بيان خصوصيات فاطمة في القرآن -9-
فضائل بلا انتهاء
على ذلك، ولأجل أن نعرف عمق وسعة بحر الإمام علي(صلوات الله عليه) والسيدة فاطمة الزهراء(صلوات الله عليها) لابد أن نتوجه إلى هذا الكلام الإلهي:
﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾.
لو أن كل الأشجار يعمل منها أقلام ويأتي على بحر العالم سبع مرات، ويعمل منه حبر، والجن والإنس يعملون في الكتابة، ويحسبون فضائل السيدة فاطمة وأبيها وزوجها وأولادها (صلوات الله عليهم)، سبعة البحور تجف وتنتهي، أما بحر فضائلهم ليس له آخِر.
روايات أئمة الدين تطبق كلمات الله على الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم)، الإمام علي الهادي (صلوات الله عليه) يقول في جواب سؤال يحيى بن أكثم حول هذه الآية الشريفة:
﴿نحن كلمات الله التي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى﴾.
في حديث آخر عن الإمام العاشر جاء فيه:
﴿... ونحن كلمات الله التي لا تنفدُ ولا تدرك فضائلُنا﴾.
في اللغة ذكر لفظ ﴿الكلمة﴾ على الألفاظ المنظومة التي لها معانٍ مختلفة، بالتوجه إلى أن الأئمة الأطهار هم العلامات البازرة والنورانية للصفات الإلهية وترجمان لتلك الصفات، لذلك عُبِّر عنهم بكلمات الله تعالى.
على أن الله المتعال عبَّر عن هاتين الشخصيتين العظيمتين بالبحر، يظهر أن هذين البحرين عميقان جدا؛ لأن تعبيرات الله المنان دقيقة جدا ومحسوب لها، مثال ذلك، نحن بالنسبة لمراجع الدين والذين هم من حيث التقوى والعلم أفضل منا بكثير نسميهم آية الله العظمى، لكنهم إذا أرادوا أن يكتبوا لبعضهم البعض رسالة، لا يستخدمون هذه العناوين، بل يقولون فقط آية الله، يعني لا يأتون بعبارة العظمى؛ لأنهم بالنسبة لبعضهم ليسوا عظماء، الله المتعال أيضا لا يخاطب كل أحدٍ بكُبرى وعظمى، لكن بالنسبة لأمير المؤمنين(صلوات الله عليه) جاء الخطاب بـ﴿آية الله العظمى﴾و﴿حجته الكُبرى﴾كما في زيارته حيث نقول: ﴿السلام عليك يا آية الله العظمى﴾، و﴿السلام عليك يا حجة الله الكبرى﴾.
النكتة الأخرى التي نستفيدها من الآية هي أن الله تعالى لم يقل إنَّ الإمام علي(صلوات الله عليه) والسيدة فاطمة الزهراء(صلوات الله عليها) بحر في ماذا، يعني لم يقل مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ علماً، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ إيماناً، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ زهداً، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ عصمةً، أو جهاداً...، بل فقط قال:
﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾،
بمعنى أنه يريد القول: بحران بصورة مطلقة، بمعنى أن الإمام علي(صلوات الله عليه) والسيدة الزهراء(صلوات الله عليها) بحر من العلم والإيمان والزهد والرضا والعرفان والتقوى والصبر والحلم والسخاء والشجاعة وكل نوعٍٍ من الكمالات، بحران عميقان وبلا انتهاء.
شمَّة من علم الإمام علي
يشير القرآن إلى بحر علم الإمام علي(صلوات الله عليه) ويقول:
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾.
﴿إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ فُسِّر بالوجود المقدس لأمير المؤمنين(صلوات الله عليه)، حيث لديه علم كل شيءٍ في العالم، كما صرح في روايات أهل البيت (عليهم السلام) بهذه المسألة.
عن عمار بن ياسر قال: كنت عند أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في بعض غزواته، فمررنا بواد مملوء نملا،
فقلت: يا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ترى هل يكون أحد مِنْ خلق الله تعالى يعلم عدد هذا النمل؟
قال: نعم يا عمار، أنا أعرف رجلا يعلم عدده، وكم فيه ذكر وكم فيه أنثى.
فقلت: من ذلك الرجل يا مولاي؟
فقال: يا عمار ما قرأت في سورة يس: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾.
فقلت: بلى يا مولاي.
فقال: أنا ذلك الإمام المبين.
لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله): ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾،
قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يا رسول الله هو التوراة؟
قال: لا.
قالا: فهو الإنجيل؟
قال: لا.
قالا: فهو القرآن؟
قال: لا.
قال: فأقبل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هو هذا، إنه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كل شيء.
نقل العالم الكبير لعالَم التشيع المرحوم السيد مرتضى علم الهدى ، أنه ذات يوم ذهب قنبر إلى منزل أمير المؤمنين(صلوات الله عليه)، ما إن سمعت فضة خادمة السيدة الزهراء(صلوات الله عليها) دق الباب، حتى سألت من بالباب؟ عرّف نفسه قنبر
وقال: جئت إلى أمير المؤمنين(صلوات الله عليه)،
قالت فضة: ﴿إن المولى عرَجَ إلى السماء ذات البروج لتقْسيم أرْزاق العباد﴾؛ تعجب قنبر من كلامها وهو يظن بأنها تمزح بهذا الكلام، وذهب، وهو في الطريق رأى أمير المؤمنين(صلوات الله عليه) في إحدى المزارع،
قال: ذهبت لك المنزل، وقالت لي فضة كذا وكذا وشكا له ما قالت،
الإمام أمير المؤمنين(صلوات الله عليه) قال: ﴿مَهْ يا قَنْبرُ. ولعلّك لمْ تُؤْمِن بولايتنا حقَّ الإيمان؟﴾؛ عندئذٍ قال له أمير المؤمنين(صلوات الله عليه): تقدم إلى الأمام، تقدم قنبر إلى الأمام، مسح الإمام علي(صلوات الله عليه) بيده المباركة على عينيه
وقال له: ما ترى؟
نظر قنبر نظرة فقال: ﴿رأيت السماوات والأرض كجوزة في يد المولى﴾.
يقول الإمام: نحن هكذا؛ عندما تقول فضة إن الإمام علي(صلوات الله عليه) ذهب إلى السماء لتقسيم أرزاق العباد هذا الأمر صحيح فعلا، نحن لدينا هكذا إحاطة علمية بكل الوجود.
من هذه القضية يُعرف أن معرفة فضة أعلى من قنبر، لأن قنبر كان يعمل في الخارج، لكن فضة في الداخل، هي في جنب السيدة الزهراء(صلوات الله عليها) وفي خلوة معها، وهكذا حصلت على رشد وكمال، ولذلك فهي طيلة عشرين سنة لم تتحدث بغير القرآن.
فضة صاحبة علم الكيمياء
في مورد شهرتها بفضة هكذا ينقل:
روي لما جاءت فضة إلى بيت الزهراء (صلوات الله عليها) لم تجد هناك إلا السيف والدرع والرحى، وكانت بنت ملك الهند، وكانت عندها ذخيرة من الإكسير، فأخذت قطعة من النحاس وألانتها وجعلتها على هيئة سبيكة، وألقت عليها الدواء وصنعتها ذهبا، فلما جاء أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وضعتها بين يديه،
فلما رآها قال: أحسنت يا فضة، لكن لو أذبت الجسد لكان الصبغ أعلى والقيمة أغلى.
فقالت: يا سيدي تعرف هذا العلم؟
قال: نعم وهذا الطفل يعرفه - وأشار إلى الحسين (صلوات الله عليه) -، فجاء وقال كما قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
فقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): نحن نعرف أعظم من هذا، ثم أومأ بيده فإذا عنق من ذهب وكنوز الأرض سائرة.
ثم قال: ضعيها مع أخواتها، فوضعتها فسارت.
في كلام نوراني آخر للإمام جعفر الصادق (صلوات الله عليه) يقول:
﴿... قال: إن الله قال في موسى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً﴾ولم يقل: كل شيء.
وقال في عيسى: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾، ولم يقل: كل شيء.
وقال في صاحبكم(أمير المؤمنين):﴿كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾﴾.
علم السيدة فاطمة الزهراء
السيدة فاطمة(صلوات الله عليها) مثل الإمام علي(صلوات الله عليه) بحر مطلق أيضا، هذان الإثنان في كل الفضائل والكمالات متساويان، لأجل الوصول إلى معرفة العلم غير المحدود للسيدة الصدّيقة الطاهرة(صلوات الله عليها) من خلال قضية جميلة جرت بينهما تستحق الاهتمام، عمار بن ياسر الذي هو شاهد فيها ينقلها هكذا:
ذات يومٍ ذهب الإمام علي(صلوات الله عليه) عند السيدة فاطمة(صلوات الله عليها)،
عندما رأته قالت:﴿أُُدنُ لأُحدّثك بما كان وبما هو كائنٌ، وبما لم يكن إلى القيامة حين تقومُ الساعة﴾.
قال عمار: فرأيت أمير المؤمنين(صلوات الله عليه) يرجع القهقرى؛ فرجعت برجوعه إذ دخل على النبي (صلى الله عليه وآله).
فقال له: أُدن يا أبا الحسن فدنا، فلما اطمأن به المجلس قال له: تحدثني أم أحدثك؟
قال: الحديث منك أحسن يا رسول الله.
فقال: كأني بك وقد دخلت على فاطمة وقالت لك كيت وكيت فرجعت.
فقال علي (صلوات الله عليه): نور فاطمة من نورنا؟
فقال (صلى الله عليه وآله): أولا تعلم؟
فسجد علي شكرا لله تعالى.
قال عمار: فخرج أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وخرجت بخروجه فولج على فاطمة (صلوات الله عليها) وولجت معه،
فقالت: كأنك رجعت إلى أبي (صلى الله عليه وآله) فأخبرته بما قلته لك؟
قال: كان كذلك يا فاطمة.
فقالت: اعلم يا أبا الحسن أن الله تعالى خلق نوري وكان يسبح الله جل جلاله، ثم أودعه شجرة من شجر الجنة فأضاءت، فلما دخل أبي الجنة أوحى الله تعالى إليه إلهاما أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة، وأدرها في لهواتك، ففعل، فأودعني الله سبحانه صلب أبي (صلى الله عليه وآله)، ثم أودعني خديجة بنت خويلد، فوضعتني وأنا من ذلك النور أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، يا أبا الحسن! المؤمن ينظر بنور الله تعالى.
عدة نكات مهمة في هذا الحديث
أولا: إن الأمور التي تتحقق بالنسبة للأمور التي لا تتحقق قليلة جدا. إن كلام السيدة الزهراء(صلوات الله عليها) يعني أن لديها يداً على الخزانة الإلهية، وأي شيءٍ من أمور العالم التي سوف يترك فعلها مطلعة عليه، وكذلك الأمور التي لابد أن تثبت معلومة وواضحة لديها.
ثانيا:﴿ما لم يكن﴾هو فوق اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات، لأن ما لم يكن يعني العلم بالبداء، على أن الأنبياء الإلهيين (عليهم السلام) لديهم بعض ألواح العلم، لكن هل سيحدث بداء لوقوع أمرٍ أم لا، ليس لديهم اطلاع على ذلك، أما السيدة الزهراء(صلوات الله عليها) لديها اطلاع على هذه الأمور أيضاً.
نقرأ في الزيارة الجامعة:
﴿السلام عليكم يا خزان العلم ومنتهى الحلم وأصول الكرم وقادة الأمم﴾.
يعني أنتم خزانة علم الله، بل أعلى من ذلك:
﴿السلام على عيبة علمه﴾ .
لماذا الإمام علي(صلوات الله عليه) يظهر عدم علمه في الرواية السابقة؟ الجواب على هذا السؤال يُتصوَّر في بيانين:
أولا: إن قصد الإمام من ذلك بهذا العمل أن يعرِّف مقام وفضيلة وشأن السيدة الزهراء(صلوات الله عليها)؛ ولذلك رجع القهقرى، وذهب إلى محضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يعرف الناس مقام السيدة فاطمة(صلوات الله عليها).
ثانياً: إن الأئمة (عليهم السلام) لديهم علمان: علم إرادي وعلم ذاتي، بالنسبة لعلمهم الإرادي في أي وقت شاؤوا أن يعلموا يعلموا.
المرحوم الكليني في كتابه(أصول الكافي) له باب تحت عنوان﴿إذا شاؤوا أن يعلموا علموا﴾وطرح فيه روايات في هذا الشأن.
هذا العلم مرتبط بمقام إمامة الأئمة (عليهم السلام)، أما العلم الذاتي مرتبط بمقام النورانية للأئمة (عليهم السلام)، مقام النورانية مساوٍ مع مقام المعرفة الإلهية ومقام المعرفة، بمعنى أنه إذا عرف شخص الله تعالى، فقد عرف مقام نورانيتهم، وكل شخص يعرف الأئمة (عليهم السلام) بمقام النورانية فقد عرف الله تعالى، ولذلك هي معرفة واحدة ليست اثنتان، ولذلك لم يُرد الإمام علي(صلوات الله عليه) أن يستفيد من علم مقام النورانية وعلم الإمامة، ولذلك رجع القهقرى.
