ربَّما یتساءل المؤمن والمسلم عن الصلة والمناسبة بین استشهاد الإمام الحسین (علیه السلام) وتردیده أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْکَهْفِ وَالرَّقِیمِ کانُوا مِنْ آیاتِنا عَجَباً ، تردید الرأس الشریف کمظهر إعجازی لهذه الآیة إنَّ صلة استشهاد الإمام الحسین (علیه السلام) وقراءته لهذه الآیة هی مناسبة تظهر بأدنى تأمّل وتدبّر.
فی الحقیقة أودُّ هنا أن أذکر هذه النکتة التی ترتبط بسیّد الشهداء مع سورة الکهف، فالمعروف فی کتب التاریخ والمقاتل والروایة أنَّ رأس سیّد الشهداء (علیه السلام) - عندما حُوّلت الرؤوس إلى الطاغیة عبید الله بن زیاد وإلى الطاغیة یزید بن معاویة - کان یردّد هذه الآیة: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْکَهْفِ وَالرَّقِیمِ کانُوا مِنْ آیاتِنا عَجَباً) (1)،
بعد تلک الآیة: (فَلَعَلَّکَ باخِعٌ نَفْسَکَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ یُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِیثِ أَسَفاً) (2)،
وربَّما یتساءل المؤمن والمسلم عن الصلة والمناسبة بین استشهاد الإمام الحسین (علیه السلام) وتردیده لهذه الآیة، تردید الرأس الشریف کمظهر إعجازی لهذه الآیة، فی الحقیقة إنَّ صلة استشهاد الإمام الحسین (علیه السلام) وقراءته لهذه الآیة هی مناسبة تظهر بأدنى تأمّل وتدبّر، وهو أنَّ القضاء على حیاة سیّد الشهداء (علیه السلام) بالقتل هو إماتة لعمود الدین الذی کان یشید أرکانه سیّد الشهداء،
قال رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم): (حسین منّی وأنا من حسین) (3)،
بقاء دین النبیّ من إنجازات سیّد الشهداء (علیه السلام)، فما عملته الطغمة الطاغیة الأمویة من استئصال شجرة النبیّ فی أهل بیته لأنَّهم یحسبون أنَّهم یقضون على الدین، والحال أنَّ الله عز وجل ضرب مثلاً فی أصحاب الکهف والرقیم أنَّهم کانوا مستضعفین وکانوا یعیشون فی حالة من التقیّة والوجل والخوف ولا یظهرون دین التوحید أمام ذلک الملک (دقیانوس) الذی کانوا یعیشون فی وزارته، وکانوا وزراء له فی القصر الملکی، وکانوا موحّدین ولکن لم یکونوا یجرؤون لیظهروا التوحید، فکانوا مستضعفین إلى حدّ ألجأهم الأمر إلى أن یفرّوا من دیوان الملک إلى الصحراء وآووا إلى الکهف بعد أن فُضح أمرهم وکُشف، وبعد أن ذهب شرّ (دقیانوس) واندثرت مملکته واندثر زمانه عاود الله إحیاءهم لیثبت الباری تعالى للبشریة:
(وَکَذلِکَ أَعْثَرْنا عَلَیْهِمْ لِیَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) (4).
فإحیاء الله لأصحاب الکهف والرقیم بعد اندثار (دقیانوس) وتفشّی التوحید لیدلّل الله عز وجل على أنَّ العاقبة للمتّقین، وأنَّ المستضعفین یعودون وارثین للأرض، ویرجعهم الله للدنیا وهم الذین یکونون آیات حقّ وآیات هدى، وکذلک الحال فی سیّد الشهداء (علیه السلام) فإنَّه رغم استشهاده (علیه السلام) وتصفیة الطغمة الأمویة له إلاَّ أنَّهم لم یبیدوا الدین، بل کما نشاهد الآن أنَّ اسم سیّد الشهداء واسم جدّه المصطفى واسم دین المصطفى لا زال یرفرف خفّاقاً فی أرجاء العالم وسینشر فی أرجاء العالم على ید ابنه وولده المهدی، وأین ذکر یزید؟ إنَّه فی مزبلة التأریخ وأصبح مورد لعنة الله والملائکة والناس أجمعین، وبقی سیّد الشهداء اسماً خالداً ونبراساً ینیر البشریة ضیاءً وهدایةً.
فهناک صلة وثیقة بین ما جرى لأصحاب الکهف وما جرى لسیّد الشهداء، لاسیّما وإنَّنا نؤمن برجعة أئمّة أهل البیت بعد دولة ابنهم الإمام المهدی (علیه السلام) وأنَّهم سیحکمون فی الأرض، وعقیدة الرجعة عقیدة أصیلة قرآنیة لها حدیثها الخاصّ، فهذه صلة واضحة بین سورة الکهف وما جرى لسیّد الشهداء،
سیّما وأنَّ ذکر قصَّة وظاهرة أصحاب الکهف ذکرت فی سورة الکهف للدلالة على ضمانة:
(فَلَعَلَّکَ باخِعٌ نَفْسَکَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ یُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِیثِ أَسَفاً) (5)،
یعنی أنَّ المحور الأصلی لسورة الکهف هو بقاء الدین وعدم زوال الدین، ولاستشهاد سیّد الشهداء صلة وثیقة جدَّاً وطیدة بإبقاء الدین وضمان بقاء الدین.
الضمانات الأخرى التی ذکرها القرآن الکریم فی سورة الکهف: استخلاف الخلیفة کضمانة ثانیة محوریة،
والضمانة الثالثة هی هذا الجهاز الخفیّ والشبکة الخفیّة الإلهیة التی هی حکومة بشریة مؤسّسة من قبل الله تعالى، ونظمه مزوَّد بعلوم خاصّة ونظام حاسم وخطط ومخطّطات مرسومة ومهندسة على الضوء العلمی الإلهی الذی لا یحدّده أفق، ولا یقف فی الإحاطة بالأمور بدوائر قصیرة أو مقطعیة أو حلقات قصیرة، بل یحسب فیه حساب التداعیات والحلقات کلّها، حلقات الماضی والحاضر والمستقبل، حلقات البیئة المالیة والاجتماعیة والإصلاحیة من الضمان والکفالة الاجتماعیة، نظم تفوق قدرة البشر،
کما ستوافینا بحوث أخرى فی الظواهر القرآنیة أنَّ هذا النظم الإلهی یعتمد على معلومات وإحصائیات لا تخطئ، وکمًّ هائل بالمعلومات تقصر عنها بحوث الدراسات الاستراتیجیة العصریة فی الدول الکبرى ولا تجدها فی أیّ مرکز من مراکز البحوث والاستراتیجیات لصناعة الخطط والسیاسات للدول المعاصرة، فلا یقاس علم الله بعلم المخلوقات، فإذا کان جهازاً مبنیاً نظمه وخططه وسیاساته ورموزه على علم الله فکیف ظنّک به، لا بدَّ حینئذٍ أن یحسب فیه کلّ هذه الحلقات وکلّ هذه التداعیات وکلّ هذا النسیج والتنسیق المترابط فیما بین بعضها البعض، ومن ثَمَّ أبرز القرآن الکریم عیّنة یسیرة من الفترة الیسیرة التی اصطحب فیها النبیّ موسى للخضر وأعطانا ثلاثة أدوار متنوّعة فی حقول وبیئات مختلفة وفی منعطفات بشریة حسّاسة.
حقیقة العلم اللدنّی والشریعة الباطنة:
فی ختام هذه الظّاهرة هناک محطّة أخیرة مهمّة جدَّاً یجب أن نتریّث بها ونتدبّرها بعمق، فالنبیّ موسى صاحب شریعة والخضر صاحب علم لدنّی، وهنا تأویل قد ورد ربَّما فی جملة من کلمات المفسّرین، أنَّ النبیّ موسى صاحب الشریعة الظاهرة، وأنَّ الخضر صاحب الشریعة الباطنة.
فی الحقیقة وحسب ما یُستفاد من روایات وتعالیم أهل البیت، وعلومهم وبحسب ما استفدته واستظهرته من تعالیمهم (علیهم السلام) أنَّ الشریعة هی واحدة، لیست لدینا شریعة ظاهرة وشریعة باطنة، لکن الشریعة الکلّیة العامّة إذا أرید لها التطبیق الحرفی الدقّی الذی لا یخطئ فی الحکم والمصالح التی شُرّعت الشریعة من أجلها ترافقها آلیات تطبق بعلم لدنّی یراد لها سیاسات فی التطبیق تُرسم بالعلم اللدنّی المحیط بالبیئات الموضوعیة، وموضوع البیئات بشکل مستقصى لا یعزب عنه ظاهرة موضوعیة ولا بیئیّة ولا تداعیاته، وطبعاً على علم خاصّ، فلیس یکفی فیه العلم بالوحی وهی الشریعة ووحی النبوّة، بل احتاج إلى علم التأویل، خاتم الأنبیاء وسیّد الرسل وهو إمام الخلق وإمام الأئمّة فإنَّه فی عقیدة مدرسة أهل البیت هو إمام الأئمّة الاثنا عشر، فإنَّهم (علیهم السلام) أیضاً لهم إمام وهو رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)، وهو أعظم درجةً ومقام، وهم الوارثون لعلومه، وهو (صلى الله علیه وآله وسلم) لدیه علم الشریعة وعلم التأویل. وقد ورث أهل بیته منه علم التأویل، الذی یعبّر عنه القرآن الکریم أیضاً بالعلم اللدنّی،
أنظر هنا فی مطلع السورة یحدّثنا القرآن الکریم عن ظاهرة الخضر:
(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (6)،
لطف خاصّ وقدرة خاصّة، فما آثار هذا العلم اللدنّی الذی أراد النبیّ موسى صاحب الوحی النبوی أن یتعلَّم منه،
کما یحدّثنا بذلک القرآن الکریم
(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (7)،
هذا جُمع بأکمله وبأقاصی درجاته لسیّد الأنبیاء وخاتم الرسل، فقد کان لدیه علم التأویل وعلم التنزیل والعلم اللدنّی، إلاَّ أنَّه فی ظاهرة النبیّ موسى لا یحدّثنا القرآن الکریم أنَّه لم یکن للنبیّ موسى شیء من علم التأویل، ولکن کأنَّما الدرجة التی کانت لدى الخضر من علم التأویل والعلم اللدنّی لم تکن لدى النبیّ موسى، على رغم أنَّه ما کان لدیه وحی الشریعة ووحی النبوّة، والنبیّ موسى (علیه السلام) کان من أولی العزم وشریعته ناسخة للشرائع التی قبله.
العلم اللدنّی وعلم التأویل عند الإمام المهدی (علیه السلام):
إنَّ النبیّ موسى رغم کونه صاحب شریعة ناسخة للشرائع السابقة إلاَّ أنَّ هذا الوحی وهذا العلم بالشریعة الوحیانی النبوی مغایر للعلم اللدنّی وعلم التأویل، وقد حار المفسّرون فی کیفیة تفسیر هذه الظاهرة، حیث إنَّ فی مطلعها قول النبیّ موسى (علیه السلام) للخضر (علیه السلام):
(هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) ، فالعلم اللدنّی یغایر العلم بالشریعة.
وتُستخلص حقیقة عظیمة من هذه السورة، ویجب أن یفهمها کلّ مسلم، وهی أنَّ کلّ شریعة لها تأویل فی مقام التطبیق والإقامة، ولا یستطیع أن یطبّقها بحقیقة تأویلها إلاَّ حاکم زوّد بالعلم اللدنّی الإلهی. وهذه السورة تبرز لنا ضرورة عقائدیة وهی أنَّه کلّ شریعة لا بدَّ لها من حاکم إلهی، حاکم منصوب من قبل الله، إمام منصوب من قبل الله تعالى مزوّد بالعلم اللدنّی، فهو الذی یستطیع أن یطبّق هذه الشریعة بتطبیق لدنّی إلهی لا یخطی الحقائق والصواب قید شعرة.
أنظر هنا صاحب الشریعة النبیّ موسى کیف قد تفاجأ واستغرب واستنکر تطبیقات یقوم بها الخضر، وربَّما حسبها أنَّها تتنافى مع ضوابط الشریعة، لکن بعد أن أوَّل له الخضر:
(سَأُنَبِّئُکَ بِتَأْوِیلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَیْهِ صَبْراً) (8)،
زال استنکار النبیّ موسى، أی إنَّه قد رأى أنَّ کلّ هذه الأدوار قد روعی فیها ضوابط الشریعة الظاهرة، لکن رعایة هذه الضوابط الشرعیة فی الشریعة الموسویة بأدوات علم التأویل والعلم اللدنّی وتطبیقه لم یکن فی علم البشر ولا قدرتهم الوصول إلى ذلک التطبیق الهائل العظیم لإقامة الشریعة، إلى أن یقول: (فَأَرَادَ رَبُّکَ)، أخبر عن الإرادة الإلهیة.
إذن کما أنَّ هناک إرادة فی الشریعة عامّة، فهناک إرادات خاصّة متنزّلة لتطبیق تلک الإرادة العامّة، متنزّلة لتطبیق الشریعة بتوسّط العلم اللدنّی،
(فَأَرادَ رَبُّکَ أَنْ یَبْلُغا أَشُدَّهُما وَیَسْتَخْرِجا کَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِی ذلِکَ تَأْوِیلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَیْهِ صَبْراً) (9).
وما یدلُّک على أنَّ علم التأویل له کامل الصلة، وأنَّه رکن الأرکان فی إقامة الحکم الإلهی وفی إقامة الشریعة، وبفصیح القول وبعالی الصوت تخاطبنا سورة الکهف: أیّها المسلمون أیّها القرّاء للقرآن الکریم انتبهوا وعوا واستیقظوا فإنَّ الشریعة واحدة فی الظاهر والباطن، وأنَّ لها حاکماً إماماً یعلم بالتأویل بتوسّط علم لدنّی، لأنَّه هو الذی یستطیع أن یقیم الشریعة بلا اخترام مورد من الموارد، وبلا إخفاق بیئة من البیئات. هو الذی یستطیع أن یشیّد ویقیم أرکان الدین بوصایة ربّانیة وبهدایة ربّانیة، وإرشاد ربّانی یصیب الأشیاء والحقائق ولا یخطئها، إذ کلّ شریعة لا بدَّ لها من علم تأویل، وهذا لیس خاصّاً بحقیقة شریعة النبیّ موسى، کیف وشریعة سیّد الرسل هی من أبلغ الشرائع.
وحینما ننظر فی عصرنا الحاضر نتسائل من هو المزوّد بالعلم اللدنّی؟ وأیّ مدرسة إسلامیة اشترطت فی الحاکم والإمام أن یکون مزوّداً بعلم لدنّی یغایر مقام النبوّة ویغایر مقام الرسالة، وهو مقام اصطفائی إلهی کما یحدّثنا القرآن الکریم عن الخضر، إذ لم یعرّفه بالنبوّة أو بالرسالة کبطاقة شخصیة لتعریف هویته، وإنَّما عرَّفه أن لدیه أدواراً حکومیة ضمن جهاز یقوم بأنشطة مفصلیة لمسار النظام البشری وذلک بتزویدهم بالعلم اللدنّی وعلم التأویل،
فمن هو حینئذٍ الخلیفة المزوّد بعلم التأویل؟
أو أیّ مدرسة من المدارس الإسلامیّة اشترطت أن یکون الإمام الحاکم المنصوب من قبل الله تعالى مزوّداً بعلم لدنّی مرتبطاً بالغیب یؤهّله لأن یطَّلع على إرادات الله وبرامجه التفصیلیة لإقامة الشریعة؟
أیّ مدرسة تلک التی اشترطت ذلک؟
فإنَّنا لا نجد غیر مدرسة أهل البیت (علیهم السلام).
المصادر :
1- الکهف: 9
2- الکهف: 6
3- بحار الأنوار 43: 261؛ مسند أحمد 4: 172.
4- الکهف: 21
5- الکهف: 6
6- الکهف: 65
7- الکهف: 66
8- الکهف: 78
9- الکهف: 82
ar.rasekhoon.net