حقيقة وتكليف
روى الكلينيّ عن الإمام محمّد الباقر عليه السّلام أنّه قال: واللهِ ما ترك اللهُ أرضاً منذ قُبِض آدم عليه السّلام إلاّ وفيها إمامٌ يُهتدى به إلى الله، وهو حُجّتُه على عباده.. ولا تبقى الأرض بغير إمامٍ حجّةٍ لله على عباده (1).
فإذا كانت هذه حقيقة، وقد تسالمت عليها الأحاديث الشريفة عشراتٍ ومئات، فإنّ الضمير الدينيّ يدعونا إلى التعرّف على إمام زماننا، لِنُواليَه ونعرفَ تكاليفَنا تجاهه، ولنترقّبه بعين القلب، وإلاّ انقضت أعمارنا منطويةً على جهل وضلالة؛ فقد روى أحمد بن حنبل في مُسنده: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: مَن مات ولم يعرفْ إمامَ زمانه، مات مِيتةً جاهليّة (2).
والحديث الشريف هنا ـ أيُّها الإخوة ـ يشير إلى حقيقتين مهمّتين:
الأولى: أنّ في كلِّ زمانٍ إماماً يُهتدى به ويُقتدى.
الثانية: أن على الناس جميعاً واجباً عنوانه التعرّف على إمام زمانهم، تعرّفاً ذا بصيرة يعقبه الشعور بالمسؤولية والنهوض بالتكاليف.. وإلاّ مات المرء مِيتةً جاهلية، يختارها بنفسه مع توفّر الفرصة الكافية المتيسّرة للتعرّف على إمام العصر.
علاماتٌ ودلائل
لقد امتدّ الدهر بنا طويلاً عن عصر الرسالة وحياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم امتداداً ناهز أربعةَ عشر قرناً وزاد، فكان علينا تشخيص الهالة المهدويّة المباركة من خلال الروايات المتواترة الصحيحة الشريفة، لنعرف: مَن هو الإمام المهديّ عليه السّلام، وإلى مَن ينتسب ومن أين ينحدر، وعمّن يروي ويرتوي ؟
وأخبار الكتب ـ على اختلاف مشاربها وانتماءاتها ـ قد أغنت عن البحث المجهد الطويل ـ ولله الحمد ـ بما لا تبقى حيرة في باحث عن الحقيقة، ولا شكٌّ في طالبٍ صادق للحقيقة، ولا غبشٌ أمام عينَي مشتاق إلى معرفة الحقيقة.
وهذه شذرات.. غيضٌ مِن فيض، تشير ـ وبوضوح ـ إلى ما يُراد:
• روى السيوطيّ عن الإمام عليّ عليه السّلام قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: المهديُّ منّا أهل البيت (3).
• وأورد المتّقي الهنديّ عن أمّ سلمة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: المهديُّ مِن عترتي.. مِن وُلْد فاطمة (4).
• وكتب ابن حجر في ظلّ الآية الشريفة: وإنّهُ لَعِلْمٌ للساعة (5): قال مقاتل بن سليمان ومَن تبعه من المفسّرين: إنّ هذه الآية نزلت في المهديّ، وستأتي الأحاديثُ المصرِّحة بأنّه من أهل البيت النبويّ؛ وحينئذٍ ففي الآية دلالة على البركة في نسل فاطمة وعليّ رضي الله عنهما، وأنّ الله ليُخرج منهما كثيراً طيّباً، وأن يجعل نسلهما مفاتيح الحكمة، ومعادن الرحمة (6).
• ونقل الجُوَينيّ الحموينيّ عن عبدالله بن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ خلفائي وأوصيائي اثناعشر.. أوّلهم أخي، وآخرهم ولَدي. قيل: يا رسول الله، ومَن أخوك ؟ قال: عليّ بن أبي طالب، قيل: فمَن ولَدُك ؟ قال: المهديّ الذي يملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظُلماً وجوراً (7).
• وروىالمحبّ الطبريّ عن حذيفة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلاً من ولدي، اسمه اسمي. فقال سلمان: مِن أيّ ولْدِك يا رسول الله ؟ قال: من ولَدي هذا ـ وضرب بيده على الحسين عليه السّلام (8).
• ويأتي الشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ برواية عجيبة، يوردها عن الحمويني من كتابه فرائد السمطين بسندٍ ينتهي إلى عبدالله بن عباس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أجاب نعثلاً اليهوديّ الذي أسلم فيما بعد، على سؤاله عن أوصيائه، فقال صلّى الله عليه وآله وسّلم:
ـ إنّ وصيّي عليُّ بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين... فإذا مضى الحسين فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنُه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ فابنُه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنُه الحجّة المهدي.. فهؤلاء اثنا عشر (9).
• ولعلّ الگنجيّ الشافعيّ جاء بما هو أصرح، وأوضح.. حيث روى عن واثلة بن الأصقع بن قرحاب، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: دخل جَندل بن جُنادة بن جُبير اليهوديّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسأل عن أشياء، فأجابه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. ثمّ قال جندل: أخبرني عن أوصيائك من بعدك؛ لأتمسّك بهم. قال: أوصيائي اثنا عشر.
قال جندل: هكذا وجدناهم في التوراة.. سمِّهم لي، قال: أوّلُهم سيّد الأوصياء أبو الأئمّة عليّ، ثمّ ابناه الحسن والحسين، فاستمسكْ بهم ولا يغرّنّك جهل الجاهلين. قال جندل: وجدنا في التوراة وفي كتب الأنبياء إيليا وشُبرّاً وشُبيراً، فهذا اسم عليٍّ والحسن والحسين، فمَن بعد الحسين، وما اسمهم ؟
قال: إذا انقضت مدّة الحسين فابنه عليّ، ويُلقَّب بـ « زين العابدين ». فبعدَه ابنُه محمّد، ويُلقَّب بـ « الباقر ». فبعده ابنه جعفر، يُدعى بـ « الصادق ». فبعده ابنه موسى يُدعى بـ « الكاظم ». فبعده ابنه عليّ يُدعى بـ « الرضا ». فبعده ابنه محمّد يُدعى بـ « التقيّ، والزكيّ ». فبعده ابنه عليّ يُدعى بـ « النقيّ والهادي ». فبعده ابنه الحسن يُدعى بـ « العسكريّ ». فبعده ابنه محمّد يُدعى بـ «المهديّ، والقائم والحجّة».. فيغيب، ثمّ يخرج، فإذا خرج يملأ الأرض قسطاً وعدلا... (10)
براهين نيّرة
لم تنحصر الأخبار حول الإمام المهديّ عليه السّلام في كتب مذهب معيّن من المذاهب الإسلاميّة، وقد ذكرت عشراتُ المصادر هذه الحقيقة المهدويّة الأصيلة بما لا يبقى مجالٌ للتوهّم والتجاهل والتردّد..
منها ـ على سبيل المثال، لا الحصر:
• سنن ابن ماجة ج 2. الفتوحات المكيّة، لابن عربي ج 3. التذكرة في أحول الموتى والآخرة، للحافظ القرطبيّ. الفتن والملاحم، لابن كثير الشافعيّ. البرهان في علامات صاحب الزمان، للمتّقي الهنديّ. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لابن حجر الهيثميّ ج 7. عُرف الورديّ في أخبار المهديّ، للسيوطيّ الشافعيّ. اليواقيت والجواهر، لعبد الوهّاب الشعرانيّ ج 2. الإشاعة في أشراط الساعة، للبرزنجيّ. نور الأبصار، للشبلنجيّ. إسعاف الراغبين، لابن الصبّان الشافعيّ. إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون، لأحمد بن محمّد الصدّيق. فتح المنّان، للمنينيّ الحنفيّ. القول المختصر في علامات المهديّ المنتظر، لابن حجر. صحيح البخاريّ 178:2.. وغيرها عشرات، نقلت عن مئاتٍ من الرواة، منهم:
• أبو أيّوب الأنصاريّ، أبو ذرّ الغفاريّ، أبو سعيد الخُدريّ، أبو هريرة، عائشة بنت أبي بكر، أمّ سلمة، ابن عبّاس، سلمان الفارسيّ، جابر الأنصاريّ، أنس بن مالك، عبدالله بن عمر، عمر بن الخطّاب، مُعاذ بن جبل، عبدالله بن مسعود، عبدالرحمن بن عوف، عثمان بن عفّان، عمّار بن ياسر.. إضافة إلى أهل البيت النبويّ المكرّم: عليّ بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين صلوات الله عليهم. هذا فضلاً عن عشرات الصحابة وعشرات التابعين.
الأمل المنشود
إنّ من طبيعة المرء أن ينصرف همُّه إلى آماله، ويجري على لسانه وفي قلبه ما يتوقّع من البشارات الطيّبة، والإمام المهديّ المنتظَر سلام الله عليه قد عُقدت آمال الأُمم، بل وآمال الأنبياء عليهم السّلام على حياته ومَقْدمه المبارك وطلعته الغرّاء وإقدامه الشريف لله تبارك وتعالى.
وقد فتّق النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم آفاق الأمل والرجاء بالتبشير بـ « مبعثه »، هكذا لسان الروايات، حتّى نقل الجوينيّ عن أبي سعيد الخُدريّ قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
ـ أُبشِّرُكم بالمهديّ، يُبعَث في أُمّتي على اختلافٍ من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسّم المال صحاحاً. فقال رجل: و ما صحاحاً ؟ قال: بالسويّة بين الناس... (11)
وكأنّ بمبعثه الشريف تتجدّد بعثه الرسُل الكرام عليهم الصلاة والسّلام، ويظهر الحقّ على الباطل، وتتحقّق إرادة الباري عزّوجلّ وقد وعد: هو الذي أرسلَ رسولَه بالهُدى ودينِ الحقِّ لِيُظهِرَه على الدِّينِ كلِّهِ ولو كرِه المشركون (12)، ولم يَظهر دينُ الحقّ على الدين كلّه بعد، ولابدّ أن يتحقّق ذلك ولو بعد أزمان. قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في ظلّ الآية الشريفة: واللهِ ما نزلَ تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم عليه السّلام، فإذا خرج القائم عليه السّلام لم يبق كافر بالله العظيم ولا مشرك بالإمام إلاّ كرِه خروجه، حتّى أنْ لو كان كافراً أو مشركاً في بطن صخرة لقالت: يا مؤمن، في بطني كافر، فاكسرْني واقتله (13).
• وبعد الخبر 594 في فرائد السمطَين يروى الجوينيّ عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام هذه الأبيات:
إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ وضاقَ بما به الصدرُ الرَّحيبُ
وأوطنتِ المكـارهُ واطمأنّـتْ وأرستْ في أماكنها الخُطـوبُ
ولم يُرَ لآنكشافِ الضُّرّ وجـهٌ ولا أغنـى بحيلتـهِ الأريـبُ
أتاك على قنوطٍ منـه غَـوثٌ يجيء به القريبُ المستجـيبُ
وكلُّ الحادثـات إذا تـناهـتْ فمَوصولٌ به الفَرَجُ القريـبُ
• ويأتي أحمد بن عليّ المنينيّ الحنفيّ بقصيدة ثمّ يعقبها بشرحها في كتابه؛ فتح المنّان في شرح الفوز والأمان والأبيات منها قول أحد الشعراء:
سرى البَرقُ مِن نَجْدٍ فجدّد تَذكاري عهوداً بحَزوى والعذيبِ وذي قـارِ
وهيّجَ مِـن أشـواقِنا كـلَّ كامـنٍ وأجّجَ في أحشائنـا لاهـبَ النـارِ
فياجِيـرةً بـالحازميـن خيـامُهم عليكم سلام الله من نـازحِ الـدارِ
خليلَـيَّ مالـي والزمـانِ كأنّمـا يطـالبـنـي فـي كـلِّ آنٍ بآثـارِ
فأبعدَ أحبابي، وأخـلى مَـرابـعي وأبدَلني مِـن كـلِّ صَـفْوٍ بأكـدارِ
• إلى أن يتخلّص الشاعر إلى موضوع الإمام المهديّ عليه السّلام فيقول:
ومعضـلـةٍ دَهْمـاءَ لا يُهتـدى لـهـا طريقٌ.. ولا يُهدى إلى ضوئها السـاري
تَشيبُ النواصي دون حـلِّ رمـوزِهـا ويُحجِمُ عـن أغوارهـا كـلُّ مِغْـوارِ
أجَلْتُ جيـادَ الفـكر فـي حَـلَباتِـهـا ووجّهـتُ تِلقـاها صوائـبَ أنظـاري
فأبرزتُ من مستـورها كـلَّ غامـضٍ وثـقّفـتُ منـها كـلَّ أصـورَ مَـوّارِ
أأضرع للبلوى وأُغضي علـى القَـذى وأرضى بما يرضى به كلُّ مِخْـوار ؟!
وأفـرحُ مِن دهـري بـلـذّةِ سـاعـةٍ وأقنعُ من عيشي بقُرصٍ وأطـمـارِ ؟!
إذن لا ورى زندي ولا عـزّ جـانبـي ولا بزغتْ في قمّة المجـدِ أقـمـاري
ولا بُلَّ كـفّي بالـسمـاح ولا سـرَتْ بطِيـب أحاديـثي الرِّكـابُ وأخبـاري
ولا انتشرت في الخافقَيـن فضـائـلي ولا كان في « المهديِّ » رائقُ أشعاري
خـليفة ربِّ الـعـالـمـيـن وظـلُّـه على ساكـن الغبـراء مِـن كـلِّ دَيّـارِ
هو العُروة الوثقى الـذي مَـن بهَـدْيـهِ تمـسّـكَ لا يَخـشـى عظـائـمَ أوزارِ
إمـامُ هُــدىً لاذَ الـزمـانُ بـظِـلِّهِ وألقـى إلـيـه الـدهـرُ مِقْـوَدَ خـوّارِ
علومُ الورى في جَنْـب أبحُـرِ عـلمـهِ كغُرفةِ كـفٍّ.. أو كـغمـسةِ مـنـقـارِ
فلـو زار إفـلاطـونُ أعـتـابَ قُـدسهِ ولـم يَغْشُـه عـنـها سـواطـعُ أنـوارِ
رأى حـكـمـةً قدسيّـةً لا يَـشوبُـهـا شـوائـبُ أنـظـارٍ وأدنـاسُ أفـكـارِ
بإشراقـهـا كـلُّ العـوالِـمِ أشـرقـتْ لِما لاحَ في الكونَينِ مِن نورها السـاري
إمامُ الورى، طَودُ النُّهى، مَنبعُ الـهـدى وصـاحبُ سـرِّ الله فـي هـذه الـدارِ
به العـالَمُ السُّفْـليُّ يسمـو ويـعتـلـي على العالَم العُلْـويّ مِـن دون إنـكـارِ
أيا حُجّـةَ الله الـذي لـيـس جـاريـاً بغيـر الـذي يرضـاهُ سـابـقُ أقـدارِ
ويا مَـن مـقـاليـدُ الزّمـانِ بـكـفِّـهِ وناهيـك مِن مجدٍ بـه خصّـه البـاري
أغِثْ حوزةَ الإيمان وآعمـرْ ربـوعَـه فـلم يبـقَ منـهـا غيـرُ دارسِ آثـارِ
وأنقِـذْ كتـابَ الله مِـن يـدِ عُـصبـةٍ عصَوا وتمـادَوا فـي عُتُـوٍّ وإضـرارِ
وأنعِـشْ قلوباً في انتظـارك قُـرِّحـتْ وأضجَرَهـا الأعـداءُ أيّـةَ إضـجـارِ
وخلِّصْ عبـادَ الله مِـن كـلِّ غـاشـمٍ وطـهِّرْ بـلادَ الله مِـن كـلّ كَـفّـارِ
وعجِّلْ.. فِداك العالَمـون بـأسْـرِهـا وبادرْ على اسم الله مِن غيـرِ إنـظـارِ
تجـدْ مِن جنـود الله خـيـرَ كتائـبٍ وأكـرمَ أعـوانٍ، وأشـرفَ أنـصـارِ