اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: { وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ }
المراد من السقف المرفوع
والمراد من السقف المرفوع كما رُوي عن أمير المؤمنين (ع) هو السماء.
فهي السقف المرفوع التي أقسم الله بها في هذه السورة المباركة، وقد وصف القرآن السماءَ بالسقف في آياتٍ أخرى كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾
ووصفها بالرفعة في أكثر من آية، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾
وقال جلَّ وعلا: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ فالمراد من السقف المرفوع في الآية المباركة من سورة الطور هي السماء التي فوقنا.
الغاية من القسم بالظواهر الكونيَّة
أقسم الله عزَّ وجلَّ بها للتعبير عن مظهرٍ من مظاهر عظمته جلَّ وعلا. وقد ذكرنا مراراً عديدة أنَّ القرآن كثيراً ما يُقسم بالظواهر الكونيَّة ليستثير بذلك انتباه الإنسان إلى ما حوله فينتقل منه إلى مُبدِعِ ذلك المظهَر الكوني العظيم، فكثيراً ما يغفل الإنسان عمَّا حوله، رغم كثرةِ وتنُّوع ما يُشاهده من بدائع هذا الكون والمعبِّرة -لو تنبَّه- عن جلال الله تعالى وعظيم قدرته وبديع حكمته لكنَّه غافلٌ، مشغولٌ عنها باهتماماته الضيِّقة وشؤوناته الخاصَّة، لذلك قد يقوده هذا الذهول وتقوده هذه الغفلة إلى نسيان ربِّه جلَّ وعلا، وقد تقوده الغفلةُ إلى التنكُّر والجحود.
أمَّا الإنسان البصير الذي هو دائم التأمُّل ودائمُ النظر لما حوله من بديع هذا الكون فهو مذعنٌ بأنَّ هذا الكون وعظمته وإتقانه ودقته والقوانين التي تحكمه تُعبِّر عن خالقٍ حكيم عالمٍ قادرٍ متقِن، فتقوده هذه الآيات الناشئة عن هذا النظر والتأمُّل إلى الإيمان والإذعان بوجود الله عزَّ وجل. لذلك اهتمَّت الآيات الكريمات في موارد كثيرة بهذا النمط من الإثارة والتحفيز الذهنى للإنتباه، لأنَّه كثيراً ما يكون الإنسان غافلاً عمَّا حوله، فالقسَمُ بهذه الظواهر الكونية يُحفِّر في ذهن الإنسان حالة التنبُّه إلى هذا الكون وعظمته.
تنبُّه الإنسان إلى ما حوله يُفضي إلى الإذعان بوجود الله وعظمته
كلُّ يومٍ يرى الإنسان الشمسَ وهي تُشرق ثم يراها تغرب، ويرى القمر في الليل، ويرى تعاقب الليل والنهار، ويرى النجوم السابحات في السماء والتي يفوق عددها الآلاف وربَّما الملايين، يرى هذا الكون برحابته وسعته، يرى الأرض وما تُنبت من بديع خلق الله من أجناسٍ وأصنافٍ تفوق حدَّ الإحصاء: من النباتات، والأشجار، والورود، والأزهار، والمرعى، وغيرها. ثم لا يلتفت، يرى البحر وسعته وما يكتنز من أسرارٍ ومن كائناتٍ حيَّة وغيرها. ويرى أصناف الحيوانات والبهائم والوجودات والكائنات الحيَّة أصنافاً لا يسعه أن يحصيها فهي -كما يقول العلماء- تفوق الآلاف من الأصناف وليس الأعداد: أصناف الحيوانات، وأصناف الطيور، وأصناف الحشرات والديدان. وكلُّ ذلك قائمٌ على أطرٍ وقوانين وأسس.
فالكون مليء بالآيات والأسرار، لكنَّ الإنسان سادرٌ غافلٌ، لذلك جاء الأنبياء للتنبيه، لم تكن وظيفة الأنبياء أكثر من التنبيه، كلُّ حديثهم مغروزٌ في فطرة الإنسان، فدورهم يتمحَّضُ في الإشارة والتنبيه، فالإنسان مفطورٌ على الإيمان بالله عز وجل والإدراك البديهي لوجود الله تعالى وقدرتِه وعظيمِ شأنه، يكفي أن ينتبَّه الإنسان إلى ما حوله، وأن ينظر إلى ذاته، وإلى مكامن نفسه، وإلى تركيبه، وإلى جوارحه، و إلى كيفية تفكيره، وإلى مشاعره، يكفي أن ينظر إلى كلِّ ذلك ليُذعن بوجود الله عزَّ اسمه وتقدس، لكنَّ الغفلة هي التي تحجبُ الإنسان عن الإيمان بالله جلَّ وعلا، لهذا كان دور الأنبياء هو التنبيه وتحفيز العقل والقلب للرجوع إلى ما تقتضيه جبلَّة الإنسان وفطرته.
لهذه الغايةِ أقسم القرآن في هذه الآية بالسقف المرفوع وهي السماء، فلو تأمَّل الإنسان هذه السماء التي فوقه وما تكتنز من أسرار، فهي التي تحمي الأرض لتكون بذلك مؤهَّلةً وقادرةً على أن تحتضن الإنسان وسائر الكائنات الحيَّة. فلولا السماء وما اشتملت عليه من قوانين لأصبحت هذه الأرض غير قابلة للحياة، فلولا ذلك لما كانت الحياة ممكنة على هذه الأرض. فالإنسان يعيش وادعاً هادئاً مستقراً مطمئناً في هذه الأرض، لا يخشى من شيء. فالأشعة التي التي يكفي صنفٌ منها لتدمير الأرض وتحويلها إلى موضعٍ غير قابلٍ للحياة. هذه السماء، هذا الغلاف هو الذي يحيمها من ذلك، فيظلُّ الإنسان هادئاً مستقراً آمناً في هذه الحياة ليُمارس دوره.
ينام الإنسان ويغطُّ في النوم وثمة مَن يُدبِّر شأنه
لو تأمل الإنسان ذلك لشعر أنَّ هناك مَن يكلؤه ويحفظه ويُدبِّر شأنه وهو لا يشعر، فهو ينام ويغطُّ في النوم وثمة مَن يُدبِّر شأنه، فهو في غفلةٍ حتى عن نبضات قلبه التي هي سرُّ بقائه على قيد الحياة، فهو ينام ويستيقظُ ذاهلاً عن قلبه، وهو يظلُّ ينبض بالحياة، فليس هو من يرعى ذلك، ودورته الدموية ليس هو الذي يرعاها وليس هو الذي يدبِّر شأنَ جريانها في عروقه، فكلُّ ذلك يُدبِّره مَن خلقه، لذلك فهو ينام ويسعى ويُمارس شؤوناته وثمة من يُدبِّر شؤونه، فنبضاتُ قلبه تتحرك بالنحو المقرَّر لها دون أن يكون له دخلٌ فيها، وإذا شاء الله تعالى أن يوقف نبض قلبه أوقفه دون أن يكون للإنسان رأيٌ في ذلك.
المراد من البحر المسجور
ثم أقسم الله عزَّ وجل بقسَمٍ خامس قال تعالى: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾
ربَّما يكون المراد من البحر المسجور -كما هو أحد المعنيين المذكورين في التفاسير- هو البحر المملوء بالماء المتلاطم الذي يحوط الأرض كلَّ الأرض.
القسم بالبحر يستثير عقل الإنسان
أليس من الحكمة أن يستثير هذا المظهر الكوني عقل الإنسان. هذا الماء الذي لم ينضب على مدار آلاف آلاف السنين، يحوط هذه اليابسة، يصلُ عمق بعض جوانبه ما يفوق أعلى جبلٍ في الأرض، ويكتنز هذا البحر الكثير من الأسرار، لذلك ينبغي للعاقل أن يتأمل مَن الذي أنشأ هذا البحر؟ وعلى هذه الهيئة، وبهذه العظمة، فينبغي أنْ يتأمل فيما اشتمل عليه من أسرار وقوانين وإبداعات وكائناتٍ حيَّة، فحتى الآن ورغم أنَّ العلم قد تقدم كثيراً لم تُكتشف كلُّ أسرار هذا البحر.
فالقرآن أراد بهذا القسَم أنْ يستثير عقل الإنسان ليتوجَّه إلى هذا المظهر الكوني العظيم من أجل أن ينتقل منه إلى مَن الذي كوَّن هذا البحر وخلق هذه السماء وبسط هذه الأرض بهذا الإتقان وبكلِّ هذه الآثار حيثُ ما من شيء من هذه الظواهر الكونية إلا وله غاية وفائدة لا يمكن الاستغناء عنها. هكذا أراد القرآن أن يستثير عقل الإنسان.
سماحة الشيخ محمد صنقور
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين