السؤال : ما يقصد بالسر المستودع فيها ، أيّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) في النصّ المذكورة:
«اللّهم صلّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها ، والسرّ المستودع فيها بعدد ما أحاط به علمك »؟
الجواب : من سماحة السيّد علي الحائري
لم نعثر على النصّ المذكور أعلاه ، وإنّما المروي والمنقول نصّان حصل الخلط في سؤالكم بينهما:
أحدهما : نصّ للصلاة على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها بصيغة : « اللهم صلّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها بعدد ما أحصاه كتابك وأحاط به علمك » .
وليس فيها المقطع المسؤل عنه في السؤال ، أيّ « والسّر المستودع فيها »
ولا معنى له؟
ثانيهما : نصّ الدّعاء والتوسّل بهم الى اللّه تعالى بصيغة : « اللهم إنّي أسألك بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسّرّ المستودع فيها ».
وهذه الصيغة مروية عن الإمام الصادق (سلام اللّه عليه) حيث روي عنه أنّه قال إذا أردت أن تستخير اللّه تعالى وتطلب منه أن يهديك إلى الخير فيما تريد الإقدام عليه فقل : « اللهم أنّي ... الخ».
والمحور في كلا النصّين فاطمة (سلام اللّه عليها) ، وهذا يكشف عن عظمة مقامها ، وشموخ مرتبتها وموقعها عند اللّه تعالى.
وأمّا « السّرّ المستودع فيها » فلا يمكننا أن نعرف كنهه وحقيقته وإلّا لما كان سرّاً ، والذي يظهر لنا هو أنّ نوع السّرّ سرّ كامن في خلقتها وتركيبتها وتكوينها ، فهو سرّ مستودع فيها ، وليس عندها ؛ فإنّ من الأمور المتفق عليها في مصادر الشيعة ، وقد رويت في عدد من مصادر العامّة أنّ أصل مادّة بدن الصدّيقة الطاهرة الزهراء (سلام اللّه عليها) ليست من مادّة هذا العالم الدنيوي ، بل هي من الجنّة ومن أعلى أشجارها ، وأفضل ثمارها ، وأنّ جبرئيل (عليه السلام) أخذ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في معراجه إلى الجنّة إلى شجرة طوبى ، وأطعمه من ثمارها ، أو أهدي له وهو في الأرض من ثمارها ، فأكلها ، فتكوّنت نطفة فاطمة ، وحملت بها خديجة الكبرى (سلام اللّه عليها) وعلى ابنتها ، فقد روى السيوطي ذلك في « الدر المنثور» ، والطبراني في « معجمه »، والثعلبي في تفسيره ، وغيرهم من كبار علماء السنة ومحدّثيهم .
فالزهراء (سلام اللّه عليها) فريدة في تكوينها ، وعناصر جسدها الطاهر ، ومن الواضح ضرورة التناسب بين الجسد والروح ؛ فإنّ النفس والروح الإنسانية مثلاً لا تتناسب مع جسد الحيوان ، ولا يمكن أن تحلّ فيه ، بل لابدّ من تسوية الجسد ، وإعداده إعداداً خاصّاً ، ثمّ حلول الروح فيه ، قال تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } {الحجر/29} .
فالروح لا تحلّ إلّا في بدن تمّت تسويته في أحسن تقويم ، وإذا كان بدن الإنسان الاعتيادي مخلوقاً في أحسن تقويم فما ظنّك بالبدن الذي لم تؤخذ عناصره الأصلية من عالم الدنيا والمُلك ، بل أخذت من عالم الملكوت الأعلى كبدن الصّديقة الطاهرة (سلام اللّه عليها) ، وكيف ستكون النفس والروح التي تناسب مثل هذا البدن وتحلّ فيه؟ هذا هو السّرّ الذي لم يفهم الطبراني ، ولا السيوطي ، ولا الفخر الرازي ، ولا كلّ مَن روى منهم وكتب حديث خلق فاطمة من ثمار شجرة طوبى ، إنّ شجرة طوبى شجرة وحيدة منفردة ، وقد شاء اللّه تعالى أن يجعل أصل خلقه بنت سيّد أنبيائه ، وأمّ أوصيائه من أعلى ثمار هذه الشجرة الفريدة ، فما هي الروح المتناسبة مع هذا البدن التي اختارها اللّه لفاطمة (سلام اللّه عليها)؟
إنّها من أسرار اللّه تعالى التي لا نستطيع أن نفهمها ، ولكننا نفهم منها لماذا ورد أن ندعو اللّه تعالى فنقول :
« اللّهم إنّي أسألك بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها ».
نعم إنّ قضية الزهراء (سلام اللّه عليها) بهذا المستوى من العظمة والأهمية ، غاية الأمر أنّ كلّ إنسان يفهم منها بقدر عقله ، ومستوى فكره ، ومدى سعة إنائه ، لتقبّل حقائق هذا الكون ، فإنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها .
فبعضهم يفهم من الزهراء (سلام اللّه عليها) أنّها أمّ نموذجية أو زوجة مثالية ، أو قدوة لنساء العالم ، أو . أو .. وكلّ هذا إنّما هو على حدّ فهم وشعوره ، وعلى قدر عقله .
إلّا أنّ قضية الزهراء (سلام اللّه عليها) أعظم من كلّ ذلك بكثير ، فعند ما نبحث عن أسرار اللّه المودعة في الروح الفريدة للزهراء (سلام اللّه عليها) ذات التكوين الجسدي الفريد نصل إلى أن روحها خلقت من نور عظمة اللّه تعالى ، وهنا نصل الى قول الإمام الصادق (سلام اللّه عليها) :
« إنّما سمّيت فاطمة ؛ لأنّ الخَلق فُطموا عن معرفتها ».
فأنّى للخَلق أن يعرفوا فاطمة؟ ليس فقط « الناس » بل « الخلق » الذي يشمل « الإنس » و« الجنّ » و« الملائكة »، فالكلّ مفطومون وعاجزون وقاصرون عن أن ينالوا معرفتها . فأيّ شخصيّة هذه التي عَزَّ مقامها عن أن تنال الخلائق معرفتها؟ لابدّ لنا من أن نتأمّل في هذا الأمر ، بل ينبغي أن يتأمل في ذلك كبار مفكّري الإنسانيّة من أصحاب التفكير الراقي ، ويتساءلوا عن حقيقة هذه المسألة فمَن هي فاطمة؟ وماذا فيها من الغيب والسّرّ الذي جعلها ترتفع عن أن يعرفها أصحاب العقول الراقية؟ وأيّ سّر في شخصيتها فطم الخلق عن معرفته؟
إنّ قدر فاطمة (سلام اللّه عليها) مجهول عند أهل الارض وظلامتها أيضاً ، وسوف لا يعرف مقامها حتّى يكون يوم المحشر فيظهر اللّه ظلامتها ومقامها العظيم ، ويفتح لها اعتباراً غير محدود ، يأتيها جبرئيل فيقول لها : « سلي تعطين حاجتك » ،
ولا حدّ لهذه الحاجة ، إنّ حقيقةً كالحقيقة القائلة : إنّ الزهراء (سلام اللّه عليها) « حوراء إنسيّة » ، ليست مسألة بسيطة ، فهي في الوقت الذي هي إنسية ، ومن الناس ، ومن عالم المُلك والناسوت ، هي حوراء ، ومن الملكوت الأعلى ، ولا غرو و لا عجب في ذلك فعندما يكون نسيج البدن من أرقى ثمار الجنّة وأنقاها وأصفاها ، ويكون الأب خير الخلق ، والأمّ خير النساء فأيّ بدن طاهر سيكون هذا البدن؟ ثمّ الروح التي سترتبط بهذا البدن أيّ روح ستكون؟ إنّها روح الصدّيقة الطاهرة (سلام اللّه عليها) فهي ليست امرأة من النساء كما يتصوّر بعض الجهلة السطحيون في التفكير ، إنّها جوهر وناموس ، وسرّ وجود ، وقضية فوق ما نقدر عقولنا على استيعابه ، بل فوق ما تقدر أذهاننا على تصوّرة وإدراكه.
ولذا فهي « السّرّ » ، وفيها « السّرّ » ، ولا نعرف بالضبط ما هو هذا « السّرّ »؟ إنّ النبيّ الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى ، والذي يخضع الأنبياء كلّهم أمام قوله وفعله ، عند ما يقول عن شجرة طوبى وثمرتها :
« لم أرَ في الجنّة أحسن منها ، ولا أبيض ورقاً ، ولا أطيب ثمرة »
، ومعنى « لم أرَ » هو أنّه (لايوجد) ، وإلّا لرآه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فنطفة فاطمة (سلام اللّه عليها) جاءت من ثمره تلك الشجرة .
إذاً : فهذا يعني أنّ أصل بدن فاطمة هو أنقى ما في الكون ، فأيّ روح تناسب ذلك البدن تحلّ فيه؟
فعبارة « الحوراء الإنسية » هي العبارة المناسبة للتعريف بشخصية الزهراء (سلام اللّه عليها) مع ما في هذه العبارة من أسرار وغوامض .
إنّ خلق الزهراء (سلام اللّه عليها) من ثمر شجرة طوبى ، (التي ورد وصفها في مصادر العامّة ، وذكرها القرآن الكريم ، ووردت روايات كثيرة في مصادرنا ومصادر غيرنا في عظمتها ، وأنّها الأولى في الجنّة والأكبر ، ولها ميزات :
منها : أنّ جذعها ومغرسها وترتبها في قصر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في الجنّة .
ومنها : أنّ اللّه تعالى غرسها بيده ، وهذا كناية عن أنّ ملائكة اللّه بمَن فيهم كبار الملائكة كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل لا يصلون إلى مستوى غرس هذه الشجرة) يفتح نافذةً للبشر يتعرّف من خلالها على الظواء شخصيتها (سلام اللّه عليها) على أسرار ، ومغيّبات لا يعرف ولا يمكن أن يعرف كنهها.
هذا ما قد نفهمه من المقطع المذكور في السؤال: « والسّرّ المستودع فيها » أنّه سرّ كان لابدّ له من مقدمات : معراج النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، وتناوله لثمرة شجرة طوبى ، وتحوّل ذلك إلى نطفة ، وانعقادها في رحم تلك المرأة العظمة التي أعطت كلّ ما تملك ـ وهي من أثرى أثرياء قريش ـ لربّها ، وآمنت باللّه ، وصدّقت النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) حين كذّبه الناس ، والتي لم تدّخر لنفسها من مالها شيئاً حتّى الكفن الذين تكفن فيه ، فأنزل اللّه تعالى لها كفناً بواسطة جبرئيل ، هذه المرأة التي يقول اللّه تعالى لنبيّه في المعراج : « إقرأ خديجة عنّي السلام » ، كان لابدّ من هذه المقدمات ليتكوّن هذا البدن الذي يكون محلًّا لهذا السّر إنّها سرّ ، سرّ اللّه الأعظم ، فقد كان قلبها سرّاً ، وما في ذاك القلب كان سرّاً ، وألمها كان سرّاً ، ولونها كان سرّاً ، وما تحمّلته كان سرّاً ، وقدرها كان سرّاً ، ومقامها ما زال سرّاً ، فهي سرّ في سرّ ، وحتّى القبر الذي حوى جثمانها الطاهر سرّ ، صلوات اللّه وسلامه عليكِ يا مولاتي يا ممتحنة امتحنك اللّه الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة .
rafed.net