أوّل ما يُسأل عن المرء: أين كانت نَبتتُه ؟ يعني مَن هو أبوه ومَن هي أُمّه، ومَن تكون أسرته ؟ فإذا سُئل عن الصدّيقة الزهراء ـ وهي أشهر مِن أن يُسأل عنها ـ سبق الجواب: إنّها ابنةُ سيّد الوجود والكائنات وسيّد الأنبياء والرسُل والأولياء، محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله. وابنةُ خديجة الكبرى أمّ المؤمنين، وأطيب زوجا سيّد المرسلين، وجدّة الأئمّة الطاهرين،
المُلقَّبة في الجاهلية بـ « الطاهرة »، والمنحدرة من سلالة إبراهيم الخليل عليه السلام، والسائرة على دين الحنيفيّة على ملّته هي وأسرتها مع آل أبي طالب وأُسرته، وهي تلتقي في نسبها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله في الجدّ الرابع، وهو قصيّ.. فنسَبُ النبيّ صلّى الله عليه وآله هكذا: محمّد بن عبدالله بن عبدالمطّلب بن هاشم بن عبدمَناف بن قصي بن كلاب بن مرّة...، ونسب خديجة رضوان الله عليها هكذا: خديجة بنت خُوَيلد بن أسد بن عبدالعُزّى بن قصي بن كلاب بن مرّة...
ولم تقتصر الصدّيقة فاطمة على مقام البُنوّة مِن سيّد الكون المصطفى صلّى الله عليه وآله، حتى صارت ( أُمَّ أبيها ) كما روى ابن شهرآشوب في ( مناقب آل أبي طالب 357:3 )، والإربلّي في ( كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 462:1 ).
وهنا يُطرَح التساؤل التالي:ما وجه تكنيتها بـ « أُمّ أبيها » ؟
الجواب ـ كما بيّنه الشيخ الرحماني في كتابه ( فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى ص 204 ـ 205 ) ـ:
لعلّ وجه تكنيتها بـ « أُمّ أبيها »هو أنّه صلّى الله عليه وآله يعاملها عليها السلام معاملةَ الولد أُمَّه، وأنّها تعامله معاملةَ الأمّ وَلَدَها، كما أنّ التاريخ يُؤيّد ذلك والأخبار تعضده.
نقل المولى الأنصاري في ( اللُّمعة البيضاء ص 50 ) أنّ النكتة في هذه التكنية هي محضُ إظهار المحبّة، فإنّ الإنسان إذا أحَبَّ ولده قال في خطاب المؤنث: يا أُمّاه، وفي خطاب المذكّر: يا أباه، تنزيلاً لهما بمنزلة الأُمّ والأب في المحبّة، كما هو معروف في العادة والعُرف.
أو أنّ الله عزّوجلّ ـ والكلام هنا للرحماني ـ لَمّا شرّف أزواج النبيّ صلّى الله عليه وآله وكرّمهنّ بتكنيتهنّ بأُمّهات المؤمنين، صِرْن في معرض أن يخطر ببالهنّ أنهنّ أفضل من كل النساء حتّى من بَضعة المصطفى فاطمة عليه وعليها السلام، لأجل ذلك كنّاها أبوها بـ « أُمّ أبيها »؛ صوناً من هذه الخواطر والوساوس...
ويمكن أن يراد بهذه التكنية معنىً أدقُّ وأعمق.. وهو: أنّ أُمّ كلِّ شيءٍ أصله ومجتمعه ـ كما صرّح بذلك أهل اللغة ـ كأمّ الكتاب، وأُمّ القرى ( مكّة ).. فعليه يمكن أن يُقال: إنّه صلّى الله عليه وآله أراد أن يقول بأنّ ابنته فاطمة هي أصل شجرة الرسالة وعنصرُ النبوّة.
روى عبدالرحمان بن عوف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: « أنا شجرة، وفاطمةُ أصلها، وعليٌّ لُقاحها، والحسن والحسين ثمرها »
( ميزان الاعتدال للذهبي 234:1 ـ ط القاهرة، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني الشافعي 507:3 ـ ط مصر،
المستدرك للحاكم النيسابوري الشافعي 160:3 ـ ط حيدرآباد الدكن بالهند، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي الحنفي:61 ـ ط الغري ).
وجاء عن الإمام الباقر عليه السلام أيضاً قوله: « الشجرةُ الطيّبة رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، وفرعُها عليٌّ عليه السلام، وعنصرُ الشجرة فاطمةُ عليها السلام، وثمرتها أولادُها، وأغصانها وأوراقها شيعتُها »
( مجمع البحرين للطريحي 343:3 ـ مادّة شَجَرَ ).
وهنا يعلّق الشيخ الرحماني قائلاً: كما أنّه لولا العنصر ليبست الشجرة وذهبت نضرتها، كذلك لولا فاطمة لَما اخضرّت شجرة الإسلام، فإنّ الشجرة تسمو وتنمو بتغذيتها من أصلها ).
وهي ـ إلى ذلك ـ:
سيّدةُ نساء المؤمنين، وسيّدة نساء أهل الجنة، وسيّدةُ نساء العالمين من الأوّلين والآخِرين، والمُلقَّبة بـ: البتول، والمحدَّثة، والطاهرة، والمباركة، والصدّيقة الكبرى، والزهراء، والراضية المَرْضيّة. وهي صلوات الله عليها أحد أصحاب الكساء وآية التطهير، ومَن نزلت فيهم: آيةُ المباهلة، وآية مودّة القُربى، وآيةُ الإطعام، وآية الإيثار، وهي المزوَّجة من أمير المؤمنين عليه السلام بأمرٍ من الله تعالى حيث لم يكن لها إلاّ هو سلام الله عليه كُفؤ.. إلى ما لا يُحصى من الفضائل والأفضليات، والمناقب والمآثر والكرامات.
هذا بعضُها
• فهي المختارة على النساء جميعاً من قِبل الله جَلّ وعلا، لِما جاء في ( زين الفتى ) للحافظ العاصمي ـ أحد علماء السنّة ـ أنّ
النبيّ صلّى الله عليه وآله قال لعليٍّ عليه السلام:
«إنّ الله عزّوجلّ أشرف على الدنيا فاختارني منها على رجال العالمين، ثمّ اطّلع الثانيةَ فاختارك على رجال العالمين، ثمّ اطّلع الثالثةَ فاختار الأئمّةَ مِن وُلْدِك على رجال العالمين، ثمّ اطّلع الرابعةَ فاختار فاطمةَ على نساء العالمين »
( عنه: الغدير للأميني:43 ـ ط أمير كبير سنة 1362 ).
وفي ( تاريخ بغداد 259:1 ) روى الخطيب البغدادي
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قولَه:
«ليلةَ عُرِج بي إلى السماء رأيتُ على باب الجنّة مكتوباً: لا إلهَ إلاّ الله، محمّدٌ رسول الله، عليٌّ حبيب الله، والحسن والحسين صفوة الله، فاطمةُ خِيرَةُ الله، على باغضِهم لعنة الله».
• ومن كراماتها أنّ حُبَّها ومعرفتها من موازين الارتقاء، فقد نقل الكشفيّ في ( المناقب المرتضويّة:97 ـ ط بمبئي الهند ) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال:
«إنّ الله له الحمد عَرَض حُبَّ عليٍّ وفاطمة وذريّتها على البريّة فَمَن بادر منهم بالإجابة جعَلَ منهم الرسل، ومَن أجاب بعد ذلك جعَلَ منهم الشيعة، وإنّ الله جمَعَهم في الجنّة».
• وفي ( بحار الأنوار 105:43 / ح19 ) روى الشيخ المجلسي عن ( أمالي الطوسي ) أنّه جاء في ضمن حديثٍ للإمام الصادق عليه السلام قوله: « وهي الصدّيقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرونُ الأُولى ».
وقد قال الشاعر:
« نحنُ حُجَجُ الله على خَلْقه، وجَدّتُنا ( فاطمة عليها السلام ) حُجّةُ الله علينا »
( تفسير أطيب البيان 226:13 )،
كما جاء هذا التوقيع الشريف من الناحية المقدّسة الإمام المهدي صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين هذه العبارة المباركة: « وفي آبنةِ رسول الله صلّى الله عليه وآله لي أُسوةٌ حَسَنة »
( بحار الأنوار 179:53 / ح 9 ـ عن: الاحتجاج للطبرسي أبي منصور أحمد بن علي:253،
والغَيبة للشيخ الطوسي:185 ).
• ومن عوالي فضائلها ما أنزل الله تعالى مِن قرآنٍ في حقّها وأهل بيتها، نختار هذه الشذرات من تلك العشرات من الآيات:
• إهْدِنَا الصِّراطَ المستقيم [ الفاتحة:6 ]..
عن جابر الأنصاريّ: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « إنّ الله جعَلَ عليّاً وزوجته وأبناءَه حُججَ الله على خَلْقه، وهم أبواب العِلم في أُمّتي، مَنِ آهتدى بِهِم هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم »
( شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني الحنفي 58:1 ).
وعنه أيضاً: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
« إهتَدُوا بالشمس، فإذا غابت الشمسُ فاهتدوا بالقمر، فإذا غاب القمر فاهتدوا بالزُّهرة، فإذا غابت الزهرة فاهتدوا بالفرقَدَين »،
فقيل: يا رسول الله، ما الشمس وما القمر وما الزهرة وما الفرقدان؟ قال: « الشمس أنا، والقمر عليّ، والزهرة فاطمة، والفرقدان الحسن والحسين »
( شواهد التنزيل 59:1 ).
وفي ( الدر المنثور 147:1 ـ ط بيروت )
في ظلّ قوله تعالى: « فَتَلقّى آدَمُ مِن ربّهِ كلماتٍ فتابَ عليه »
روى السيوطي الشافعي عن ابن عباس قال:
سألتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكلمات التي تلقّاها آدمُ من ربّه فتاب عليه،
قال: « سألَ بحقِّ محمّدٍ وعليٍّ وفاطمةَ والحسن والحسين إلاّ تُبتَ عَلَيّ، فتاب عليه ».
وفي ( ذخائر العقبى في مناقب ذوي القُربى:24 ) روى مؤلّفه المحب الطبري عن أبي سعيد الخُدْري قال:
لَمّا نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفُسَنا وأنفسَكُم ثمّ نبتهلْ فنجعَل لعنةَ اللهِ علَى الكاذبين [ سورة آل عمران:61 ]،
دعا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: « اَللهمّ هؤلاءِ أهلي »
أخرجه مسلم والترمذي في صحيحيهما.
وفي ( مناقب عليّ بن أبي طالب:317 / ح 361 ) روى ابن المغازلي الشافعي عن موسى بن القاسم، عن عليّ بن جعفر الصادق عليه السلام قال:
سألت أبا الحسن ( الكاظم ) عليه السلام عن قول الله عزّوجلّ كمِشْكاةٍ فيها مِصباح قال: « المِشكاةُ فاطمة، والمصباحُ الحسن والحسين.. ».
وروى المحبّ الطبري في ( ذخائر العقبى:24 ) عن أبي سعيد الخدري في
قوله تعالى: إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيتِ ويُطَهِّرَكُم تَطهِيراً [ الأحزاب:33 ] قال:
نزلت في خمسة: ـ في رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعليٍّ وفاطمة، والحسن والحسين. أخرجه أحمد بن حنبل في ( مناقب الصحابة )، والطبرانيّ في ( المعجم ).
وفي ( الكشّاف 467:3 ) قال الزمخشري: إنّه لَمّا نزلت الآية:
قُل لا أسألُكم عَليهِ أَجْراً إلاَّ المودةَ في القُربى [ الشورى:23 ]
قيل: يا رسول الله، مَن قرابتُك هؤلاءِ الذين وَجَبَت علينا مودّتُهم ؟
قال: « عليٌّ وفاطمةُ وآبناهما ».
وفي (الدرّ المنثور 697:7 ـ ط بيروت ) قال السيوطي الشافعي: أخرج ابن مَردَوَيه عن ابن عبّاس في قوله تعالى: مَرَجَ البحرَينِ يَلتَقيان
قال: عليٌّ وفاطمة، بينَهُما بَرْزَخٌ لا يُبغيان قال: النبيّ صلّى الله عليه وآله، يَخرُجُ مِنْهُا اللُّؤلُؤُ والمَرجان قال: الحسن والحسين.
وعن ابن عبّاس أيضاً في قوله تعالى:
ويُؤْثِرونَ عَلى أنْفُسِهِم ولَو كانَ بِهِم خَصاصة [ الحشر:9 ]
قال: نزلَتْ في عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين ( شواهد التنزيل 247:2 ).
وفي ظلّ قوله تعالى:
ويُطْعِمُون الطَّعامَ علَى حُبِّهِ مِسكيناً ويتيماً وأسيراً [ الإنسان:8 ]
قال أبو الفضل شهاب الدين الآلوسي الشافعيّ أحد مفسّري السنّة المعروفين في تفسيره ( روح المعاني 58:29 ـ ط بيروت ):
ماذا عسى أن يقول امرؤٌ فيهما
( في عليٍّ وفاطمة صلوات الله عليهما ) سوى أنّ عليّاً مولى المؤمنين ووصيُّ النبيّ، وفاطمةُ البَضعةُ الأحمديّة والجزء المحمّدي،.. وليس هذا الرفض، بل ما سواه عندي هو الغيّ. ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنّه سبحانه لم يذكر في هذه السورة الحُورَ العِين، وإنّما صرّح عزّوجلّ بِوُلْدانٍ مُخلَّدِين؛ رعايةً لحُرمة البتول، وقُرّةِ عين الرسول.
وأخــــــــيــــــــــــراً
نقول: تلك بعض مناقب فاطمة البتول والصدّيقة الكبرى صلواتُ الله عليها، حيّرت العقولَ والألباب، وأذهلتِ الأفهام، وأوقفت التاريخ ليسجدَ على أعتابها خاضعاً مُسلِّماً مُذعناً أن ليس في الوجود كلّه امرأة كفاطمة، فأولى بكلّ مسلم أن يفتخر ببضعة رسول الله ويعلنَ فضائلها وأفضليّاتها، ويتحدّى الأجيال سابقةً ولاحقةً هاتفاً بها: