اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى : ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾
ما هو جواب هذا الاقسام؟
الجواب هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾
قضاءٌ محتوم لا مردَّ له، ولا دافع له، ولا مانع منه. ومن ذلك يتَّضح الغرض من القسم بمثل السماء المتعاظمة في الإحكام والارتفاع وبمثل البحر الزاخر بالأسرار والمحيط بالأرض، الغرض من القسم بمثل هذه الأقسام هو التأكيد على انَّ وعيده بإيقاع العذاب لا يعجزه انجازه، فهو لن يكون أعظم من خلق السماء.
الغرض من القسم هو أنْ يُؤخذ الوعيد الإلهي مأخذَ الجد
لا حظوا حينما يأتينا رجلٌ ضعيف وهو يُزبِد ويُرعِد ويتوعَّد فإننا لا نعبأُ بوعيده وقد نسخر منه، رغم أنَّه توعَّد بأمورٍ خطيرة فقال مثلاً: انَّه سيقتل، وسيُحرق، وسيفعل العظائم من الأمور، رغم ذلك لا يعتني السامع بوعيده بل ولا يُدير له بالاً، لماذا؟ لأنَّ المتوعِّد ضعيف، مُستحقَر، يعلم السامع انَّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً مما توعَّد به، فوعيده أشبه بالسراب في نظر السامع، لذلك لا يرعى له أهمية.
أما عندما يصدر الوعيد من رجلٍ قوي متنفِّذ له سلطان، وقد أثبتت التجارب أنَّ له الكثير من الأفعال الكبيرة والخطيرة، أليس من التعقُّل أن تأخذ وعيده مأخذ الجد؟ ألا تكون من الحمقى عندما لا ترعى أهميةً لوعيده؟
هذا ما أراد القرآن الإشارة إليه في هذه الآية، أراد القول بأنَّ الذي يتوعَّد بالعذاب هو خالق السماء، الذي يتوعد بالعذاب هو خالق البحر المسجور، الذي يتوعَّد بالعذاب هو الذي خلق هذا الكون بسعته بمجرَّاته بأفلاكه بنجومه بكواكبه. هذا هو مَن توعَّد بالعذاب. فهل يستطيع الإنجاز لوعيده أو لا يستطيع؟! لا ريب في انَّه يستطيع، فالذي استطاع فعل كلَّ ما هو عظيم عندما يتوعَّد أحداً بعذاب فثقوا أنَّه قادرٌ على أن يُنجز وعيده.
فانتبهوا أيُّها السادرون، أيُّها الغافلون، أيُّها المغرورون الحمقى، فإنَّ عذاب ربِّك واقع، ومَن سيدفعه؟!! ﴿مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾
عندما يتوعَّد القوي بأمرٍ نقول: إنَّ فوق قوتك قوةً تمنعك، سنستندُ وسنلجأ إلى مَن هو أقوى منك ليدفع عنَّا وعيدك. أما حينما يتوعَّد القويُّ الذي ليس فوقه قوي، فإنَّ وعيده يكون غير مدفوع، فليس من أحدٍ قادرٌ على أنْ يدفع وعيده، هكذا أرادت الآية أن تقول، ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾. فالذي يُمكن أن يُدفع وعيده بالعذاب هو من كان فوق قوته قوةٌ، فمثله يمكن دفع وعيده بتدخُّلِ تلك القوة، أما حينما يكون المتوعِّد بالعذاب هو أقوى من كلِّ قويٍّ على الإطلاق فلا تُدانيه قوة مهما تعاظمت بل انَّ كلَّ قوة فهي مستمدة من قوته فمَن يدفع وعيده عن أن يُنجزه؟!
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾.
يخدع الإنسانُ نفسه إذا توهَّم أنَّ قدرته لا حدود لها ولا تخوم
هنا ينبغي للعاقل أن تكون له وقفة تأمُّل. فالإنسان كثيراً ما ينتابه الغرور لذلك فهو يرتكب الكثير من الحماقات والأخطاء ويغفل عن ربِّه. يُحدِّثُ نفسه أنَّه حرٌّ له الاختيار في أن يفعل ما يُريد وأن يترك ما لا يُريد يُحدِّث نفسه انَّ له عقلاً واستعداداً ذهنياً يُؤهِّله أن يفعل الكثير في هذه الحياة، لذلك إذن فليس من قوةٍ أيَّاً كانت قادرةٌ على أن تستعبدني. هكذا يخدع نفسه بأنَّ قدرته لا حدود لها ولا تخوم، ولهذا يشعر بالكبرياء والاستعلاء، ليس السلاطين وحدهم الذين يُصابون بداء الاستعلاء والاستكبار. كثيرٌ من الناس من المثقفين منحوا الإنسان صفة الإله حيث قالوا: إنَّه قادرٌ على كلِّ شيء، ولا ينبغي أن يخضع لشيء، ولا أنْ يحدَّه شيء، ولا أن يحكمه شيء، هو يحكم نفسه بنفسه، هذا غرور، وهذا الغرور هو الذي يقود الإنسان إلى الهلاك.
قدراتك كلُّها ممنوحة
قدراتك التي بيدك كلُّها ممنوحة من قبل الله عز وجل، ولو شاء الله عز وجل في أي لحظةٍ لسلبها. كنْ أعقل الناس وأكثرهم علماً وقدرةً على حلِّ أكثر القضايا الرياضية تعقيداً، وكن أعلم الناس في الفيزياء، وفي الأحياء، في الفلك، وفي علوم الطبيعة، وكنْ أمهر الناس في الصناعة والهندسة، هل تملك أنْ لا تفقد هذه القدرة؟ أنت قد وضعت رأسك على الوسادة ليلاً وكان رأسك محشواً بكلِّ هذه العلوم، هل تملك أن تستيقظ وعقلك لا زال محشواً بكل هذه العلوم؟ أَلا يمكن أن تفقد عقلك أو ذاكرتك؟ ألم تُعلِّمنا الأيام أنَّ الكثير من الناس قد فقدوا ما كانوا يعلمون؟ يبيت أحدنا وهو عالم ثم يُصبح وهو غير قادر حتى على الكلام، يُصاب بجلطةٍ أوعارضٍ آخر فتمتحي ذاكرته بأكملها، هل يملك أن يسترجعها ؟! وقد يفقد ذاكرته دون عارضٍ ظاهر فلا يملك أن يسترجعها. فلماذا هذا الغرور الذي ينتاب الإنسان؟! ولماذا كلُّ هذا الكبر والاعتداد بالنفس؟!
ليس لقضاء الله تعالى دافع
فعذابُ الله إذا نزل بأحدٍ فليس له دافع، وإذا نزل قضاء الله فإنَّه ليس له دافع، ثم إنَّ الإنسان في مطلق شؤوناته ليس له من الأمر شيء، فهو حين وُلد لم يكن ذلك باختياره، ولم يكن باختيار أبيه، ولا باختيار أمه. وكذلك حينما يمَوت فإنَّ ذلك لا يكون باختياره، وهكذا فإنَّ تنقله من طورٍ إلى طور ومن مرحلة إلى أخرى لا يكون ذلك باختياره بل هو برعايةٍ تخفى على كلِّ أحد، ، فقد تتعطَّل عند الإنسان عملية النمو في لمحة بصر فيقد بدنه الأهلية على النمو فتُصبح أعضاؤه غير قابلةٍ للنمو، وثمة نماذج كثيرة في ذلك: يبدأ طبيعياً في نموِّه، فيكبر ويصل إلى سنِّ الثالثة مثلاً ثم يتوقَّف عنده النمو فلا يملك من أحدٍ أن يمنحه هذه الأهليَّة، لذلك يتوقَّف عند هذه المرحلة، وقد يموت في عمر العشرين وعقله وأعضاؤه تعمل بوظائف أعضاء ذي الثلاث سنين.
إذن فنموُّ أعضائك ليس باختيارك، ونموُّ عقلك ليس باختيارك، ونبضاتُ قلبك ليس باختيارك، وحركة الدورة الدموية في عروقك ليس باختيارك، أعصابك وعظامك ووظائف سائر أعضائك ليس شيء منها خاضع لاختيارك ورغبتك ثم بعد ذلك تقول: أنا أستطيع أن أفعل كلَّ شيء، أليس هذا غرور وغفلة واستخفاف بالنفس؟!
العاقلُ لا يعتدَّ بنفسه
لذلك فينبغي للإنسان العاقل أن لا يعتدَّ بنفسه، فهو وإنْ كانت لديه قدرات ولكنَّها ممنوحة ولا يملك الاحتفاظ بها، ولهذا ينبغي أن يظلَّ هاجس فقدانها أو فقدان بعضها حاضراً في ذاكرته فذلك هو ما سيدفعه إلى أن يسأل الله عز وجل أنْ يديمها له، فهذا الهاجس هو ما سيبعث في قلبه الشعور بالافتقار الدائم لله تعالى، فيلجأ إلى ربِّه ليس في طلب عطاياه وحسب بل يلجأ إليه في طلب أن لا يسلبه صالح ما أنعم به عليه، فقد يمنحُ اللهُ الإنسان الكثير من النعم إلا انَّ الأمر لا ينتهي عند ذلك فقد تُسلب منه تلك النعم، فالكثير من الناس يُمسي وهو يرفل في النعم ثم يجد نفسه بعد أن أصبح وقد سُلبت منه تلك الخيرات التي منحت له. ولذلك يحسن بالمؤمن أن يدعو دائماً بهذا الدعاء المأثور: "اللهم لا تسلبنا صالح ما أنعمت به علينا". هو أنعم عليك بالصحة، ولكنَّه قد يسلبها. وأنعم عليك بالعقل فترى نفسك مبجَّلاً محترماً بين الناس وإذا دخلت في محفلٍ قاموا لك إجلالاً، ويخشون من تجاوزك ويحسبون لك ألف حساب، وبعد يومٍ تُصبح معتوهاً مجنوناً يضحك عليك الصبيان. فهل تملك أن لا تفقد عقلك؟! فإذا فقد الإنسان عقله خرج إلى الطريق بلا ثياب، فصار محلاً لسخرية الأطفال وعبثهم، كلُّ إنسان فهو في معرض الوقوع في مثل هذه الحال، نسأل الله العافية.
وخلاصة الحديث هو أنَّ القرآن أراد أنْ يُشير هنا إلى أنَّه ليس من قوَّةٍ وإن تعاظمت قادرة على أنْ تدفع قضاء الله عزَّ وجل أو ترفعه: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾. فهو الذي يقضي بوقوع الضر على الإنسان لمصلحةٍ قد تخفى، وهو الذي يرفع عنه الضر إنْ شاء ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ﴾
سماحة الشيخ محمد صنقور
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين