المريضة المعافاة: فاطمة الاستانيستي. العمر: 29 سنة، من منطقة كلات نادري. الحالة المرضيّة: سرطان الدم، شلل، تعفّن الكليّة. تاريخ الشفاء آذار1994.
نظرَتْ في المرآة.. فأبصرت صورة حُطام امرأة معذَّبة. إنّها ليست صورتها! وجه شاحب اللون، متغضِّن.. وتحت العينين أخدود مستطيل يتوسّط منطقة هي أقرب إلى السواد. وبدت صورة المرأة في المرآة أكبر من عمرها هي بكثير.
أطلقت زَفرةً مُلْتاعة، وأدارت ظهرها عن المرآة، ففاجأتها مرآة أخرى منتصبة أمامها. ارتدّت على أعقابها في حيرة! ثَمّة مرآة ثالثة تعكس صورتها المرتبكة. أرادت أن تتخلّص من المرآة.. فأخذت تدور في مكانها. المرايا في كلّ الجهات.. في الجهات الأربع! واه.. لَكأنّها سجينة محاصرة بالمرايا! وشعرت أن المرايا تدنو منها. تدنو منها باستمرار، ولحظةً بعد لحظة يضيق عليها الحصار. تتكاثر الصورة في المرايا وتتعدّد في كلّ اتّجاه.
عزمت على الفرار والخلاص من هذا العذاب الغريب. اقتحمَتْ إحدى المرايا.. وغابت وراءها. لم تتكسّر المرآة! لكنّها خرجت من حصار لتدخل في حصار! راحت صورتها المتكاثرة في المرايا الجديدة تضحك عليها باستهزاء. كانت مضطربة تتعذّب. شيء لا يُصدَّق. أرادت أن تصرخ من الأعماق. وقبل أن تفجّر صرختها.. امتدّت من كلّ مرآة حولها يد، وراحت تضغط على حنجرتها بشدّة.. والمرايا ما تزال تقترب منها حتّى لاصقت جسدها. لم تَعُد تبصر في المرايا حتّى صورتها. استولى عليها رعب لا عهد لها به مِن قبل. رعب من نوع جديد. وأحسّت أنّ روحها تكاد تخرج مُندلقةً من عينيها. ولا تدري لماذا أغمضت عينيها.. فوجدت نفسها مستغرقة في ظلام مُطبِق عميق.
تَسمَّعتْ إلى وقع أقدام منتَظَم يقترب منها. وعلى حين غَرّة.. صَمَّ أُذنَيها صوت مرايا تتكسّر وتتحطّم على الأرض شظايا. فتحت جفنَيها: ضياء في كلّ مكان..
وسفع عينيها ضياء ثاقب. إنّ شخصاً قد صار الآن على مقربة منها! شخصاً غير مرئيّ.. مستغرقاً في محضر الضوء والنور. ما شبّهَتْه إلاّ بينبوع ضياء ساطع يُمطر في عينيها المضطربتين. أغمضت عينيها.. ثمّ فتحتهما من جديد. ألْفَتْ أمامها مرآة صغيرة، زاهية اللون الأخضر.. تعكس صورتها. اطمأنّت إلى المرآة الخضراء. ابتسمت هي.. فابتسمت معها الصورة. صورتها هي، خالية من اللوعة والمعاناة. أين هي تغضّنات الوجه ؟1 أين هما العينان الغائرتان ؟! تماماً.. كما كانت قبل أن يحلّ بها المرض، وترقد على سرير المستشفى ببؤس. ها هي ذي مرحة موفورة السعادة في نشاط. ومن فرط حيويّتها ومسرّتها: أطلقت صيحة أُنس، وقفزت في الهواء.
* * *
حتّى محمود.. كان يخفي عنها شيئاً. تقرأ هذا في قلق نظراته. تسأله. فيجيبها إجابة مقتضبة، ويحاول أن يغيّر الموضوع. فراره من الجواب كان يزيد المسألة تعقيداً. وغدا واضحاً لديها أنّ «شيئاً» ما قد حدث. لكن.. ما هو ؟ لا تعلم. تلاحظ أنّها تنحف ويزداد وهنها يوماً بعد يوم. وأدركت أنّ داءً مستعصياً هو ما ابتُليَت به.
الأطبّاء لا يبوحون لها بشيء.. لكنّها كانت تلحظهم يتهامسون مع محمود تهامساً مثيراً للتساؤل. محمود ما كان يخبرها بما تودّ أن تعرفه. كلّما سألته عن مرضها حاول ـ بضحكة مفتعلة ـ أن يخفي همومه، ويقول:
ـ شيء غير مهم، وعكة خفيفة. تشفين منها.. أعاهدك.
والواقع أنّ داءها لم يكن وعكة خفيفة. استنبطت هذا من قدمَيها اللتين فقدَتا القدرة على الحركة. إنّه الشلل! وزوجها ما يزال يسعى لإقناعها بأنّه شيء غير مهمّ. لكنّها لم تُعد تكترث بما يقابلها به محمود من ارتياحٍ ظاهر، ومن ضحكات هي كالقناع.. إنّها واثقة الآن أنّ حياتها قد بلغت آخر يوم من أيّام الربيع.. وها هي ذي تدخل بلا شكّ في صقيع الشتاء. ورقة متيبّسة تكاد تنفصل عن شجرة الحياة، وتهوي ميّتة على الأرض. لقد أيقنت أنّ الموت قادم إليها في الطريق. وسيصل سريعاً.. أسرع ممّا كانت تتصوّر.
* * *
في آخر فحصّ طبيّ.. قرأتْ الحقيقة في نظرات الأطباء. نظراتهم تقطر يأساً ممزوجاً بالأسف. ما قالوا لها شيئاً، لكنّهم اختلَوا بمحمود جانباً:
ـ القضيّة منتهية.. لم نَعُد قادرين على شيء!
أحسّ محمود أن قلبه ينخلع، وتخور قواه. اتّكأ على الحائط، وراح ينزلق رُوَيداً رويداً.. حتّى قعد على الأرض. أمسك رأسه بيديه، وراح يحدّق مطرقاً في نقطة مجهولة. ما نطق بحرف.. بَيْد أنّ داخله كان يحتدم بضجّة هائلة. ثمّ.. بلا مقدّمات: نهض من مكانه ومضى إلى الطبيب:
ـ هل يمكن أن آخذها ؟
ـ إلى أين ؟
ـ أريد أن آخذها إلى مشهد.. إلى الإمام الرضا.
ـ لا يمكن، غير مسموح لها بالحركة.
وجاء ردّ محمود أقرب ما يكون إلى الصيحة:
ـ أنت قطعت الأمل فيها يا دكتور، أنت تعلم أنّها تموت، فاسمحْ لي آخذها إلى مشهد. إذا كان مكتوباً لها أن تموت الآن.. فلتَمُتْ عند ضريح الإمام الرضا.
هزّ الدكتور رأسه بالنفي قائلاً.
ـ أنا مسؤول عن مريضتي، لا أقدر أن أسمح لك.
أمسك محمود بعضد الطبيب، وقال له:
ـ لكن.. يجب أن آخذها. أرجوك يا دكتور.
قال الطبيب بشيء من الانفعال:
ـ جنازة تريد أن تحملها إلى مشهد.. ثمّ ماذا ؟!
رمى محمود نفسه في أحضان الطبيب.. ينتحب. عدّل الطبيب من وضع نظّارته.
قال محمود وهو يبكي:
ـ فاطمة ما تزال شابّة يا دكتور. ليس هذا أوان موتها. آخذها إلى مشهد. أطلب من الإمام أن يساعدها. أدري أن قلبه يحترق على شباب فاطمة. شيء في صدري يقول لي: إنّ شفاء فاطمة في مشهد. إي.. يا دكتور آخذ فاطمة إلى مشهد، لعلّ الله يصنع لها شيئاً.
ثم إنّه انتزع نفسه من أحضان الطبيب، والتقت نظراته الباكية بعينَيه النديّتين.سأل بلطف:
ـ أتسمح يا دكتور ؟
مدّ الطبيب طرف إبهامه تحت عدسة نظّارته يُخفي قطرات دمع. ثمّ هزّ رأسه قائلاً:
ـ حسناً.. خذها. تجد الشفاء بإذن الله.
* * *
كانت مرهقة.. مرهقة كثيراً. ما إن جلست عند الشبّاك الفولاذي في الصحن العتيق.. حتّى جاءها النعاس وأخلدت إلى النوم.
في نومها.. دخلت في عالم الرؤيا: رؤيا المرايا الكثيرة التي كانت تحاصرها وتضيّق عليها الأنفاس. بلغت روحها التراقي. عزمت أن تجأر بصرخة قويّة، فلم تستطع. ضغط شديد على حنجرتها. كادت تختنق. أغمضت عينيها بخوف. ملأ سمعها صوت مهيب. صوت مرايا كثيرة تتكسّر متحطّمة على الأرض. باعَدَتْ بين جفنيها.. فتلألأ في نظراتها نور. انكسر حصار المرايا وتبدّد. وعاينت يداً مُشرَبة بنور غير أرضيّ، وهي تحمل أمامها مرآة خضراء. تطلّعت إلى صورتها في المرآة، وراحت تتقحّص الصورة. لقد اختفت من مُحيّاها أعراض المرض، وكأنها سليمة معافاة. خطر في داخلها خاطر غريب: إنّها تريد أن ترى صاحب هذه اليد العجيبة، وتطبع قبلة امتنان على يده التي تفيض بالنور والبركة.
قامت من مكانها.. واقفة على قدميها اللتين كانتا قبل لحظات عاجزتين.
استغربت حالتها. ونظرت إلى ساقَيها، ومدّت يدها تتلمّسهما، فما وجدت فيهما للألم مِن أثر. ومن فرحتها.. أطلقت صيحة أُنس غامر، وقفزت في الهواء.
هرعت إليها النسوة الحاضرات.. وظهرت فاطمة محمولة على أيديهنّ بسعادة. تطلّع محمود إلى زوجته وهي تغوص بين أمواج الأيدي.. وتعالت من كلّ مكان أصوات الصلاة على محمّد وآل محمّد. خشع قلبه وارتجف. سالت دمعة منه على الخدّ. قعد على ركبتيه، ثمّ هوى على الأرض في سجدة شكر واعتراف بالجميل.
(ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة، من مجلة الزائر ـ العدد 13 آذار 1995)