اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المسألة
هناك شبهة أوردها أحد الملاحدة حول آية من القرآن، وملخَّص ما ذكره:
لكل هؤلاء أهديهم آية واحدة لتضرب بكل القرآن عرض الحائط بل و تسقطه أرضاً
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
دعونا نستعرض:
1- تنفي الآية أيَّ نوعٍ من أنواع التكاثر إلا التكاثر الجنسى وكأنَّه لا يمكن إلا بوجود صاحبة لإحداث عمليَّة الحمل فالمخاض والولادة ، وكأن الفكر الإلهي العلمي لا يعلم أنَّه يمكن التكاثر بلا جنس.
2- سقوط رهيب في استخدام المعاني فما حاجة من يستطيع خلق كلِّ شيء إلى صاحبة؟ أليس هذا تعارض واضح؟ كان يمكنه ان يخلق صاحبة لو أراد، ولو أراد هل كان سيُنجب الولد؟
3- يتعارض مع أبسط البديهيات في القرآن نفسه، فقد خلق الله -كما يقول القرآن- آدم من تراب بلا صاحبة بل وخلق عيسى بغير "صاحب" لمريم العذراء ثم يأتي بنفس المنطق الساذج لينكر ان يأتي الولد بغير "صاحبة"؟
فما هو جوابكم عن هذه الشبهة ؟
الجواب
الواضح من الشبهة المذكورة انَّ مثيرها لم يفهم مفاد الآية الشريفة ولم يكلِّف نفسه الوقوف على سياقها الذي وقعت فيه أو انَّه تعمَّد الإيهام للوصول إلى نتائج يرغب في الوصول إليها، وبقليلٍ من التأمل يتبيَّن انَّها نتائج ارتكزت على مقدِّماتٍ موهومة أو مزعومة لم تكن الآية الشريفة مقتضية لها.
فالآية أولاً لم تنفِ أنواع التكاثر وتحصره بالتكاثر الجنسي كما زعم المثير للشبهة، فكيف تنفي الآية أنواع التكاثر وقد سبق هذه الآية بآيةٍ واحدة قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
فهذه الآية المباركة سبقت الآيةَ مورد البحث بآية وهي تتحدَّث عن نوعٍ من أنواع التكاثر غير بالتكاثر الجنسي، ولو كلَّف هذا المثير للشبهة نفسه فلاحظ سياق الآية التي تحدَّث عنها لما توهَّم انَّ المراد منها نفيُ أنواع التكاثر ما عدا التكاثر الجنسي.
فالآية لم تكن إذن بصدد حصر التكاثر بالتكاثر الجنسي وإنَّما هي بصدد نفي ما زعمه بعض المشركين حيثُ نسبوا لله تعالى بنينَ وبنات بغير علم، قال تعالى قبل هذه الآية: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
فالآية بصدد نفي الولد عن الله جلَّ وعلا، وعنوان الولد في المتفاهم العرفي واللغوي يكون جزءً من والده ويتخلًّق عنه ويكون مسانخاً له في طبيعة تكوينه، فالآية المباركة تنفي أنْ يكون له تعالى ولد، والولد إمَّا أن يكون منفصلاً عن المتولِّد عنه مباشرةً وهذا ما نفته الفقرة الأولى من الآية وهي قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فكلُّ ما سوى الله تعالى فهو من خلقه وإبداعه فالعلاقة بينه وبين ما سواه من الموجودات هي علاقة الخالق والمخلوق ولا يصدق على المخلوق انَّه ولدٌ لخالقه، لأنَّه ليس منفصلاً عنه ولا هو جزءٌ منه ولا هو مسانخٌ له في طبيعة وجوده وتكوينه، فالفرض الأول وهو انْ يكون له ولدٌ منفصلٌ عنه تصدَّت الفقرة الأولى من الآية لنفيه، وبقي فرضٌ ثانٍ يُصحِّح -لو تمَّ- نسبة الولد لله تعالى وهو أنْ تكون له صاحبة ويكون بينهما نحوٌ من أنحاء التزاوج ينتج عنه انفصال ولد من هذه الصاحبة فيصحُّ حينذاك نسبة هذا الولد للطرفين، وهذا ما تصدَّت الفقرةُ الثانية لنفيه وهي قوله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ فأين هي دعوى مثير الشبهة انَّ الفكر الإلهي العلمي لا يعلم انَّه يمكن التكاثر بغير الجنس؟!!
فالآية أمام دعوى انَّ لله تعالى ولداً طرحت فرضيتين لا يصدق عنوان الولد إلا مع تحقُّق احداهما، فالولد لا يخلو إمَّا انْ يكون منفصلاً عن المتولِّد عنه مباشرةً أو منفصلاً عن طرفٍ آخر كانت بينه وبين الطرف الأول علاقة تزاوج، فلو لم يكن بينهما تزاوج فإنَّ الولد المنفصل عن الطرف الآخر لا تصحُّ نسبته للطرف الأول فلا يصدق عليه انَّه ولدٌ له، فالفرض الأول منتفٍ لأنَّ شيئاً ليس منفصلاً عن الله تعالى، فعلاقة كلِّ الأشياء به هي علاقةُ الخالق بمخلوقاته، فهو مُبدِعها وبارئها ولا يصحُّ للمخلوق أنْ يكون ولداً وأنْ يُسمَّى ولداً لخالقه، فلا يبقى سوى الفرض الثاني وهو أنْ يكون ولداً لطرفٍ آخر تكونُ بينه وبين الخالق جلَّ وعلا علاقة تزاوج، وهذا منفيٌّ لبداهة انَّ الله تعالى ليس له صاحبة، إذ انَّ الصاحبة والزوجة لا تكون إلا مسانخة ومماثلة لزوجها في طبيعة الخلق والتكوين، فلا يصحُّ ان يُقال لشيءٍ من مخلوقات الله له قابليَّة أنْ ينفصل عنه ولد -بحسب الفرض- لا يصحُّ أن يقال له صاحبة.
وبما ذكرناه يتَّضح انَّ ما اقترحه مثير الشبهة يُعبِّر عن عدم فهمه لمساق الآية وإلى أيِّ شيءٍ ترمي وما هو مورد الفرض فيها، فهو قد اقترح أنْ يخلق الله تعالى لنفسه صاحبة، وهو يرى انَّه بذلك قد نقض على الآية ما نفته من أنَّ لله صاحبة، وقد غفل هذا المسكين عن انَّ الله تعالى لو خلق صاحبةً فستكون شيئاً من مخلوقاته، وسيخلق لها -بمقتضى الفرض- القابلية لأنْ ينفصل عنها ولد، وهذا يقتضي التجسُّم والتركيب فلن تكون إذن صاحبة لأنَّها ليست مسانخة لله تعالى الذي نزَّه نفسه عن التجسُّم والتركب والشبيه بقوله في الآية التي سبقت الآية موردَ البحث: ﴿وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ فالصاحبة التي ينبغي أنْ يصدق عليها صاحبة يجب أن لا تكون مخلوقةً لله وأن تكون مسانخة له في وجوده منزَّهةً عن التجسيم والتركب وهذه لن ينفصل عنها ولد، والتي ينفصل عنها ولد ستكون شيئاً من خلقه تعالى وغير مسانخة له وهذه ليست صاحبة ومولودها سيكون خلقاً من خلق الله تعالى وليس ولداً لله تعالى.
فما اقترحه هذا المسكين يخرج بالبحث عن مورده وفرضه وهو أشبهُ شيءٍ بما لو قيل إنَّ زيداً لم نجد له زوجة فيُجاب لماذا لا يتزوَّج بهذه العصفورة؟! غافلاً عن أنَّ العصفورة لا يمكن أنْ تكون زوجةً للإنسان.
فكيف تكون لله تعالى صاحبة ثم لا تكون مسانخة له ولا منزَّهة عن مثل التجسُّم والتركيب؟!
وهل ستكون ذات ولد لو كانت منزَّهة عن ذلك؟!
فنفيُ الصاحبة عن الله تعالى مساوقٌ لنفي الشريك عنه، فكما لا يصحُّ أن يُقال لماذا لا يخلق الله لنفسه شريكاً؟ لانَّه لو خلق شريكاً لما كان شريكاً بل كان مخلوقاً مربوباً خاضعاً لخالقه فهو لا يصح أنْ يكون شريكا لله في الألوهية والربوبية والحال انَّ فوق قوته قوة قاهرة ، وتحدُّ إرادته إرادة خالقه ، فكما لا يصحُّ اقتراح أنْ يخلق الله لنفسه شريكاً كذلك لا يصحُّ اقتراح أنْ تكون له صاحبة، لأنَّها لن تكون صاحبة، إذ انَّ الصاحبة المفترضة إما انَّها ستكون قابلة للولادة وحينئذٍ لا تكون صالحة لأنْ تكون صاحبة لله تعالى بعد افتراض عدم مسانختها لله تعالى، وإما ان نفترضها جدلاً مسانخة لله تعالى وحينئذٍ لن تكون قابلة للولادة، فاقتراح المسكين لن ينتج الغرض -وهو ان يكون لله ولد- في كلا الفرضين، لأنَّ الصاحبة إنْ كانت قابلة للولادة فهي غير مسانخة لله تعالى فلا يصدق عليها حينذاك انَّها صاحبة إذ انَّ الصاحبة مسانخة لصاحبها ولهذا لن يكون مولودها ولداً لله تعالى، وإن كانت مسانخة -لو افترضنا ذلك جدلاً- فلن تكون قابلة للولادة فلن يكون ثمة ولد ننسبه لله تعالى.
وأما ما نقَضَ به على الآية بأنَّ الله تعالى يخلقُ بِلا صاحبة كما خلقَ آدم من ترابٍ بلا صاحبة وخلق عيسى لمريم العذراء بلا صاحب فقد تبيَّن ممَّا تقدَّم وهنُه، فإنَّ الله تعالى وإن كان قادراً على أنْ يخلق بلا صاحب وبلا صاحبة إلا انَّ مَن سيخلقه لن يكون ولداً له وإنَّما سيكون مخلوقاً له وهو خُلف الفرض، فالفرض في الآية بحسب دعوى المشركين انَّ لله تعالى ولداً، والمخلوق ليس ولداً، لذلك قال تعالى في ذات الآية رداً على دعوى انَّ له ولداً: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فكلُّ موجود افترضتموه ولدا لله فهو مخلوقٌ له تعالى ، وإذا كان مخلوقاً له كيف يصحُّ انْ يُسمَّى ولداً له؟! فالولد كما ذكرنا يكون جزءً من والده ومنفصلاً عنه ومسانخاً له والمخلوق ليس كذلك بالنسبة لخالقه.
ومما ذكرناه يتضح انَّ ما ادَّعاه مثير الشبهة من انَّ مفاد الآية يتعارض مع أبسط البديهيات في القرآن إنما نشأ عن قصورٍ فاضح في فهم مفاد الآية المباركة، فهي لا تنفي كما توهَّم قدرة الله تعالى على خلق ما يشاء دون صاحبٍ ودون صاحبة وإنَّما تنفي أنْ يكون شيءٌ من هذه المخلوقات ولداً له.
سماحة الشيخ محمد صنقور