اللهم صل على محمد وآل محمدالطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال عز وجل في محكم كتابه الكريم:
(قَالَ أَرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ ءَالِهَتِى يـإِبْرهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً(46) قَالَ سَلاـمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً(47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُوا رَبِّى عَسَى أَلآَّ أَكُونَ بِدُعِآءِ رَبِّى شَقِيّاً(48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحـقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًَّ جَعَلْنَا نَبِيّاً(49)وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْق عَلِيّاً(50) سورة مريم
مرّت في الآيات السابقة كلمات إِبراهيم(عليه السلام) التي كانت ممتزجة باللطف والمحبّة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكلي تتضح الحقيقة والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما.
يقول القرآن الكريم: إِنّ حرص وتحرّق إِبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إِلى قلب آزر، بل إِنّه غضب لدى سماعه هذا الكلام، و (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إِبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً).
الملفت للنظر، أنّ آزر لم يكن راغباً حتى في أن يُجري إِنكار الأصنام أو مخالفتها وتحقيرها على لسانه، بل إِنّه قال: أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى لا تهان الأصنام! هذا أولا.
(أي أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام { يا إبراهيم } وتارك لها وزاهد فيها)
ثانياً: إِنّه عندما هدد إِبراهيم، هدده بالرجم، ذلك التهديد المؤكّد الذي يستفاد من لام ونون التوكيد الثقيلة في «لأرجمنَّك» ومن المعلوم أن الرجم من أشد وأسوء أنواع القتل.
ثالثاً: إِنّه لم يكتف بهذا التهديد المشروط، بل إِنّه اعتبر إِبراهيم في تلك الحال وجوداً لا يُحتمل، وقال له (اهجرني ملياً) أي ابتعد عني دائماً، وإِلى الأبد (كلمة «ملياً» ـ حسب قول الراغب في المفردات ـ أخذت من مادة الإِملاء، أي الإِمهال الطويل، وهي تعني هنا أن ابتعد عني لمدّة طويلة، أو على الدوام). (وقيل: ملياً سوياً سليماً عن عقوبتي)
وهذا التعبير المحقِّر جدّاً لا يستعمله إلاّ الاشخاص الاجلاف والقساة ضد مخالفيهم.
بعض المفسّرين لا يرى أن جملة «لأرجمنَّك» تعني الرمي بالحجارة، بل اعتقد أنّها تعني تشويه السمعة والإِتهام، إِلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً، وملاحظة سائر آيات القرآن ـ التي وردت بهذا التعبير ـ شاهد على ما قلناه.(الأمثل)
وكذلك ورد في الميزان قوله :والمعروف من معناه القتل برمي الحجارة
وذكر صاحب من هدي القرآن حول ذلك وأرجمنك اما بمعنى ان اقذفك بالحجارة كما يرجم مرتكبوا الكبائر ، وهو أشد أنواع الاعدام ، و اما بمعنى اني لأرجمنك بالضلالة فأقول إنك مارق ، أو أتهمك بتهمة كبيرة أمام المجتمع . و من سياق الآية يتبين أن المقصود هو المعنى الثاني للرجم و ليس الاعدام
لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إِبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإِلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة، و (قال سلام عليك).انتهى
السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدَّده بالرجم وطرده لكلمة حق قالها: قال تعالى:
{ وإذا مروا باللغو مرُّوا كراماً }وقال:{ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً }
وأما ما قيل: إنه كان سلام توديع وتحية مفارقة وهجرة امتثالاً لقوله: { واهجرني مليّاً }
ففيه أنه اعتزله وقومه بعد مدة غير قصيرة.(الميزان)
ويمكن أن يكون سلاماً يقال لفض النزاع، كما نقرأ ذلك في الآية (55) من سورة القصص: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).(الميزان)
لعل إبراهيم (عليه السلام) كان يريد أن يتبع تكتيكا آخر بعد أن وصلت مواجهته الصريحة مع أبيه الى طريق مسدود ، وهو أن يبحث عن وسائط خير يمكن أن يقنع الأب بدعوته الحقة ، وهذه الفكرة التي نستوحيها من الآية تفيدنا كثيرا في حياتنا العملية ، إذ أن كثيرا من الشباب الذين تنفتح بصائرهم على الهداية و الايمان يريدون أن ينقلوا تلك الهداية الى آبائهم أو أعمامهم أو اخوانهم الكبار ، ولكنهم غالبا ما يصطدمون بالحواجز التقليدية التي تحول دون تقبل هؤلاء ممن هم أصغر منهم سنا و تجربة ، فلا يكون أمام الأولاد إلا أن يلجأوا الى الطرق غير المباشرة فيبحثون عن أصدقاء أو معارف لآبائهم يشترط فيهم كبر السن و الوعي الثوري ، ليقوموا بدور الوسيط في تبليغ الرسالة
(من هدي القرآن)
قابل إبراهيم عليه السلام أباه فيما أساء إليه وهدّده وفيه سلب الأمن عنه من قبله بالسلام الذي فيه إحسان وإعطاء أمن، ووعده أن يستغفر له ربه وأن يعتزلهم وما يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليّاً.
وفي قوله تعالى:{ سأستغفر لك ربي } قيل فيه أقوال أحدها: أنه إنما وعده بالاستغفار على مقتضى العقل ولم يكن بعد قد استقرَّ قبح الاستغفار للمشركين
وثانيها: أنه قال سأستغفر لك ربي على ما يصح ويجوز من تركك عبادة الأوثان وإخلاص العبادة لله تعالى عن الجبائي
وثالثها: أن معناه سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا عن الأصم { إنه كان بي حفياً } أي باراً لطيفاً رحيماً
عن ابن عباس ومقاتل. وقيل: إن الله عوَّدني إحسانه وكان لي مكرماً. وقيل: كان عالماً بي وبما أبتغيه من مجالدتك لعله يهديك وقيل: معناه لعله يقبل طاعتي وعبادتي ولا أشقى بالرد فإن المؤمن بين الرجاء والخوف(مجمع البيان)
إِن إبراهيم عليه السلام في الواقع قابل خشونة وتهديد آزر بالعكس، ووعده بالإِستغفار وطلب مغفرة الله له. قال إبراهيم لأبيه سأطلب لك المغفرة من الله ، فهو يحبني و يبر إلي ، وكان إبراهيم في استغفاره يريد هداية أبيه ، كما جاء في آية أخرى ، فلما تبين له إن أباه لا يريد أن يهتدي وأنه مصر على الضلال تركه و شانه
وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا وعد إبراهيم آزر بالإِستغفار مع أنا نعلم أن آزر لم يؤمن أبداً، ولا يجوز الإِستغفار للمشركين طبقاً لصريح الآية (113) من سورة التوبة؟
في قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ والَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ(113)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَهِيمَ لاِبِيهَ إِلاَّ عَن مَّوعِدَة وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَهِيمَ لاََوَّهٌ حَليمٌ (114) }
نهت الآية الأُولى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين عن الإِستغفار للمشركين بلهجة قاطعة وحادة، فهي تقول: (ما كان للنّبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) ولكي توكّد ذلك قالت: (ولو كانوا أولي قربى).
ثمّ أنّ القرآن الكريم بيّن سبب ودليل هذا الحكم فقال: (من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم) فإنّ هذا العمل ـ أي الإستغفار للمشركين ـ عمل لا معنى له وفي غير محله، لأنّ المشرك لايمكن العفو عنه بأي وجه، ولا سبيل لنجاة من سار في طريق الشرك، إِضافةً إلى أن طلب المغفرة نوع من إظهار المحبة والإِرتباط بالمشركين، وهذا هو الأمر الذي نهى عنه القرآن مراراً وتكراراً.
ولما كان المسلمون العارفون بالقرآن قد قرأوا من قبل أن إِبراهيم استغفر لعمه آزر، ولذا فمن الممكن جدّاً أن يتبادر الى اذهانهم هذا السؤال: ألم يكن آزر مشركاً؟ وإِذا كان هذا العمل منهياً عنه فكيف يفعله هذا النّبي الكبير؟
لهذا نرى أن الآية الثّانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن القلوب، فقالت: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن أنّه عدوّ لله تبرأ منه).
وفي آخر الآية توضيح بأنّ إِبراهيم كان إِنساناً خاضعاً بين يدي الله عزَّوجلّ، وخائفاً من غضبه، وحليماً واسع الصدر، فقالت: (إِن إِبراهيم لأواه حليم).
إِنّ هذه الجملة قد تكون بياناً لسبب الوعد الذي قطعه إِبراهيم لآزر بالاستغفار له، لأنّ حلمه وصبره من جهة، وكونه أوّاهاً ـ والذي يعني كونه رحيماً طبقاً لبعض التفاسير ـ من جهة أُخرى، كانا يوجبان أن يبذل قصارى جهده في سبيل هداية آزر، حتى وإِن كان بوعده بالإِستغفار له، وطلب المغفرة عن أعماله السابقة.
ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة دليلا على أنّ إِبراهيم لخضوعه وخشوعه وخوفه من مخالفة أوامر الله سبحانه لم يكن مستعداً لأن يستغفر للمشركين أبداً، بل إِنّ هذا العمل كان مختصاً بزمان كان أمل هداية آزر يعيش في قلبه، ولهذا فإنّه بمجرّد أَن اتّضح أمر عداوته ترك هذا العمل.
اللهم صل على محمد وال محمد الابرار الاخيار