اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في الآية الأولى وردت عبارة (تنزيل الكتاب)، وفي الثانية عبارة (أنزلنا إليك الكتاب)
فما الفرق بين الإنزال والتنزيل؟ وما المراد من تباين العبارتين في هاتين الآيتين؟
كتب اللغة تقول: إنّ كلمة (تنزيل)تعني نزول الشيء على عدّة دفعات، في حين أن كلمة (إنزال) لها معنى عام يشمل النّزول التدريجي والنّزول دفعة واحدة وفي مفردات الراغب مادة (نزل) والفرق بين الإنزال و التنزيل في وصف القرآن و الملائكة، أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقاً و مرّة بعد اُخرى و الإنزال عام.
قال بعضهم إنّ لكل منهما معنى خاصاً بها وأن (تنزيل) تعني ـ فقط ـ النّزول على عدّة دفعات، و (إنزال) تعني ـ فقط ـ النّزول دفعة واحدة.
اختلاف العبارتين المذكورتين أعلاه إنّما يعود إلى أن القرآن المجيد نزل بصورتين:
الأُولى: نزل دفعة واحدة على قلب النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)في ليلة القدر في شهر رمضان المبارك كما ورد في الآيات المباركة: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)و(إنا أنزلناه في ليلة مباركة)و (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن).
وفي كلّ هذه الآيات استخدمت عبارة (الإنزال) التي تشير إلى نزوله دفعة واحدة.ويوجد نزول آخر تمّ بصورة تدريجية استغرقت (23) عاماً، أي طوال فترة نبوّة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كانت تنزل في كلّ حادثة وقضية آية تناسبها، وتنتقل بالمسلمين من مرحلة إلى اُخرى ليرتقوا سلم الكمال المعنوي والأخلاقي والعقائدي والإجتماعي، كما ورد في الآية (106) من سورة الإسراء: (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا).
والذي يثير الإنتباه، هو أنّ الكلمتين (تنزيل) و (إنزال) تأتيان أحياناً في آية واحدة للتعبير عن مقصودين، كما ورد في الآية (20) من سورة محمّد: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت).
فكأن المسلمين يطلبون احياناً نزول السورة القرآنية تدريجاً كي يهضموا محتوياتها بصورة جيدة، لكن الضرورة كانت تستدعي في بعض الحالات نزول السورة دفعة واحدة، وخاصة السور التي تتناول مسائل الجهاد في سبيل الله، لانّ نزولها التدريجي كان قد يؤدي إلى سوء استغلالها من قبل المنافقين الذين كانوا يتحينون الفرص لبث سمومهم. ففي مثل هذه الحالات ـ كما ذكرنا ـ كانت السورة تنزل دفعة واحدة. وهذا آخر شيء يمكن ذكره بشأن التباين الموجود بين العبارتين، وطبقاً لهذا فإنّ آيات بحثنا أشارت إلى طريقتي النّزول بصورة جامعة كاملة.
ومع هذا فإنّه توجد هناك بعض الأُمور الإستثنائية لتفسير وبيان الإختلاف المذكور أعلاه، كماورد في الآية (32) من سورة الفرقان: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا).
الآثار العميقة لنزول القرآن التدريجي
صحيح أنّه كان للقرآن نزولان، طبقاً للرّوايات (بل لظاهر بعض الآيات): أحدهما: «نزول دفعي» مرّة واحدة في ليلة القدر على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآخر: «نزول تدريجي» في ثلاث وعشرين سنة، لكن بلا شك أن النّزول المعترف به الذي كان النّبي والناس يتفاعلون معه دائماً هو النّزول التدريجى للقرآن.
وهذا النّزول التدريجي بالذات صار سبباً لاستفهامات الأعداء: لماذا لم ينزل القرآن مرّة واحدة ويجعل دفعة واحدة بين أيدي الناس، حتى يكونوا أكثر إطلاعاً وتفهماً، فلا يبقى مكان للشك والريبة؟
ولكن ـ كما رأينا ـ فإنّ القرآن أجابهم جواباً قصيراً وجامعاً وبليغاً من خلال جملة (كذلك لنثبت به فؤادك)، فكلما تأملنا فيها أكثر تتجلى آثار النّزول التدريجي للقرآن أوضح.
1 ـ لا شك أنّ التشريعات إذا كانت تتنزل بشكل تدريجي تبعاً للحاجات، ويكون لكل مسألة شاهد ومصداق عينيّ، فستكون مؤثرة جدّاً من ناحية «تلقي الوحي» وكذلك «إبلاغ الناس».
مباديء التربية تؤكّد أنّ الشخص أو الأشخاص المراد تربيتهم ينبغي أن يؤخذ بأيديهم خطوة خطوة، فينظم لهم لكل يوم برنامج، ويسلكوا من المرحلة الأدنى التي شرعوا منها إلى المراحل الأعلى والبرامج التي تتدرج بهذه الكيفية تكون أكثر مقبولية وأعمق أثراً.
2 ـ إنّ هؤلاء المعترضين غافلون أساساً عن أنّ القرآن ليس كتاباً عادياً يبحث في موضوع أو علم معين، بل هو منهج حياتي للأُمة التي تغيرت به، واستلهمت منه في جميع أبعاد الحياة ولا تزال.
كثير من آيات القرآن نزلت في مناسبات تاريخية مثل معركة (بدر) و(أُحد) و (الأحزاب) و(حنين)، وبذلك سُنّت التشريعات والإستنتاجات من هذه الحوادث، ترى هل يصح أن تكتب هذه مرّة واحدة وتعرض على الناس!؟
بعبارة أُخرى: القرآن مجموعة من أوامر ونواه، أحكام وقوانين، تاريخ وموعظة، ومجموعة من الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة الأحداث التي كانت تبرز أمام مسير الأُمة الإسلامية، كتاب ـ كهذا ـ يبيّن وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في ميادين حياة الأُمة، لا يمكن أن ينظم ويُدوَّنَ دفعة واحدة.
و هذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر جميع بياناته وإعلاناته وأوامره ونواهيه ـ التي يصدرها في المناسبات المختلفة ـ دفعة واحدة من أجل تسيير الثورة، تُرى هل يعتبر هذا العمل عقلائياً!؟
3 ـ النّزول التدريجي للقرآن كان سبب ارتباط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الدائم والمستمر بمبدأ الوحي ممّا يجعل قلبه الشريف أقوى وإرادته أشدّ. ومن غير الممكن إنكار تأثيره في المناهج التربوية.
4 ـ من جهة أخرى فإنّ استمرار الوحي دليل على استمرار رسالة وسفارة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسوف لن يترك مجالا لوسوسة الأعداء لكي يقولوا: لقد بعث هذا النّبي ليوم واحد! ثمّ تركه ربه، كما نقرأ في التأريخ الإسلامي أن هذه الهمهمة ظهرت أثناء تأخر الوحي في بداية الدعوة، فأنزلت سورة (والضحى) لنفي ذلك.
5 ـ لا شك أنّه إذا كان مقرراً لمناهج الإسلام أن تنزل جميعها دفعة واحدة، فقد كان من اللازم أن تطبَّقَ دفعة واحدة أيضاً، لأن النّزول بدون تطبيق يُفقد النّزول قيمته، ومن المعلوم أن تطبيق جميع المناهج أعم من العبادات كالزكاة والجهاد، ورعاية جميع الواجبات والإمتناع عن كل المحرمات دفعة واحدة.. عمل ثقيل جدّاً قد يؤدي إلى فرار فئة كبيرة من الإسلام.
و بهذا يتبيّن أن النّزول التدريجي وبالتالي التطبيق التدريجي أفضل من جهات كثيرة و بعبارة أُخرى: إنّ أيّ واحد من هذه التشريعات في صورة النّزول التدريجي سيتم هضمه واستيعابه بصورة جيدة، وفي حالة تعرضه لبعض الاستفهامات يمكن طرحها والاجابة عليها.
6 ـ وفائدة اُخرى من فوائد النّزول التدريجي هو اتضاح عظمة وإعجاز القرآن، ذلك لأن في كل واقعة تنزل عدّة آيات كريمة تكون لوحدها دليل العظمة و الاعجاز، وكلما يتكرر تتجلى أكثر هذه العظمة وهذا الإِعجاز، فينفذ في أعماق قلوب الناس.
المصدر : الامثل للسيد مكارم الشيرازي