{ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ * }
بيان
قيل: انقطع الوحي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أياما حتى قالوا: إن ربه ودعه فنزلت السورة فطيب الله بها نفسه، و السورة تحتمل المكية و المدنية.
قوله تعالى: «و الضحى و الليل إذا سجى» إقسام، و الضحى - على ما في المفردات، - انبساط الشمس و امتداد النهار و سمي الوقت به، و سجو الليل سكونه و هو غشيان ظلمته.
قوله تعالى: «ما ودعك ربك و ما قلى» التوديع الترك، و القلى بكسر القاف البغض أو شدته، و الآية جواب القسم، و مناسبة نور النهار و ظلمة الليل لنزول الوحي و انقطاعه ظاهرة.
قوله تعالى: «و للآخرة خير لك من الأولى» في معنى الترقي بالنسبة إلى ما تفيده الآية السابقة من كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما هو عليه من موقف الكرامة و العناية الإلهية كأنه قيل: أنت على ما كنت عليه من الفضل و الرحمة ما دمت حيا في الدنيا و حياتك الآخرة خير لك من حياتك الدنيا.
قوله تعالى: «و لسوف يعطيك ربك فترضى» تقرير و تثبيت لقوله: «و للآخرة خير لك من الأولى» و قد اشتمل الوعد على عطاء مطلق يتبعه رضي مطلق.
و قيل: الآية ناظرة إلى الحياتين جميعا دون الحياة الآخرة فقط.
قوله تعالى: «أ لم يجدك يتيما فآوى» الآية و ما يتلوها من الآيتين إشارة إلى بعض نعمه تعالى العظام عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد مات أبوه و هو في بطن أمه ثم ماتت أمه و هو ابن سنتين ثم مات جده الكفيل له و هو ابن ثمان سنين فكفله عمه و رباه.
و قيل: المراد باليتيم الوحيد الذي لا نظير له في الناس كما يقال: در يتيم، و المعنى أ لم يجدك وحيدا بين الناس فآوى الناس إليك و جمعهم حولك.
قوله تعالى: «و وجدك ضالا فهدى» المراد بالضلال عدم الهداية و المراد بكونه (صلى الله عليه وآله وسلم) ضالا حالة في نفسه مع قطع النظر عن هدايته تعالى فلا هدى له (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا لأحد من الخلق إلا بالله سبحانه فقد كانت نفسه في نفسها ضالة و إن كانت الهداية الإلهية ملازمة لها منذ وجدت فالآية في معنى قوله تعالى: «ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان» الشورى 52
و من هذا الباب قول موسى على ما حكى الله عنه: «فعلتها إذا و أنا من الضالين» الشعراء 20 أي لم أهتد بهدى الرسالة بعد.
و يقرب منه ما قيل: إن المراد بالضلال الذهاب من العلم كما في قوله:
(أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) البقرة: 282
و يؤيده قوله: «و إن كنت من قبله لمن الغافلين» يوسف 3
و قيل المعنى وجدك ضالا بين الناس لا يعرفون حقك فهداهم إليك و دلهم عليك.
و قيل: إنه إشارة إلى ضلاله في طريق مكة حينما كانت تجيء به حليمة بنت أبي ذؤيب من البدو إلى جده عبد المطلب على ما روي.
و قيل: إشارة إلى ما روي من ضلاله في شعاب مكة صغيرا.
و قيل: إشارة إلى ما روي من ضلاله في مسيره إلى الشام مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة.
و قيل: غير ذلك و هي وجوه ضعيفة ظاهرة الضعف.
قوله تعالى: «و وجدك عائلا فأغنى» العائل الفقير الذي لا مال له و قد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيرا لا مال له فأغناه الله بعد ما تزوج بخديجة بنت خويلد (عليه السلام) فوهبت له مالها و كان لها مال كثير، و قيل المراد بالإغناء استجابة دعوته.
قوله تعالى: «فأما اليتيم فلا تقهر» قال الراغب: القهر الغلبة و التذليل معا و يستعمل في كل واحد منهما، انتهى.
قوله تعالى: «و أما السائل فلا تنهر» النهر هو الزجر و الرد بغلظة.
قوله تعالى: «و أما بنعمة ربك فحدث» التحديث بالنعمة ذكرها قولا و إظهارها فعلا و ذلك شكرها، و هذه الأوامر عامة للناس و إن كانت موجهة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و الآيات الثلاث متفرعة على الآيات الثلاث التي تسبقها و تذكر نعمه تعالى عليه كأنه قيل: فقد وجدت ما يجده اليتيم من ذلة اليتيم و انكساره فلا تقهر اليتيم باستذلاله في نفسه أو ماله، و وجدت مرارة حاجة الضال إلى الهدى و العائل إلى الغنى فلا تزجر سائلا يسألك رفع حاجته إلى هدى أو معاش، و وجدت أن ما عندك نعمة أنعمها عليك ربك بجوده و كرمه و رحمته فاشكر نعمته بالتحديث بها و لا تسترها.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و الضحى» قال: إذا ارتفعت الشمس «و الليل إذا سجى» قال: إذا أظلم.
و فيه،: في قوله تعالى «و ما قلى» قال: لم يبغضك.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و لسوف يعطيك ربك فترضى»: أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا «و لسوف يعطيك ربك فترضى».
و فيه، أخرج العسكري في المواعظ و ابن لآل و ابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على فاطمة و هي تطحن بالرحى و عليها كساء من حلة الإبل فلما نظر إليها قال: يا فاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا فأنزل الله «و لسوف يعطيك ربك فترضى».
أقول: تحتمل الرواية نزول الآية وحدها بعد نزول بقية آيات السورة قبلها ثم الإلحاق و تحتمل نزولها وحدها ثانيا.
و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: أ رأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أ حق هي؟ قال: إي و الله حدثني عمي محمد بن الحنفية عن علي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أشفع لأمتي حتى يناديني ربي: أ رضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت. ثم أقبل علي فقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق، إن أرجى آية في كتاب الله: «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا» قلت: إنا لنقول ذلك، قال: فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله «و لسوف يعطيك ربك فترضى» الشفاعة.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن ابن الجهم عن الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون قال: قال الله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «أ لم يجدك يتيما فآوى» يقول: أ لم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس؟ «و وجدك ضالا» يعني عند قومك «فهدى» أي هداهم إلى معرفتك؟ «و وجدك عائلا فأغنى» يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا؟ فقال المأمون: بارك الله فيك يا ابن رسول الله.
و فيه، عن البرقي بإسناده عن عمرو بن أبي نصر قال: حدثني رجل من أهل البصرة قال: رأيت الحسين بن علي (عليهما السلام) و عبد الله بن عمر يطوفان بالبيت فسألت ابن عمر فقلت: قول الله تعالى: «و أما بنعمة ربك فحدث» قال: أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه. ثم إني قلت للحسين بن علي (عليهما السلام): قول الله تعالى: «و أما بنعمة ربك فحدث»
قال: أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه من دينه.
و في الدر المنثور، عن البيهقي عن الحسن بن علي في قوله: «و أما بنعمة ربك فحدث» قال: إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك.
و فيه، أخرج أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أبلى بلاء فذكره فقد شكره و من كتمه فقد كفره، و من تحلى بما لم يعط فإنه كلابس ثوب زور.
تفسير الميزان