تفردت قلوب موالین اهل البیت بمیزة وهی الحب والانجذاب نحو قبورهم (علیهم السلام) , ولقد ترجم هذا الانتماء الروحی الربانی لهذه الأضرحة المبارکة بتعمیرها وتشیدها على مدى التأریخ, حباً بالنبی واهل بیته الاطهار(صلوات الله علیهم اجمعین), ولقد نص المروی المبارک عن الامام الصادق (علیه السلام) على عدة مصادیق منها حب الموالین لهذه القبور, والأجر لمن عمرها, ولمن احتمل الأذى عند زیارتها,
فعن أبی عامر الساجی قال : أتیت أبا عبد الله جعفر بن محمّد ( علیهما السلام ) فقلت له : یا بن رسول الله ، ما لمن زار قبره - یعنی أمیر المؤمنین - وعمّر تربته - ؟
قال : یا أبا عامر ، حدّثنی أبی عن أبیه عن جدّه الحسین بن علیّ عن علیّ(علیهم السلام ) أنّ النبیّ ( صلى الله علیه وآله ) قال له : والله لتُقتَلَنّ بأرض العراق ، وتُدفن بها . قلت : یا رسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها ؟ فقال لی : یا أبا الحسن ! إنّ الله جعل قبرک وقبر ولدک بقاعاً من بقاع الجنّة وعرصة من عرصاتها ، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحنّ إلیکم وتحتمل المذلّة والأذى فیکم ، فیعمرون قبورکم ویُکثرون زیارتها تقرّباً منهم إلى الله مودّة منهم لرسوله ، أُولئک یا علیّ المخصوصون بشفاعتی والواردون حوضی ، وهم زوّاری غداً فی الجنّة .
یا علیّ ! من عمّر قبورکم وتعاهدها فکأنّما أعان سلیمان بن داود على بناء بیت المقدس ، ومن زار قبورکم عدل ذلک له ثواب سبعین حجّة بعد حجّة الإسلام ، وخرج من ذنوبه حتى یرجع من زیارتکم کیوم ولدته أُمّه ، فأبشِر وبشِّر أولیاءک ومحبّیک من النعیم وقرّة العین بما لا عین رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
اماط النبی (صلى الله علیه واله )الستار عن وجه الحقیقة فی افضلیة اهل بیته فی حیاتهم وحتى بعد حیاتهم , لیلقی الحجة الدامغة على امته , بأخبارهم . ولأن اهل البیت هم محل ابتلاء البشر فی حبهم وموالاتهم , فنلاحظ على مر العصور قسم المسلمین محب وموالی لهم , ومبغض معادی لهم , وترجمت هذه المشاعر بأفعالهم تجاه قبورهم المبارکة , فالموالی یبذل الغالی والنفیس ودمه ونفسه للحفاظ على معالمها وعمرانها , اما المبغض فلا سبیل الیه سوى التخریب والهدم تنفیساً عما یکنه من حقد , فکان تأریخ ضریح الامام الحسین (علیه السلام) ممن زَخَرَ التأریخ بأحداثه من عمران وخراب , بعد استشهاده (علیه السلام) فی کربلاء سنة 61هـ , ووارى جثمانه المبارک فی هذه البقعة المقدسة ابنه الامام زین العابدین (علیه السلام) وبمعونة قبیلة بنی اسد , وضعت اول معالم على قبره من قبل قبیلة بنی اسد وکانت من جذوع النخل والسقف مغطى بحصیرة من جرید النخل , سمیت بسقیفة بنی اسد(1) .
وبقیت هذه السقیفة المتواضعة حتى سنة 64هـ , قامت قبیلة بنو النظیر من عرب المسلمین , بتشیید اول صندوق خشبی وضعوه حول القبر الشریف .(2) حتى بدأت الصولات النکرة على قبر الامام (علیه السلام) منذ عهد الخلیفة العباسی هارون الرشید فی سنة 193هـ - (809م) وفی اواخر حیاته امر بحرث الأرض التی تضم قبر الامام الحسین (علیه السلام) وقطع شجرة السدرة وهدم المسجد الصغیر الذی بناه المختار الثقفی , ولقد لعن رسول الله (صلى الله علیه واله) قاطع الشجرة تکراراً ,ولمن سمعه من اصحابه لم یفقه ما یقول حتى تحقق ذلک فعلاً فکان یقول (صلى الله علیه واله) : (لعن الله قاطع السدرة ثلاثاً) (3).
ثم اعید عمران القبر المقدس فی سنة 198هـ - (813م) على ید المأمون العباسی واخذ زواره یتوافدون الیه (4) . وفی سنة 236هـ - 247 هـ (850م - 861 م) فی عهد المتوکل العباسی تعرض قبر الامام الحسین (علیه السلام) الى هجمة عدائیة اخرى اذ امر المتوکل بهدم قبر الامام ثلاث مرات وأسال الماء علیه فحار الماء حول القبر الشریف.(5) .
وفی سنة 247 هـ - 861 م , بعد مقتل المتوکل على ید ابنه المنتصر الذی خلفه أعاد بناء القبر الشریف الى ما کان علیه اولاً وقد نالت الشیعة شیء من الحریة فی عهده ووضع میلاً عالیاً یرشد الناس الیه, وأخذ الزوار یتوافدون على ارضِ کربلاء لزیارته لکن لم یدم حکم المنتصر طویلاً حتى توفی بعد ستة اشهر(6) .. وفی عام 279هـ - 892م فی عهد الخلیفة المعتضد باشر فی بناء الحضرة الحسینیة ملک طبرستان ودلیم الملقب ب(الداعی الکبیر) واکمل انجاز ما بناه اخوه الملقب ب(الداعی الصغیر) الذی خلف اخاه .(7) وفی عهد الطائع العباسی سنة 369هـ - 980م امر الحاکم عضد الدولة البویهی بإعادة بناء مرقد الأمام الحسین (علیه السلام) بعد التخریب الذی قام به (ضبة بن محمد الأسدی) امیر عین تمر. (8) وفی عهد العباسی القادر بالله سنة 407هـ - 1017 م احترق مَشْهَدُ الامام الحُسیْنِ (علیه السلام) بسبب سقوط شمعتین وظل القبر على هذا الحال المؤسف حتى عام 414هـ - 1023م , فأعاد عمران القبر وزیر السلطان البویهی الحسن بن الفضل بن سهلان المعروف بأبی محمد الرامهرمزی وأولى المَشهَدُ والمدینة اهتمامه (9).
وفی ایام احمد الناصر لدین الله سنة 575هـ - 622هـ (1180م- 1225م) والذی کان موالیاً ومحباً لأهل البیت (علیه السلام) والذی أهتم بعمارة المراقد المقدسة (9). د. رؤوف محمد علی الانصاری : عمارة کربلاء دراسة عمرانیة وتخطیطیة , : 57 . وینظر : السید عبد الحسین الکلیدار : بغیة النبلاء تأریخ کربلاء, 63 – 64 . ولقد اشار ابن بطوطة فی رحلته الى کربلاء فی سنة 727هـ , وصف الروضة الحسینیة المقدسة بقوله : (( والروضة المقدسة داخلها وعلیها مدرسة عظیمة وزاویة فیها الطعام للوارد والصادر وعلى باب الروضة الحجاب والقومة لا یدخل احد الا عن أذنهم فیقبل العتبة الشریفة وهی من الفضة , وعلى الضریح المقدس قنادیل الذهب والفضة , وعلى الابواب ستائر الحریر ...))(10) ومن هذا النص یدل ان مشهد الأمام بقی شامخ لم یتأثر بأی هجمة عدائیة لأن الموالین له من السلاطین او الناس العادیین سرعان ما یشیدونه وفعلاً انه عهد معهود ان یکون لصاحب هذا الطف علماً یرفعه محبیه کما اخبرت السیدة زینب (علیها السلام) عن جدها رسول الله (صلى الله علیه واله) بقولها:(( إن ذلک لعهد من رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) إلى جدک وأبیک وعمک، ولقد أخذ الله میثاق أناس من هذه الامة لا تعرفهم فراعنة هذه الارض، وهم معروفون فی أهل السماوات أنهم یجمعون هذه الاعضاء المتفرقة فیوارونها، وهذه الجسوم المضرحة وینصبون لهذا الطف علما لقبر أبیک سید الشهداء (علیه السلام) لا یدرس أثره، ولا یعفو رسمه، على کرور اللیالی والایام و لیجتهدن أئمة الکفر وأشیاع الضلالة فی محوه وتطمیسه فلا یزداد أثره إلا ظهورا وأمره إلا علوا )). (10)
اما فی سنة 786هـ - 1384م وفی عهد حکم السادة الجلائریة قام ببناء وتجدید عمارة المرقد الشریف السلطان أویس الجلائری وأبناه السلطان حسین والسلطان احمد بهادرخان وهذا البناء ما زال هیکله موجوداً الى الآن (11). وفی سنة 920 هـ اهدى الشاه اسماعیل الصفوی (صندوقاً ) الى القبر الشریف (12) ولتستمر مراحل السیطرة والنفوذ من قبل السلاطین من الصفویین والعثمانیین والترکمان على العراق فی هذه الفترة لکن آمن المرقد من ای اعتداء ولم یتم ایضاً ای تغیر للضریح الحسینی المقدس . وفی سنة 1153هـ - 1740م تحقق العمران الملحوظ للحائر الحسینی على نفقة زوجة الشاه نادر الأفشاری وکریمة الشاه سلطان حسین الصفوی .(13) وفی سنة 1288هـ - 1871م وفی عهد الحکومة العثمانیة انشئ ضریح من الفضة لقبر سید الشهداء (علیه السلام) وبتبرع من زوجة الشاه ناصر الدین القاجاری حفید فتح علی شاه (السیدة انیس).
وفی سنة 1355هـ التی غابت عن المؤرخین ذکرها وفرغت صفحات التاریخ منها لکن حفظت فی طیات مبارکة مقدسة لتکون مصدر توثیق جدید تم التوفیق لمعرفته, بعدما فتحت اجزاء الضریح المقدس (الهیکل الخشبی للضریح القدیم ) وجدت قصاصة من الورق تذکر فیها سنة تنصیب الضریح وشده بعد قدومه من الهند فی السنة المذکورة , من قبل النجار نجل الحاج عبد الرضا ابن المرحوم الحاج حسن بن المرحوم الشیخ جعفر والذی اکتمل نصبه شهر محرم وصفر سنة 1356 هـ , ومن المدهش للنظر ان هذه الورقة القدیمة اتفق تأریخها مع القطعة البرونزیة الموجودة داخل الضریح التی تذکر ان الضریح قد انشأ اول مرة فی بلاد الهند ممن وفق لهذا العمل المبارک وهو ابو محمد طاهر سیف الدین , ومن ثم انتهج منهجه ابنه ابو محمد طاهر سیف الدین ابی القائد جوهر محمد برهان الدین , فی تجدید الضریح المبارک بالذهب والابریز والفضة الخالصة سنة 1430هـ , ولم یکن هناک أی اتفاق بین الطرفین لکن عمل الخیر طریقه واحد لا یمکن ان ینحرف فمن الطبیعی ان یتفق الطرفین حتى لو بعدت المسافات وغابت الشخصیات لان الامام الحسین (علیه السلام) طریقه واحد , ولقد مر هذا الضریح فی مراحل صیانة مستمرة خلال هذه السنوات الطویلة حتى فی عهد الطاغیة فی الانتفاضة الشعبانیة اعتدى على الضریح المقدس برمیه بالرصاص وتمت صیانته بفضل الله ,(14) . لینتقل بعدها الضریح المقدس الى صفحة جدیدة مشرقة فی ذاکرة التأریخ تَوَسمْتُ صفاته ابداعاً من فن التصمیم , بضریح جدید یحل محل القدیم.
لقد تولى مهمة وضع تصمیم الضریح المبارک , الاستاذ المعروف عالمیاً (محمود فرشجیان) الذی صمم سابقاً ضریح الامام الرضا (علیه السلام) , وایضاً لوحة واقعة عاشوراء المشهورة والذی اکد بقوله على ان یکون التصمیم للضریح الحسینی بما یتناسباً مع شخصیة الامام الحسین (علیه السلام) وفعلاً کان تصمیماً نادراً بین تصامیم الأضرحة المقدسة الاخرى وبشهادة مُعظم خبراء الفن . فتبلغ مساحة التصمیم للضریح المبارک 86 / 33 متراً مربعاً , والأبعاد : 34 / 7x 04 / 5 , الارتفاع : 49 / 4م , عدد الشبابیک : 20 شباک , علماً ان هیکل الضریح صنع من مادة قابلة للتطعیم بالذهب والفضة وغیرهما , وهی خشب الساج والذی تم الحصول علیه من غابات (بورما) من شبه القارة الهندیة وافریقیا الذی یبلغ مجموع وزن الخشب المستخدم (5350) کیلوغرام تقریباً وله من المواصفات الخاصة فی ان له المقاومة الکبیرة والقوة المطلوبة للتحمل کافة ظروف الطبیعة من رطوبة وحرارة بسبب اشتماله على نوع من الدّهن یمنع تأثره بهذه الاوضاع , حتى قدر عمره الافتراضی لخشب الساج حوالی (1000سنة) مثله مثل الابنیة الصامدة التی صنعت منه فی الصین والهند وبقاءها حتى یومنا هذا رغم مرور قرون على بنائها .
اما وزن الذهب المستخدم بلغ حوال (650/118) کیلوغراماً , وبلغ وزن الفضة الإجمالی (1800) کیلوغرام , اما الوزن الاجمالی للکرات الفضیة بلغ حوالی (2800)کیلو غراماً وان نسبة الفضة فیها بلغت 95% وتم التوصیل والرابّط بین الکرات والأنابیب بوصلات من الفولاذ المقاوم للصدأ , عندها لیبلغ وزن الضریح المبارک الاجمالی الطاهر 000/12 کیلوغرام موزع على وزن خشب الهیکل الذی یبلغ : 5350 کیلوغرام . ووزن الفضة : 4600کلیوغرام , ووزن الذهب : (650/118) کیلوغرام , ووزن الالواح النحاسیة : 700 کیلوغرام , والوصلات الفولاذیة : 250 کیلوغرام , والاحزمة الفولاذیة : 200 کیلوغرام , والخشب التزینی الداخلی : 700 کیلو غرام , والمعدات الحدیدیة : 100 کیلوغرام . اما العبارات المنقوشة على الضریح الطاهر سواء خارج الهیکل او داخله , فمن الداخل مکتوب آیات من الذکر الحکیم , واحادیث وروایات المعصومین ذات السند الموثق , اضافة الى اسماء الله الحسنى , واسماء المعصومین , وبعض من انواع السلام المنتخبة من زیارة الناحیة المقدسة کتبت على سقف الضریح الطاهر , اما داخل الضریح کتبت سورة الانسان وسورة الکوثر , والاحادیث والمرویات عن المعصومین بفضل زیارة الامام الحسین (علیه السلام) الذی بلغ عددها ثلاثة عشر حدیث , وعبارات من زیارة الامام الحسین (علیه السلام) فی النصف من شعبان والنصف من رجب کتبت من الداخل فوق الراس الشریف وخلفه وعند القدم الشریفة .
المصادر :
1- د. رؤوف محمد علی الانصاری : عمارة کربلاء دراسة عمرانیة وتخطیطیة , الناشر : مؤسسة الصالحی للطبع , 1427هـ.
2- سعید زمیزم , مؤرخ وکاتب ,مقابلة شخصیة .
3- عجائب زیارة سید الشهداء الامام الحسین (علیه السلام) , الخطیب حافظ الحداد , الناشر : محلاتی , الطبعة الاولى , 1386 هـ ش - 2428هـ - ق, : 27 .
4- . د. رؤوف محمد علی الانصاری : عمارة کربلاء دراسة عمرانیة وتخطیطیة , الناشر : مؤسسة الصالحی للطبع , 1427هـ. ص 52 .
5- تأریخ الطبری , محمد بن جریر الطبری , تحقیق : نخبة من العلماء الأجلاء , الطبعة الرابعة : 1403 - 1983 م , الناشر : مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت – لبنان , 9 : 185 .
6- مروج الذهب ومعادن الجوهر , المسعودی , الطبعة : الثانیة , 1404 - 1363 ش - 1984 م , الناشر : منشورات دار الهجرة ایران – قم , 4 : 121 . و ینظر : اعیان الشیعة : السید محسن الامین , 1 : 628 .
7- و ینظر : اعیان الشیعة : السید محسن الامین , 1 : 628 .
8- ابن الاثیر : الکامل فی التـأریخ , الناشر : دار صادر ودار بیروت , بیروت – لبنان , 1386هـ - 1966 , 7 : 55 .
9- ابن الاثیر : الکامل فی التـأریخ , 9: 295 , وینظر : السید عبد الحسین الکلیدار : بغیة النبلاء تأریخ کربلاء, حققه : عادل الکلیدار , مطبعة الارشاد بغداد , 63 – 64 .
10- د. رؤوف محمد علی الانصاری : عمارة کربلاء دراسة عمرانیة وتخطیطیة , : 57 .
11- . وینظر : السید محمد حسن مصطفى الکلیدار : مختصر تأریخ کربلاء , الطبعة الاولى : 1368 هـ - 1949 . مطبعة : شرکت سبهر , ایران , : 80 , 86 .
12- . وینظر : السید عبد الحسین الکلیدار : بغیة النبلاء تأریخ کربلاء, 63 – 64 .
13- , وینظر : السید محمد حسن مصطفى الکلیدار : مختصر تأریخ کربلاء , : 80 , 86 .وینظر : د. رؤوف محمد علی الانصاری : عمارة کربلاء دراسة عمرانیة وتخطیطیة , : 57 .
14- . د. عبد الجواد الکلیدار : تأریخ کربلاء وحائر الحسین , : 264 – 265