادله مما يتمّم به نقصه من ضروريات الحياة، وهذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات، تُحفظ به أوصاف الأشياء ومقاديرها على ما هي عليه.
وأما كون الكفّ عن الإفساد في الأرض خيراً للإنسان، ذلك لأن سلب الأمن العام يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات، وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الإنسانية.
إذاً، ترافقت دعوة النبي شعيب (ع) إلى التوحيد مع دعوته إلى إقامة العدل من خلال تنظيم شؤون قومه الاقتصادية، فانحرافهم في العقيدة انعكس على نظمهم الاقتصادية والاجتماعية، ومن هنا كانت مهمة النبي شعيب (ع)، إصلاح أمر الدنيا والآخرة.
فليس مقبولاً أن يكون الإنسان مؤمناً بالله وبالأنبياء والرسل وباليوم الآخر ويغش الناس في تجارته ومعاملاته المالية، فكم تضج المجتمعات بأناس سيماهم الإيمان والتقوى من خلال ما تظهرهم ألسنتهم ومظاهرهم الخارجية، إلاّ أنهم في بعض مناحي الحياة ولا سيما في الجانب الاقتصادي منها، لا يتورعون عن الكذب والخداع والغشّ من أجل كسب المال، ولا يكترثون كيف يجمعونه، حلالاً كان أم حراماً.
ثالثاً: الإصلاح النفسي ـ الروحي
للتطفيف جذور نفسية في شخصية المطفّف، فهذا الأخير مصاب بأمراض نفسية أقلّها الطمع والغشّ والبخل، لذا فإن أول خطوة لقلع تلك الأمراض هي إيفاء المكيال والميزان، ليتعوّد المطفّف الكرم والصدق والقناعة.
فالكذب والخيانة ليسا من أخلاق الكرام، وقد كان من أهداف جميع الأديان والرسالات السماوية تطهير الإنسان من الآفات النفسية التي تكدر فطرته السليمة، فلو نظرنا مثلاً إلى تعليمات الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته (عليهم السلام) لوجدناها أفضل وسيلة لتدريب الإنسان على أن يسمو بنفسه فيتخلص مما شابها من طمع وكذب وغشّ وبخل وخداع،
لذلك جاء في الأحاديث الشريفة أن
((مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ، كلما ازدادت من القزّ على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّ)).
وإن ((أشكر الناس أقنعهم، وأكفرهم بالنعم أجشعهم»، كما إن «خيار المؤمنين القانع وشرّهم الطامع)).
فالتعاليم الدينية خير علاج للنفس البشرية، لأنها لم تدع الإنسان يتخبّط في بحر هذه الدنيا من دون إرشادات تقيه ما يعتري طريقه، فعلى سبيل المثال أيضاً نجد كمّاً هائلاً من الأحاديث في ذمّ البخل والبخلاء، لأن البخل آفة نفسية لها تبعاتها على البخيل نفسه، وعلى أهل بيته وعلى مجتمعه، وهي على مستوى التجارة مرتبطة بالتطفيف وبالتلاعب بالأسعار،
فقد ورد في الحديث:
((إيّاكم والبخل فإنّه عاهة لا تكون في حرّ ولا في مؤمن، إنها خلاف الإيمان» و «البخل أذمّ الأخلاق، وهو جلباب المسكنة)).
وإذا كان تطفيف الميزان هو رمز التلاعب بالأسس الاقتصادية السليمة، فهو علامة أو إنذار بوجود أمراض نفسية، ومثلما جاء الحثّ على التخلص من هذه العادة في القرآن الكريم، كذلك جاء على لسان الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار (عليهم السلام)،
فقد قيل إن أمير المؤمنين (ع) مرّ بجاريةٍ قد اشترت لحماً من قصّاب وهي تقول زدني،
فقال له أمير المؤمنين (ع) زدها، فإنه أعظم للبركة.
إذ ((لا يكون الوفاء حتى يميل الميزان)).
وقد ورد جملة أحاديث في هذا الصدد منها على سبيل المثال أيضاً: ((إذا زنتم فأرجحو))، ((يا وزّان زن وأرجح))، ((كيلوا طعامكم فإن البركة في الطعام المكيل)).
فإيفاء الميزان مرتبط بعدم الغش وبإعطاء الناس حقوقهم، ولذلك قيل إن
(( الغشّ من أخلاق اللئام، وإن شرّ الناس مَن غشّ الناس)).
وكم يبتلى كثير من التجار، كباراً كانوا أم صغاراً، بالطمع والجشع وربما بالغشّ والخديعة ظنّاً منهم أن ذلك يؤدّي إلى جمع الثروات بأقصر طرق ممكنة، علماً أن قليلاً من الطمع يفسد كثير الورع على حدّ ما جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وإن ثمرة الطمع هي الشقاء في الدنيا والآخرة.
وهكذا نجد أن إصلاح العقيدة يترتّب عليه إصلاح على مستوى السلوك والروح
ــــــــــــــــــ
1 - انظر: الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، الطبعة الخامسة، مؤسسة الأعلمي، ج10، ص377.
وانظر: ميزان الحكمة، محمد الري شهري، الدار الإسلامية، بيروت 1985، ج9، ج448.
وانظر: بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، الطبعة الثانية، مؤسسة الوفاء، بيروت 1983، ج12، ص 385