«إذا أردتَ أن تعلمَ مَن غَلَب،
ودخل وقتُ الصلاة، فَأَذِّنْ ثمّ أَقِم».
الإمام السجّاد عليه السلام
تستقبل الأمّة كلّ عامٍ هجريٍّ بالتوكيد على ثلاث أولويات:
1- أنّ «الهجرة باقيةٌ إلى يوم القيامة».
2- واجبُ الوفاء للإمام الحسين السبط الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَين».
3- واجبُ الوفاء للإمام السجّاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، الذي ادّخَره اللهُ تعالى فأنجاه من ثلاث محاولات للقتل - كان أخطرها في الشام - ليَقود سفينة النجاة الحسينيّة أي المحمّديّة،
ويُخرِج الأمّة – بأجيالها – من ظُلمات «المُلك العَضوض» وغَياهب تفرعُن «الشّجرة المَلعونة في القرآن» التي حذّر النبيُّ الأعظم صلّى الله عليه وآله من أنّ عُتاتها سَينزون على منبره
«نَزْوَ القِرَدة».
وتستقبل الأمّة في كلّ عام مع إطلالة العام الهجريّ وطيلة شهرَي محرّم وصفر، ذكرى ما سُمِّي بـ
«موكب السبايا»!
مشهدٌ يُلِحّ على الأحشاء بالزَّفَرات.
تتوالى من الأجيال التساؤلات:
لمَن الرؤوسُ على الرماح؟
أحقّاً إنّها رأسُ «الحسين» وابنه وأخيه والعديد من أهل بيته وأنصاره؟
وهذه النسوة والحُرَم.. مَن هنّ؟
أحقّاً إنّهن حُرَمُ رسول الله صلّى الله عليه وآله؟!! وبينهنّ «زينب» بنت عليّ والزهراء....
وما أدراك ما عليٌّ وما الزهراء..
وما أدراك ما زينب، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾؟
ومَن هذا الفتى يَرْسُفُ في الأغلال الأمويّة؟
أحقّاً هو «السجّاد»حفيد النبيّ وابن الحسين. جدّه عليٌّ والزهراء جدّته؟!!
و«جامعةُ الحديد» في عُنقه، والحبلُ ممدودٌ من عُنقه إلى كَتِف عمّته زينب!!
«أَفَعَجِبْتُم أَنْ مَطَرَتِ السّمَاءُ دَمَاً»!!
ترقبُ المشهدَ الأجيال. الموكبُ النبويّ من بلدٍ إلى بلد. على مشارف المدينة المنوّرة حطَّ الرحال!
لماذا على المَشارف؟
تقضي خطّةُ الإمام السجّاد باستنفار أهل المدينة لاستقبال موكب النبيّ، تماماً كما خرجت المدينةُ عن بكرة أبيها تستقبلُه صلّى الله عليه وآله عند الهجرة.
هذا التخطيط تأسيسيٌّ لمستقبل قيامه عليه السلام بأعباء الإمامة.
كان والي المدينة «عمرو بن سعيد الأَشْدَق» من عُتاة بني أميّة.
وكانت استجابةُ الناس أشبهَ بالمعجزة. وقد تحقّقت.
يرتبط بقاءُ التوحيد - بإذن الله تعالى - بهذه الخطّة «النبويّة».
وفي خطبة الإمام السجّاد عليه السلام في الجموع الحاشدة التي هبّتْ لاستقباله ما يُغني عن كلّ دليل.
قال ابن نُما - وغيره: «فلمّا وصلَ زينُ العابدين عليه السلام إلى المدينة نزلَ وضربَ فسطاطَه، وأنزل نساءَه، وأرسلَ بشير بن حذلم لإشعار أهل المدينة بإيابه مع أهلِه وأصحابه، فدخلَ وقال:
يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُم بِهَا ـــ قُتِلَ الحُسَيْنُ فَأَدْمُعِي مِدْرَارُ
الجِسْمُ مِنْهُ بِكَرْبَلاءَ مُضَرَّجٌ ـــ وَالرَّأْسُ مِنْهُ عَلَى القَنَاةِ تُدَارُ
ثمّ قال: هذا عليُّ بن الحسين عليهما السلام قد نزل بساحتكم وحلَّ بعَقْوَتِكُم، وأنا رسولُه أُعرّفكم مكانَه.
فلم يبقَ في المدينة مخدَّرةٌ ولا محجَّبةٌ، إلا برزتْ وهنّ بين باكيةٍ ونائحةٍ ولاطمة، فلم يُرَ يومٌ أمرَّ على أهل المدينة منه.
وخرج الناس إلى لقائه وأخذوا المواضعَ والطُّرُق.
قال بشير: فعدتُ إلى باب الفسطاط وإذا هو قد خرجَ وبيده خُرقةٌ يمسحُ بها دموعَه، وخادمٌ معه كُرسيّ، فوضعَه وجلس وهو مغلوبٌ على لَوعته، فعزّاه الناس فأومى إليهم أن اسكُتوا فسكنتْ فَورتُهم. فقال:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بَارِئِ الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي بَعُدَ فَارْتَفَعَ فِي السَّمَاواتِ العُلَى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوَى، نَحْمَدُهُ عَلَى عَظَائِمِ الأُمُورِ، وَفَجَائِعِ الدُّهُورِ، وَجَلِيلِ الرُّزْءِ، وَعَظِيمِ المَصَائِب.
أيُّهَا القَوْمُ إنَّ اللهَ وَلَهُ الحَمْدُ ابْتَلَانَا بِمُصِيبَةٍ جَلِيلَةٍ، وَثُلْمَةٍ فِي الإِسْلَام عَظِيمة. قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ وَعِتْرَتُهُ وسُبِيَ نِسَاؤُهُ وصِبْيَتُهُ، وَدَارُوا بِرَأْسِهِ فِي البُلْدَانِ مِنْ فَوْقِ عَالِي السِّنَان.
إِيهاً، فَأَيُّ رِجَالاتٍ مِنْكُمْ يُسَرُّونَ بَعْدَ قَتْلِهِ، أَمْ أَيُّ عَيْنٍ تَحْبِسُ دَمْعَهَا، وَتَضِنُّ عَنِ انْهِمَالِهَا، فَلَقَدْ بَكَتِ السَّبْعُ الشِّدادُ لِقَتْلِهِ وَبَكَتِ البِحَارُ والسَّمَاواتُ والأَرْضُ وَالأَشْجَارُ والحِيتَانُ والمَلَائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَأَهْلُ السَّمَاواتِ أَجْمَعُون.
أيُّهَا النَّاسُ. أَيُّ قَلْبٍ لَا يَنْصَدِعُ لِقَتْلِهِ، أَمْ أَيُّ فُؤادٍ لَا يَحِنُّ إِلَيْهِ، أَمْ أَيُّ سَمْعٍ يَسْمَعُ هَذِهِ الثُّلْمَة الَتِي ثُلِمَتْ فِي الإسْلامِ (وَلَا يُصَمّ).
أَيُّهَا النَّاسُ. أَصْبَحْنَا مَطْرُودِينَ مُشَرَّدِينَ مَذُودِينَ شَاسِعِينَ (عَنِ الأَمْصَارِ) كَأَنَّا أَوْلَادُ تُرْكٍ أَوْ كَابُل مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ اجْتَرَمْنَاهُ، وَلَا مَكْرُوهٍ ارْتَكَبْنَاهُ، (وَلَا ثُلمةٍ في الإِسْلَامِ ثَلمْناها) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ، إنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ
والله لَوْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِم فِي قِتَالِنَا كَمَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِي الوصَاةِ بِنَا، لَمَا زَادُوا عَلَى مَا فَعَلُوهُ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون (مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَعْظَمهَا، وَأَوْجَعهَا وَأَفْجَعهَا، وَأَكَظَّهَا، وَأَفَظَّهَا، وأَمَرَّهَا، وَأَفْدَحَهَا؟ فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُ فِي مَا أَصَابَنَا وَمَا بَلَغَ بِنَا، إِنَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).
ثمّ دخلَ زينُ العابدين عليه السلام وجماعتُه دارَ الرسول».
إنّه دخولُ الفاتحين. مَن قال بأنّ يزيد قد انتصر؟!!!
وهل ينتصرُ السيفُ على دَم الحسين السبط. وهو سرُّ جدِّه والروح، وقد
﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
المجادلة:21.
بمنطق الوحي المنتَصِر واجه الإمامُ السجّاد مَن سأله – شامتاً: من غَلَب؟
أورد الشيخ الطوسيّ في (الأمالي، ص677):
«عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال: لَمّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيهِمَا السَّلَامُ وَقَدْ قُتِلَ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِما اسْتَقْبَلَهُ إبْراهِيمُ بْنُ طَلْحَةَ بنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَقَالَ: يَا عَلِيّ بْنَ الحُسَيْن، مَنْ غَلَب؟ ".."
فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْن: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَنْ غَلَبَ، وَدَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَأَذِّنْ ثُمّ أَقِمْ».
أذانُ الصلاة وإقامتُها، دليلُ بقاء دعوةِ التوحيد، واستمرار النبوّة، ولهذا خرجَ الحسينُ عليه السلام
﴿..وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
يوسف:21.
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ الروم:7.
بهذا المنطق النافذ إلى الحقائق أسّس الإمامُ السجّاد عليه السلام للقضاء على كلّ إمبراطوريات الظلام لينتشرَ نور العلم والهدى والحقّ واليقين.
للإمام السجّاد عليه السلام حقٌّ في عُنُق كلِّ مسلم.
كلُّ إنسانٍ مَدينٌ للإمام السجّاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.
_______________________
الشيخ حسين كوراني