المريضة المعافاة: راضية اليعقوبي. من مدينة بُرُوجِرْد. الحالة المرضية: سرطان الكليتين. تاريخ الشفاء: مايس 1989.
ـ تعالَيْنَ يا بنات ادخُلْنَ. الهواء بارد.. لا تَمْرَضْن.
فُتِحت نافذة، أطلّت منها امرأة على رأسها منديل، وهي تنادينا بهذه الكلمات. أمّا نحن فلم نهتمّ بما قالت. كنّا نُمسك يداً بيد ولا نهتمّ بشيء. واقفات على شكل دائرة ننشد نشيداً بسرور لا حدّ له. المطر الذي كان ينزل قد بلّل ثيابنا.. وأصواتنا المَرِحة تملأ الزُّقاق.
ولمّا أخذ المطر يشتدّ ونَقَعت ثيابنا.. جَرَيْنا بأصوات صاخبة، نحو البيت الذي كانت المرأة قد نادَتْنا من نافذته. لا فرق.. أكانت تلك المرأة أمّي أو أُمّ الأُخرَيات.. سواء أكان بيتنا أم بيت سواي. نجفّف ثيابنا قرب المدفئة ونشرب الشاي الذي قُدِّم لنا. هكذا كنّا دائماً. وكان هذا دأبنا كلّما أمطرت السماء.
* * *
السماء تُمطر. حبّات المطر تضرب زجاج النافذة بإيقاع متناغم محبَّب، ويختلط صوتها بأصوات مياه الميازيب.. وأنا وحيدة مُرهَقة متمدّدة على سرير المستشفى. في عيوني مطر.. وتفكيري يذهب إلى البعيد: إلى تلك الأيّام الجميلة.. زخّات المطر الربيعيّ.. ابتلال الثياب.. الأناشيد الجماعيّة.. والجَرْي تحت المطر. ترى.. ما الذي بقي لي من تلك الأيّام الحلوة غير ذكرى خرساء وشبح لصديقاتي اللاتي لابدّ قد طالت قاماتهنّ الآن وكبرن ؟!
ما اشدَّ شوقي إليهنّ! أُغمض عينيّ.. وأحاول أن أتذكّر. أحاول أن أستحضر في ذهني صورة كلّ واحدة منهنّ. أتسمّع إلى أصواتهنّ مع إيقاع الميزاب والمطر يقرأن الأناشيد. كم هُنّ سعيدات ومَرِحات!
أُحِدّ سمعي، أريد أن أستمع إلى الأصوات:
كأنّ هذا صوت رُقيّة، طاهرة، حوراء، سمر.. وأنا!
صوت تصفيقهنّ يموج في أذني، مختلطاً بصوت المرأة التي تنادينا:
ـ بنات.. يا بنات، تعالَين ادخُلنَ. الهواء بارد.. لا تَمرضْن.
راضية! يا راضية! الصوت صوت أمّي. أفتح عينيّ. أراها جالسة عند رأسي تتطلّع بنظراتها إليّ.
ـ هل نمتِ ؟
ـ لا يا ماما.
تضع كفّها الرقيقة على كتفي. تنحني وتقبّل وجهي:
ـ اليوم تخرجين من المستشفى. الدكتور قال إنّ حالتك أفضل كثيراً. آخذك إلى البيت. بعدها نذهب في سفرة.
ـ أين ؟
أنا أسأل، وتبتسم أمّي قائلة:
ـ إلى أين تحبيّن أن نسافر ؟
أفلتَت منّي ضحكة بلا اختيار:
ـ واضح، إلى مشهد.
* * *
كلّ انتباهي متوجّه إليها. لمّا استيقظَتْ من النوم.. أخذَتْ تنظر حوالَيها وهي مدهوشة. العَرَق يغطّي رأسها ووجهها. ترتعش. مدّت يدها إلى الحبل المعقود حول عنقها فانحلّت عُقدته. قامت من مكانها مضطربة. نظراتها تتنقّل هنا وهناك بلا هدف. وعندما رأتني.. هدأت قليلاً. انفرجَت شفتاها عن ابتسامة لطيفة.. وضحكتْ بصوت مسموع. تحوّلت ضحكتها إلى بكاء. اقتربت منّي وجلست ملاصقة لي:
ـ أين أمّي ؟
احتضنتُها وسألت:
ـ شُفِيتِ.. أليس كذلك ؟
هزّت رأسها وقالت:
ـ رأيت رؤيا رؤيا عجيبة.
منذ سبعة أيّام وأنا «دخيلة». شُفِيَت في هذه المدّة اثنتان، إحداهما هذه الصبيّة الجالسة إلى جواري، والأخرى امرأة شُفيت البارحة، يقال: عندها سرطان.. مِثلي. لكنها حصلت على العافية وذهبت. هي أيضاً رأت رؤيا. لكنْ: أنا لماذا لا يأتيني الإمام في المنام ؟! إذا جاءني في المنام فسوف أتعلّق بثيابه، سأقع على قدمَيه، سأحكي له ما فعل بي السرطان. واحدة من الكليتين توقّفت عن العمل تماماً، والثانية قد تَلفَت. سأحكي له ما أُعانيه من أوجاع في كلّ مرّة أذهب فيها لتصفية الدم بالجهاز، وسأرجوه أن يشفيني.
حمائم تحلّق عالياً فوق رأسي.. وتختفي وراء منارات الحرم. تهبّ نسمة عذبة. تقع عيني على أمّي التي أحضرت لي الآن كاسة ماء جاءت بها من المشربة التي تتوسّط الصحن الكبير. لكني لست عطشانة.
ـ خذي. الماء شفاء.
صوتُ مَن تكلّم معي ؟! أمّي ؟! لكنّ أمّي ما نطقَتْ بحرف! أدرتُ وجهي ففاجأ عينيّ نور. نور يأتي من جهة الضريح. ثَمَّ قدح من خلال النور.. رشّ الماء على وجهي. رشّ الماء مرّة، مرّتين، عدّة مرّات.. حتّى نقعتُ بالماء. هزّتني أمّي وهي في حَيرة:
ـ راضية.. راضية! ماذا حدث ؟ أفيقي يا ابنتي.
أفَقتُ. كانت السماء تمطر.. وقد تبلّلتُ ونقعت. امّي لَفّتني ببطانيّة وضمّتني إليها.. وحملتني إلى داخل الروضة.
ـ ماذا بك يا راضية ؟ هل رأيت رؤيا ؟
ـ ها.. ماما. رأيت رؤيا. رؤيا عجيبة.
كم أُحبّ أن أنام مرّة أخرى وأرى الرؤيا.. ومرّة أخرى ترشّ عليّ الماء تلك اليد النورانيّة مِن قدَح النور. أُطبق جفنيّ من جديد، وأنا أهمس بصوت خفيض:
ـ ليتكِ لم توقظيني يا ماما!
* * *
نحن معاً رفيقات اللعب القديم: نمسك يداً بيد في دائرة، وننشد نشيداً بمرح وسرور. نشيد المطر.. وتُفتَح النافذة أيضاً، فتُطلّ منها أمرأة على رأسها منديل:
ـ يا بنات.. تعالَين ادخُلْن..
صوت أمّي. أفتح عينيّ. أمّي وأقفة أمامي، ومعها كلّ رفيقات اللعب القديم. كلهنّ يضحكنَ لي بفرح وابتهاج. كلّ واحدة حملت في يدها وردة قدّمتها لي:
ـ زيارتك مقبولة يا راضية!
آخذ الورد وأضحك لهنّ. وضعَتْ أمّي الورد في مزهرية عند النافذة. وفي الخارج.. كان المطر ينزل. صوت حَبّات المطر التي تُداعب زجاج النافذة يختلط بصوت الميزاب، مُحْدِثاً نغمةً جميلة محبَّبة.
(ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة من مجلة الزائر ـ العدد 11 ـ كانون الثاني 1994).